في ظل الأزمات المتتابعة التي شهدها لبنان خلال الآونة الأخيرة، وما زال منزلقا فيها، يأتي الفراغ الرئاسي الرابع منذ استقلال لبنان عام 1943، عقب انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال عون ليزيد الوضع سوءا والمشهد تعقيدا، خصوصا مع توقيع الأخير استقالة الحكومة اللبنانية يوم مغادرته القصر الرئاسي، وعدم وجود مبشرات لحلول قريبة.

خلال الشهرين الفائتين، أخفق نواب البرلمان 4 مرات في انتخاب خلف لعون، في حين لم يتم التوافق على تشكيل حكومة جديدة، رغم أن عون طلب تشكيل الحكومة أكثر من مرة من قبل رئيسها نجيب ميقاتي، إلا أنه رفض كافة التشكيلات المقدمة من قبل الأخير، ما دفع الحكومة إلى تقديم استقالتها.

اقرأ أيضا: الفراغ السياسي في لبنان.. كرسي الرئاسة “شاغر” حتى إشعار آخر؟

 لم يوقع ميشال عون على طلب الاستقالة إلى يوم مغادرته القصر الرئاسي، علما أن حكومة ميقاتي عادت إلى عملها فيما بعد بموجب تكليف من مجلس النواب الذي انتخبه بالأغلبية. لذلك يشير مراقبون إلى أن الحكومة اللبنانية الحالية، لديها الصلاحية للقيام بتصريف أعمال البلاد، وأن “توقيع استقالة الحكومة من قبل الرئيس السابق هي محاولة لخلط الأوراق”.

 رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، أعلن رفضه للمرسوم الذي وقعه الرئيس المنتهية ولايته ميشال عون، بقبول استقالة الحكومة، وأكد على متابعة الحكومة القيام بواجباتها الدستورية كافة، من بينها تصريف الأعمال، وفق نصوص الدستور والأنظمة التي ترعى عملها، وفق قوله.

من وراء الشغور الرئاسي؟

في الوقت الذي تثار فيه تساؤلات عمّ إذا كان الرئيس السابق ميشال عون قد تعمّد إيصال لبنان إلى هذه الحالة من الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية والحكومة، يرى الكاتب والصحفي اللبناني منير الربيع، أن الفراغ هو مشروع حزب “التيار الحر” والفريق التابع للرئيس السابق ميشال عون، “لأنه يراهن على الذهاب إلى نوع من الفوضى الدستورية وعدم اكتمال عقد المؤسسات، لفرض تسوية سياسية يعود فيها جبران باسيل قادرا على السيطرة أو الدخول بقوة إلى المجال السياسي”.

وعمّن يتحمل مسؤولية الوضع الحاصل في لبنان، يقول الربيع لـ “الحل نت”، إن القوى السياسية بأكملها تتحمل المسؤولية، بسبب رفع شعارات التحدي ورفض الدخول في مسار توافقي، لإنتاج تسوية تؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة.

المحامي وأستاذ القانون الدولي الدكتور طارق شندب، اعتبر خلال حديثه لـ”الحل نت”، بأن الفراغ الرئاسي الحالي لا يعني أن هناك فراغا دستوريا، فمواد الدستور مثل المادة 65 وغيرها، تنص على أن من يقوم ويتحمل مهام رئاسة الجمهورية، هو مجلس الوزراء في حال وفاة الرئيس أو عزله أو انتهاء ولايته أو استقالته، وهذا ينطبق على حكومة نجيب ميقاتي.

الشغور الرئاسي نتج عن تعنت “حزب الله” وفريقه السياسي، وابتزاز اللبنانيين بتقديم خيارين، إما الفراغ الرئاسي، أو تعيين رئيس جديد على غرار الرئيس السابق ميشال عون، ليكون أداة إيرانية في قصر بعبدا، ويحول الحكم أو يأخذ من خلال رئاسته للبنان البلد إلى المحور الإيراني، بحسب حديث الصحفي اللبناني طوني بولس، لـ”الحل نت”.

تأكيدا على تحمّل “حزب الله” مسؤولية ما حدث، أشار بولس، إلى إمكانية ملاحظة أن في كل جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، كان فريق “حزب الله” يخرج من الجلسة ما يجعل المجلس يفقد النصاب، وبالتالي يمنع انتخاب رئيس جمهورية جديد.

