يبدو أن المأساة السياسية التي تعيشها إيران هي تلك الميليشيات الموالية لها سواء على أرضها أو لدى بعض الدول الأخرى مثل سوريا والعراق واليمن، والتي تعتمد في وجودها على العنف الفردي أو الجماعي أو حتى الدولي. 

تتغلغل هذه الجماعات المسلحة في مؤسسات الدولة، بطريقة تتناقض مع مفهوم الدولة المعاصر؛ لأن هذه الجماعات المسلّحة تتحرك تحت ستار الدين أو بالمتاجرة بالدين. 

تعمل هذه الميليشيات التي تتنافس فيما بينها على اختلاف أنواعها وتتعدد مراجعيتها، لهدف واحد هو إفساد الحياة السياسية في كل مكان تتواجد فيه وعدم استقرار المنطقة العربية، عبر فرض نفوذها. وتعتمد هذه الميليشيات الإيرانية على استخدام العنف كسلاح لأجل تحقيق أغراضها و كعقيدة أصلية ودونها الموت.

الميليشيات والكراهيات

يؤكد الدكتور نادر كاظم في كتابه “لماذا نكره؟ أو كراهيات منفلته مرة أخرى”، أن الكراهية هي المبرر غير المنطقي الذي يدفع الإنسان لفعل كل شيء مريب وغير مقبول. فلا يمكن أن تمارس عنفاً دون إثارة الكراهيات. الكراهية تقتل بلا رحمة، قتل الآخر المتخلف، قتل العدو الذي يُصوّر كشيطان رجيم أو كخطر يهدد وجودنا. 

الشاهدة هاجر طهراني، الناجية من سجن إيفين (1981-1984)، والتي تعرضت للتعذيب شخصياً على يد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، تنضم إلى المنفيين الإيرانيين، بعد أن تم إعدام 120 ألف سجين سياسي خلال 31 عامًا من حكم الملالي في إيران. (تصوير أندرياس رينتز / غيتي)

بمعنى أن للكراهية قدرة – إذا ما توافرت لها الشروط اللازمة – على تحويل البشر من أناس عاديين إلى قتلة أو “أنصاف قتله خلال الصمت العاجز”؛ إلا أن ذلك لا يؤدي إلى الخطوة العلمية فلا بدّ أن تقترن الكراهيات بأفكار عاطفية يوسوس بها الآخر في صدورهم، ويؤجج الحماسة في نفوسهم، ويجعل الدم يغلي في عروقهم، بحيث يكون هنا قتل البشر، بالنسبة إليهم، مسافة تافهة مثل سحق حشرة أو قطع نبتة ضارة.

“شيطان الهوية”، هو ما تلعب عليه الميليشيات المرتبطة بإيران، بتبنّي نفسها على فكرة الهوية باسم الدين أو الهوية العربية؛ لضخ صراعات داخلية بين أبناء الوطن الواحد عن طريق المزايدة بالدين والإيمان والعروبة. 

ومن هنا كانت فكرة الميليشيات التي خلقتها إيران في المنطقة العربية لنشر الكراهيات والدم والعنف تحت شعار الدفاع عن الوطن. إلا أنه لا يمكن لأي دولة أن تنفّذ برنامجها الدموي وعقيدتها العنيفة إلا عبر مؤسسة تسهل عليها تحقيق مخططتها؛ ولهذا كان “الحرس الثوري” تلك اليد العليا في إيران والتي تخضع لها كل مؤسسات الدولة حتى القانونية منها.

“الحرس الثوري”.. يد إيران الحديدية 

تأسس “الحرس الثوري” الإيراني في عام 1979، على يد آية الله روح الله الخميني، بهدف إنشاء جيشٍ من المتدينين المشحونين دينياً ومهمتهم الوحيدة هي حماية “قيم” و”أيديولوجية” “الثورة الإسلامية” من التهديدات الداخلية والخارجية على حدّ سواء. 

السجناء السياسيون، الذين تراجعوا عن آرائهم ويدعمون الآن الجمهورية الإسلامية، يشاركون في مؤتمر صحفي في سجن إيفين شديد الحراسة في طهران، إيران، 10 فبراير 1986. (تصوير كافيه كاظمي / غيتي)

هذا الظاهر لأنه مع مرور الوقت، تمكّن “الثوري” الإيراني من التطور إلى قوة سياسية وتجارية، مما أدى إلى زيادة قبضته داخل أقوى التكتلات والصناعات في البلاد – بما في ذلك النفط والغاز – ونفوذه الثاقب في الكثير من الشؤون السياسية في البلاد. 

ولكن في جوهره، لم يتخلى الكيان عن مهمته المتمثلة في حماية “الثورة” التي لا تدعمها الآن سوى أقلية ضئيلة، كثير منها متأثر بالأيديولوجية. وبات يدرك “الحرس الثوري” أنه حتى يمكنه البقاء في السلطة لابدّ من إثبات نجاحه؛ وهذا النجاح مقترن بأعمال العنف والقهر التي يمارسها سواء في إيران أو المناطق الموالية لها والتي تخضع لنفوذها.