لولا “حزب الله” لكانت عملية الانتخابات عملية تلقائية، بحسب بولس، وكان هناك رئيس في السلطة حاليا، وما وصل البلاد لحالة الفراغ هذه، مشددا “سبب الفراغ هو العامل الإيراني الذي يرفض أي تسوية أو انتخابات وفق المعايير الدستورية، ويجعل مسألة الانتخاب الرئاسي حكرا على الميليشيا الإيرانية”.

الفراغ في منصب رئاسة الجمهورية يعني أنه لم يتم الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، بحسب شندب، وهكذا بحكم الدستور تنتقل الصلاحيات إلى الحكومة اللبنانية هي التي تدير مهام رئيس الحكومة.

رئاسة الحكومة هي حكومة تصريف أعمال وليست حكومة أساسية، ولكن هي في نص الدستور من يتحمل عبء إدارة صلاحيات رئيس الجمهورية، علما أنها لا تستطيع القيام بكافة صلاحيات الحكومة ولا صلاحيات الرئيس، وفق شندب، لأنها حكومة تصريف أعمال، وإنما تقوم بتسيير الأمور الخاصة بشؤون المرافق العامة وشؤون الناس، دون أن يكون لها حق اتخاذ أي قرارات مصيرية أو أي قرارات أساسية تتطلب اجتماع لمجلس الوزراء.

تبعات “الفوضى الدستورية”

فيما يبدو أن “الفوضى الدستورية” التي حذّر منها ميشال عون في تصريحات سابقة له قد وقعت فعلا، لكن يشير مراقبون إلى أن عون نفسه هو من أودى بلبنان إلى ذلك، وربما من الممكن اعتبار تحذيره السابق هو تهديد نفذه بالفعل قبل أن يغادر منصبه.

عمليا وبظل شغور موقع رئاسة الجمهورية، استبعد بولس، أن يعيش لبنان فراغا دستوريا، لأن الصلاحيات تنتقل تلقائيا إلى الحكومة ومجلس الوزراء، وتستطيع الحكومة سواء كانت تصريف أعمال أو مكتملة المواصفات، الاستمرار بالأعمال لحين انتخاب رئيس جديد للبلاد ويعود المجلس لاستلام صلاحياته الأساسية، ما يعني استبعاد حدوث تعطيل بعمل المؤسسات، لأنها تعمل بآلية ملء الشغور وانتقال الصلاحيات من مؤسسة لأخرى.

 

المحامي شندب علق على الموضوع، بأن عون وفريقه حاولوا أن يحدثوا حالة من الفوضى السياسية في محاولة لخلط الأوراق، وفرض أمر واقع كما يريد هو، ومثلما فعل عام 1989 عندما انقلب على الدولة والشرعية، لكن هذه المرة الأمور مختلفة جدا وهناك دستور واضح وقوانين لا تقبل أي تأويل.

 منذ الانتخابات النيابية في أيار الماضي، وبموجب القانون تعتبر الحكومة مستقيلة، وفق شندب، وقد تمت عملية استشارات نيابية، وعليه، جرى تكليف ميقاتي الذي حصل على أغلبية أصوات النواب، وهذا ما يؤكد أن عون أراد أن يخلق فوضى سياسية، وفي سياق حديثه عن تبعات حالة الفوضى التي يعيشها لبنان، قال شندب، إن “الوضع العام في لبنان سيء جدا جدا، بما فيه الوضع السياسي والانقسام الذي عاد من جديد مع مرحلة انتخاب رئيس جمهورية حاليا، كما أن الوضع الاقتصادي في تدهور، والعملة اللبنانية بانهيار”.

الصحفي منير الربيع، يرى أن نتائج الفوضى الحاصلة ستنعكس سلبا على مختلف القطاعات في لبنان، أولا في سياق السياسة، حيث ستؤدي إلى مزيد من الترهل والانهيار في مؤسسات الدولة، وهذا سيجرّ انعكاسات سلبية على الوضع الاقتصادي.

الانقلاب على اتفاق الطائف

إسهابا بتفاصيل المجريات التي أوصلت لبنان إلى حالة الشغور الرئاسي والفراغ على مستوى الحكومة، والذي يجتمعان لأول مرة بتاريخ لبنان منذ استقلاله، يقول الصحفي طوني بولس، إن حزب “التيار الحر” و”حزب الله” يرفضان الاعتراف بالحكومة الحالية كسلطة تنفيذية، وبالتالي هم يدفعون باتجاه فوضى دستورية، وهدف هذه الفوضى الدستورية، شلّ كل المؤسسات، والذهاب باتجاه نظام سياسي جديد، يناسب إيران في لبنان، ويريد الحزبان الانقلاب على “اتفاق الطائف” الذي أرسى السلم الأهلي، ويعتبرون أن مرجعيته السعودية، وبالتالي ينتظرون اللحظة لينقضوا عليه، وفق تعبيره.