يُعرف “الحرس الثوري” باسم “فيلق حراس الثورة الإسلامية”، وهو أحد أقوى فروع القوات المسلحة للنظام الإسلامي الإيراني وأكثرها تنوعًا وعسكرة. ويرى العديد من المحللين أن إيران لم تعد دولة ثيوقراطية يحكمها رجال الدين الشيعة، بل أصبحت دولة عسكرية يحكمها “الحرس الثوري”. 

يقدم هذا الكيان القوي تقاريره مباشرة إلى المرشد الأعلى للبلاد على خامنئي وقد تم فرض عقوبات علىه من قبل الولايات المتحدة ، وغيرها كمجموعة إرهابية. وأيضاً هناك قوات “القدس” إلى جانب ميليشيات الخاصة – المتطوعين البرلمانيين المعروفين باسم الباسيج الذين يقدر عددهم بـ45ألفاً – الذين يظل وجودهم غير المحدود في جميع جوانب المجتمع الإيراني مصدرًا عميقًا للقوة. مما يسبب حالة من القلق والضغينة بين المواطنين الإيرانيين. وتستخدم تكتيكات وحشية لمحاولة قمع الاحتجاجات، كما فعلت في عام 2016 والثورات الماضية.

الاعتداء الجنسي والهروب من الملاحقة القضائية

في 25 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، وفي اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، ظهرت تقارير عن تزايد التعذيب والعنف الجنسي على يد السلطات الإيرانية ضد المتظاهرين. ففي شمال العراق أفاد نشطاء حقوق المرأة والباحثون في مجال حقوق الإنسان عن تزايد استخدام السلطات الإيرانية للتعذيب والعنف الجنسي ضد المتظاهرين، لا سيما داخل نظام السجون. 

تحت ستار الدين والمصالح كيف تستخدم ميليشيا إيران العنف كأداة لنشر تأثيرها؟ (6)
سجينات إيرانيات يجلسن في زنزانتهن في سجن إيفين سيئ السمعة، شمال طهران. (أتا كيناري / وكالة الصحافة الفرنسية)

قالت روبار جيا، وهي عضو في حزب “آزادي كردستان”: “منذ مقتل مهسا أميني – وهي تلك الفتاة التي ماتت بعد تعرّضها للتعذيب والاعتداء من جانب الشرطة الإيرانية وكان ذلك سببا رئيسيا في الثورة العام الماضي- نسمع عن المزيد من الانتهاكات ضد النساء”. فيما أفادت زميلتها أوريشا جيلامو، أنها سمعت عن العديد من النساء اللاتي انتحرن بعد تعرّضهن للتعذيب والاغتصاب في الحجز، بغض النظر عن أعمارهن.

أما منظمة “العفو” الدولية، بعد أن وثقت العديد من حالات الانتهاكات داخل نظام السجون الإيراني، بما في ذلك الحرمان من الرعاية الطبية المنقذة للحياة، تشير إلى وجود مجموعة متزايدة من الأدلة التي تشير إلى التعذيب وإساءة معاملة النساء بشكل منسق ومن أعلى إلى أسفل. 

تلفت المنظمة إلى أن لديها تحقيق مستمر في استخدام العنف الجنسي داخل نظام السجون، وهي تخطط لاتخاذ القرار لاحقاً إذا كانت تعتقد أن هذا الأمر “منهجي” أم لا، ولكن بغض النظر عن قرارها بشأن هذا الأمر، الشيء الوحيد الذي نشهده هو الحصانة النظامية من الملاحقة القضائية لأولئك الذين نفّذوا التعذيب وأمروا به، سواء كان جنسياً أو غير جنسي”. 

ردّاً على الاحتجاجات في العام الماضي التي عمت البلاد بعد وفاة مهسا أميني، فرضت الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية مجموعة واسعة من العقوبات الجديدة ضد النظام، واستهدفت الشرطة الدينية وقوات الأمن الإيرانية على وجه التحديد.

وعلى الرغم من أن العقوبات عزلت إيران بشكل فعال وأدانت انتهاكاتها لحقوق الإنسان ممارسة العنف بكل أنواعه، إلا أن أعضاء حزب “آزادي كردستان” يؤكدون أنهم الأنشطة الأساسية لأجهزة الاستخبارات والمسؤولين الإيرانيين لم تتوقف. 

وعلى الرغم من استخدام النظام الإيراني المتزايد للتكتيكات القاسية، تعتقد هؤلاء النساء أن الاحتجاجات التي أشعلتها وفاة مهسا أميني تشير إلى أن أيام النظام مسألة وقت فقط قبل أن ينهار.

ضرب المواثيق الدولية عرض الحائط

أن ممارسة العنف المنهجي على الشعب الإيراني ليس سرّاً، فقد نشر الموقع الرسمي للولايات المتحدة الأميركية عام 2022 تقارير عن ممارسات العنف داخل إيران وتشير التقارير إلى أن إيران شهدت اضطرابات واسعة النطاق خلال العام، وبحلول نهاية العام، قتلت قوات الأمن أكثر من 500 شخص، بينهم 69 طفلاً على الأقل، واعتقلت أكثر من 19 ألف متظاهر، بينهم أطفال، بحسب وكالة “أنباء نشطاء حقوق الإنسان”، وهي منظمة غير حكومية. 