الآن ومن خلال الفراغ أو الشغور في كل المؤسسات وعدم الاعتراف بالحكومة يدفعون بالتمرد على قرارات الحكومة، واعتبار أنه لا يوجد سلطة شرعية، وهذا يخلق فوضى دستورية تمهد عمليا، بحسب بولس، لانعقاد مؤتمر تأسيسي جديد في لبنان، والإطاحة بـ “اتفاق الطائف”.

وعن دافع “حزب الله” بتعطيل المسارات السياسية، عدّ بولس تصرفات الحزب استغلالا للفرصة، حيث يعتبر الحزب نفسه حقق انتصارات وقوة عسكرية في لبنان، وأعطى الحق لنفسه لفرض قوة اقتصادية يترجمها من خلال قوة سياسية، عبر تعديل الدستور تعديلات تضمن سيطرته وهيمنته على الدولة، وبقاء لبنان بالمحور الإيراني، إضافة إلى خلق توازنات جديدة بصالحه، مثل فرض سيطرته على الجيش، وعلى المصرف المركزي، وباقي المؤسسات الأساسية.

“اتفاق الطائف” لعام 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاما، يعتبر قد كرّس معادلة اقتسام السلطة والمناصب الرئيسية وفقا للانتماءات الدينية والطائفية، بحيث يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا، ورئيس البرلمان شيعيا، ورئيس الحكومة سُنيا.

مشهد معقد

السياسات الطائفية المنقسمة في لبنان، وحالة الفوضى والكيديات السياسية في البلاد، تشي بصعوبة انتخاب رئيس جديد للدولة في الأيام المقبلة، إضافة إلى تشكيل حكومة جديدة.

 إذ يقوم مجلس النواب بانتخاب الرئيس في اقتراع سري في البرلمان المؤلف من 128 عضوا، ويتم تقسيم المقاعد بالتساوي بين الطوائف الإسلامية والمسيحية.

البرلمان يتألف من 128 نائبا، تتوزع مقاعده بواقع، 28 للسنة و28 للشيعة و8 للدروز و34 للموارنة و14 للأرثوذكس و8 للكاثوليك و5 للأرمن ومقعدين للعلويين ومقعد واحد للأقليات داخل الطائفة المسيحية، كل هذه التفاصيل جعلت من عملية انتخاب رئيس للبلاد أمرا صعبا بظل الوضع الحالي والقوى المسيطرة، ويحتّم الحد اللازم لتأمين النصاب القانوني للانتخاب والفوز، عدم فرض خيار فريق أو تحالف بمفرده، ما يعني الذهاب إلى مقايضة الأصوات بمزايا سياسية أخرى.

أما بالنسبة لتشكيل الحكومة، فتقسم الأحزاب حصصها من الوزارات على أساس النفوذ والطائفة وحجم الكتلة البرلمانية والمناصب المحتملة التي يمكن أن تشغلها في أماكن أخرى من الدولة، ويعتبر البعض أن انتخاب الرئيس السابق ميشال عون كرئيس للجمهورية عام 2016 جاء بفضل صفقة كبيرة، أيدها “حزب الله”، ومنافس عون المسيحي رئيس حزب “القوات” اللبنانية، سمير جعجع، أعادت رئيس تيار المستقل سعد الحريري كرئيس للوزراء، وهو ما أشار إليه الصحفي طوني بولس بمعرض حديثه.

قد يهمك: لبنان بين فراغ الرئاسي وعدم تشكيل الحكومة.. ما الذي يجري؟

من جهته، توقّع الصحفي منير الربيع أن يكون الفراغ الرئاسي طويلا، بظل عدم اتفاق القوى السياسية على إنتاج تسوية سياسية تعيد الحياة إلى المؤسسات الدستورية، غير مستبعد اللجوء إلى أطراف خارجية.

“الأزمة اللبنانية ستكون مرتبطة ببعض المسارات الإقليمية والدولية، لذلك لا أتوقع حصول انفراج قبل حصول تسوية إقليمية تنعكس على الداخل اللبناني”، يشرح الربيع لـ “الحل نت”.

فترة ولاية الرئيس السابق ميشال عون، قد حملت العديد من الأزمات الخانقة للشعب اللبناني، كان آخرها عدم التوافق على تشكيل للحكومة اللبنانية، إضافة إلى المناكفات السياسية التي أودت في النهاية إلى حدوث فراغ رئاسي، لا يعرف له نهاية، على الأقل خلال هذه الأيام.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.