نقل رسام الكاريكاتير الإيراني نيك أهانغ كوسار (في الوسط) إلى سجن إيفين في طهران في 5 فبراير/شباط 2000 بعد استجوابه بشأن رسمين كاريكاتيريين في صحيفة أزاد اليومية. (تصوير بهروز مهري / وكالة الصحافة الفرنسية)

وكان بعض المعتقلين يواجهون عقوبة الإعدام، ومن بينهم أطفال، كما عطلت الحكومة بشكل روتيني الوصول إلى الإنترنت وتطبيقات الاتصالات لمنع التدفق الحر للمعلومات ومحاولة مقاطعة أو تقليل المشاركة في الاحتجاجات.

وشملت قضايا حقوق الإنسان الهامة تقارير موثوقة عن: عمليات القتل غير القانوني أو التعسفي على يد الحكومة وعملائها، وعمليات الإعدام الأكثر شيوعاً في جرائم لا تفي بالمعايير القانونية الدولية “لأشد الجرائم خطورة” أو في الجرائم التي يرتكبها مخالفون أحداث، ودون ضمانات للمحاكمة العادلة؛ الاختفاء القسري المنسوب إلى الحكومة وأعوانها؛ التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة على يد الحكومة وعملائها.

هذه الأعمال لم تكن على مستوى إيران فقط، بل تطور القمع العابر للحدود ضد الأفراد في بلد آخر، بما في ذلك القتل أو الاختطاف أو العنف؛ وتمكين الانتهاكات من قبل الجماعات التابعة لطهران في سوريا والعراق واليمن.

المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في إيران، جاويد رحمان، ذكر أثناء تقديمه تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان ، إن حجم وخطورة الانتهاكات التي ارتكبتها السلطات الإيرانية يشير إلى “احتمال ارتكاب جرائم دولية، ولا سيما الجرائم ضد الإنسانية مثل القتل والسجن والاختفاء القسري والتعذيب”.

مكافأة.. للعنف داخل السجون

إن منظومة العنف حتى تكون ناجحة يلزم لها منظومة من المؤسسات مثل “الحرس الثوري” ومليشياته وأيضاً منظومة أخرى موازية لها وهي منظومة الأفراد المخلصين لهذا العنف المنظم.

تظهر الصورة سجن إيفين في طهران وجبال إلبورس. (تصوير أولريش بومغارتن/ غيتي)

ولهذا يدير “هداية فرزادي” أحد أكثر السجون شهرة في إيران سجن “إيفين”، حيث تم إرسال العديد من المتظاهرين إلى هذا السجن خلال الجولة الأخيرة من الاحتجاجات وهناك تعرضوا للتعذيب وغيره من أشكال الاعتداء الجسدي. 

فرزادي يعد شخصية سيئة السمعة في نظام السجون الإيراني حتى قبل توليه قيادة سجن “إيفين”،  فخلال فترة وجوده في سجن “ديزل آباد” في غرب إيران، والتي استمرت 10 سنوات، كان فرزادي معروفًا بتنظيم عمليات بتر علنية للمجرمين المدانين بجرائم صغيرة. 

وبصفته مديراً لسجن طهران الكبرى، أشرف فرزادي على تعذيب وسوء معاملة العديد من السجناء، بما في ذلك السجناء السياسيون وأعضاء الأقليات الدينية. ومن المعروف أن العديد من السجناء تحت مسؤوليته ماتوا بسبب نقص العلاج الطبي. وقُتل بعضهم، ومن بينهم سجناء سياسيون وأفراد من الأقليات الدينية، على أيدي حراس السجن. 

وعلى الرغم من سجله الحافل بالانتهاكات، إلا أنه بعد فصله من سجن “الفشافويه” بسبب وفاة سجين سياسي، تم تعيينه مديرًا لقسم التفتيش في منظمة السجون الإيرانية؛ وهنا يظهر أن نظام السجون الإيراني والمؤسسة الأمنية، بما في ذلك “الحرس الثوري”، يواصلان حمايته.

ولم يقف الأمر عند حدّ التعامل بالعنف مع المواطنين وإنما حتى مع المواطنين الأجانب فمع الشهر الأول من هذا العام أدانت مجموعة من المقررين الخاصين للأمم المتحدة الاحتجاز التعسفي الذي قامت به إيران لعامل الإغاثة البلجيكي أوليفييه فانديكاستيلي، وطالبت بالإفراج عنه فوراً، بعد أن حكمت عليه محكمة في طهران بالسجن التراكمي لمدة 40 عامًا. 

نتيجة هذه الحالة التي لا تعتبر جديدة على نظام الحكم في إيران، إلا أن المستشرف من هذا المنهاج المتّبع للميليشيات الإيرانية يقول أنها لا تعتمد إلا قانون واحد هو قانون الغاب القائم على العنف دون أدنى اهتمام منها بأي ميثاق إنساني أو حقوقي، فالعنف هو شريعتها ومنهجها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات