عام تلو الآخر قطع من خلالها “حزب الله” مشوار الهيمنة والاستبداد على الدولة ومؤسساتها في لبنان حتى لحظة الوصول نحو اقتناص وزارة المالية، من خلال حليفه الرئيسي حركة “أمل” في العام 2014،  مما يمنحه حق التوقيع بعد منصب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهو الأمر الذي خوّل له القبض على مقدّرات البلاد وفعل التهريب، ومراكمة المليارات، وحلحلة مؤسسات الدولة ومجابهة أي حلٍّ سياسي واقتصادي. 

فضلاً عن تقويض مقدّرات الدولة الاقتصادية، لا سيما عبر  مؤسسته “جمعية القرض الحسن” التي أمست بمثابة مصرف يستقبل الودائع ويمنح القروض، ويُصدر البطاقات الائتمانية لصالح صرافات تابعة له، دون الاعتناء والاهتمام بشرعية الدولة وشرعية مصرف “لبنان” المركزي ورقابة من الجهات المسؤولة كـ لجنة الرقابة على المصارف.

يُدرك “حزب الله” ما فعله بلبنان كما أنه يدرك تماماً أن المواطن في لبنان قابض على الغضب، ويخشى الأول يقيناً أن ينفجر هذا الغضب في وجه الثنائي الشيعي، ويفقد معه ما راكمه خلال السنوات الأخيرة. فهل بات الحلّ هو نزع الجنسية من أعضاء “حزب الله”؟

صراع الولاءات

في حديث نائب أمين عام “حزب الله”، نعيم قاسم، قدّر منفرداً أن “المقاومة” هي الخيار الوحيد الحصري لطرد إسرائيل واستعادة الاستقلال والدفاع عن لبنان، حيث قال: “بعد اليوم لا نستطيع أن نقول لبنان القوي أو لبنان المستقل إلا ومن مقوماته أهله وطوائفه ومقاومته وجيشه وشعبه ومن دون هذه الدعامة الأساسية التي هي المقاومة لا يمكن أن يستقر لبنان أو أن يتمكن من عملية المواجهة”.

آموس هوخشتاين (يسار)، كبير مستشاري الرئيس الأميركي جو بايدن، الوسيط بين إسرائيل ولبنان، يلتقي برئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري (يمين) في بيروت، لبنان في 04 مارس 2024. (تصوير حسام شبارو/غيتي)

قاسم توجه إلى منتقدي “حزب الله” بالقول: “أما الذين يريدون التحرير بالقلم والورقة والذين يريدون الحماية من أميركا والذين يريدون مستقبلهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي فليبقوا في غرفهم يلعبون ويسرحون ويمرحون نحن نسير في الطريق الصحيحة والقافلة تشق طريقها”.

الأمر الذي قدّره سياسيون لبنانيون تحدثوا لـ”الحل نت”، بأنه نتيجة طبيعية ومنطقية لحجم وعمق الهوة الواسعة بين خيارات “حزب الله” البعيدة عن توافقات الشعب اللبناني خلال السنوات الأخيرة عموماً ومراهناته بـ واقع ومستقبل البلاد منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الفائت، فضلاً عن كون “حزب الله” يدرك تماماً أنه لا يمكن المُضي قدماً في مغامراته السياسية والعسكرية والميدانية مع إسرائيل دون غطاء شعبي يدعمه ويؤيده ويمنحه الشرعية الشعبية.

وبالمثل، استخدام لغة التهديد والوعيد ضد المعارضين، يعكس بشكل أو بآخر مدى أزمة “حزب الله” داخلياً، سيما داخل بلد كـ لبنان يتسم بالتنوع ويتوق لإدارة ذلك، مما يدفع الأمر كقيمة مضافة  لاعتبارات ومصالح بلاد أخرى – إيران – يخضع لها “حزب الله”. 

معركة الهوية

وفق المرجع الشيعي، علي الأمين، في مؤلفه الهام “الأحزاب الدينية بين طموحات السلطة ودور الأئمة”، يقول إن الإمامة لم يكن دورها الأساسي في القيادة السياسية، وإنما هو دور المرجعية الدينية المنصوبة لهداية الخلق، وأن رابطة الوطن أولى من رابطة الدين والمذهب، مما لا يصلح معه أن تكون العلاقات مع الشعوب الأخرى على حساب الوطن.

اللافت برأي العلّامة علي الأمين، أهمية ملاحظة تلك التمثّلات الجديدة التي بدت على القاعدة الشعبية في البيئة التي يسيطر عليها الثنائي الشيعي عبر استحقاق الانتخابات النيابية الأخيرة، رغم  سيطرة “حزب الله” وحركة “أمل” على السلاح والمال، ومرور كل خدمات الدولة عبر الثنائي الشيعي. 

ويشير صاحب كتاب: “ولاية الدولة ودولة الفقيه”، إلى أن أكثر ما حقّقناه بعد حركة 17 تشرين، أن كثيرا من الجنوبيين طالبوا بمشروع الدولة ودولة المؤسسات والقانون لا الهيمنة التي يمارسها الثنائي وغيره.

وفي سياق متصل، كشف المعارض السياسي والمرشح السابق عن المقعد الشيعي في دائرة الجنوب الأولى، الدكتور علي خليفة، بقوله،  ليست “المسألة الشيعية” في لبنان انعكاسًا أو تتمّة لحالة طائفية قائمة أو عابرة، كتلك الحالات الطائفية التي تسود المجتمع اللبناني المتعدّد والدولة التي انبثقت عن ائتلاف الطوائف الدينية في إطار عقد اجتماعي عبّر عنه الميثاق الوطني (1943) ثم وثيقة الوفاق (1989) وله ما يماثله في أنظمة المشاركة في سياقات مختلفة. 

وعلى امتداد التاريخ السياسي-الطائفي لـ لبنان، لم تطرح “المارونية السياسية”، بحسب حديث علي خليفة وهو مؤسس “حركة تحرر من أجل لبنان”، لـ”الحل نت”، ما يمكن اصطلاحه تحت مسمّى المسألة ولا “الحريرية السياسية”، ولكن “الشيعية السياسية” تأخذ الحالة الطائفية في صورتها القصوى. 

وقد أضحت محوراً للعديد من القضايا المعقّدة في السياسة والثقافة والمجتمع، متزامنة مع إرادة الهدم والتعطيل والقضم من الداخل والاستتباع للخارج، واغتيال الهوية وطمس الوعي وتحوير التاريخ وتغييب التنمية ومتطلّباتها، فيشتدّ غلواء “الشيعية السياسية” عن طريق زيادة نفوذها داخل النظام وعلى حساب إقامته، مما يثير مخاوف الأطراف الأخرى وهواجس جمّة ويؤدي إلى صراعات سياسية متكررة، دون أن تكون زيادة النفوذ في النظام القائم أو إعادة تأسيس النظام هدفًا في حدّ ذاته أو مسار نضال “الشيعية السياسية”.

قنبلة قانونية

“الشيعية السياسية” تفتح الباب على ما هو أدهى وأخطر ضمن ما يمكن اصطلاحه تحت مسمّى “المسألة الشيعية” في لبنان وقوامها: لاوعي الهزيمة وإنكار الواقع ممّا يدفع لعدم مساءلة أداء “الشيعية السياسية” وخياراتها حتى حين تكون كارثية، ورفض مشروع الدولة كجهاز ناظم في المجتمع، سواء عن طريق إقامة الأنظمة الموازية أو عن طريق القضم من الداخل، فتبرز حالة المجتمع بلا دولة مع كلّ ما تنتجه هذه الحالة من شقاء تلقائي. يقول خليفة.

الدكتور علي خليفة

وعليه يصبح الانتصار والهزيمة سيّان، والمعارضة والموالاة سيّان، والأكثرية والأقلية سيّان، فتبقى “الشيعية السياسية” بمنأى عن المحاسبة وتحمّل المسؤوليات سواء انتصرت أو انهزمت، سواء أكانت في المعارضة أو في الموالاة، سواء أكانت في عداد الأكثرية أو الأقلية. 

ويردف خليفة: “هذا الإعماء رافق حرب الثلاثة وثلاثين يومًا في تموز/ يوليو 2006، ومنذ تشرين الأول /أكتوبر 2023، إعلان “النصر” مجدّدًا يتوقّف على قلب إمكانية إدراج الأرقام المتوافرة والمنشورة عن الخسائر الاقتصادية المحققة، حيث تتناظر أرقام خسائر حرب تموز 2006 (ثلاثة وثلاثين يومًا) مع الحصيلة المتوافرة للمواجهات بعد 8 تشرين الأول /أكتوبر للمُدّة ذاتها أو أكثر”.

صور لأعضاء حزب الله الذين قُتلوا في جنوب لبنان وسط التوترات المستمرة عبر الحدود بين إسرائيل وحزب الله، يتم عرضها خلال جنازة في الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 ديسمبر. (تصوير أنور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية)

لا وعي الهزيمة العسكرية إعماء مقصود تنتهجه “الشيعية السياسية” فتبقى دائماً منتصرة على الرغم من كل الأرقام والخسائر وبمعزل عن أي تفكير أو مساءلة. وثمة إعماء من نوع آخر في الميدان السياسي في الداخل، يقوم على إنكار اللعبة السياسية وقواعدها وأدواتها. فلا وجود للمعارضة والموالاة في محاولة لإنكار قواعد اللعبة الديمقراطية التي ينجم عنها تداول الحكم. 

ولا وجود لأكثرية أو أقلية، حيث يمكن تعطيل النظام عبر الانقلاب عليه ووقف عمل آلياته كلما شعر “حزب الله” (أو الثنائي الشيعي) بأن التوازنات القائمة في غير مصلحته، كما يحصل في انتخابات رئاسة الجمهورية حيث يعطل نواب الثنائي الشيعي النصاب في الدورة الثانية على امتداد إحدى عشرة جلسة انعقد فيها المجلس النيابي بصفته هيئة ناخبة.

لا تكتفي المسألة الشيعية بمراكمة تاريخ من الهزائم وتغييب وعيها فيسهل تصريفها بوصفها انتصارات وإنكار اللعبة السياسية وأدواتها فيستتبّ الحكم دون محاسبة ولا مساءلة، وصولاً إلى فرض الشغور لتصبح الدولة بلا رأس ويد “الشيعية السياسية” بلا قيد، بل تمدد العطب ليطال كل مستويات الحكم والأطر الناظمة للمجتمع. 

الشغور في رأس الدولة رأس جليد أصبح حالة خطيرة تتمدد إلى كل هياكل المجتمع. فعملت “الشيعية السياسية” على استبدال نظام الدفاع والأمن بميليشيات مسلّحة تحلّ محلّ القوى المسلّحة الشرعية، واقتصاد موازٍ للاقتصاد الشرعي، ونظام تعليم رديف لنظام التعليم اللبناني. 

وعلاوة على الأنظمة الرديفة التي تعكس فشل تعاطي “الشيعية السياسية” مع إدارة التعددية، فإن قضم الدولة من خلال الاستيلاء على مؤسساتها الرسمية من الداخل هو أيضًا من ملامح “المسألة الشيعية” بحسب المصدر ذاته.

الحل الأخير

يؤكد الأكاديمي اللبناني علي خليفة، أن تجربة المجتمع في لبنان بلا دولة “ليست فتحاً مبيناً” في الحوكمة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل هي بابٌ للشقاء التلقائي. وهنا تقوم المسألة الشيعية على ذمّ النماء في مقابل تمجيد الشقاء واعتبار ثقافة الحياة مذلّة والفرح واللّذات مهانة. 

حروب حزب الله تهدد بكارثة اقتصادية في لبنان (1)
أصحاب المركبات التجارية يتجمعون لإغلاق الطرق احتجاجًا على الأزمة الاقتصادية في البلاد وارتفاع أسعار الوقود في بيروت، لبنان (تصوير حسام شبارو/ غيتي)

وإن كان الشقاء التلقائي نتيجة حتمية لكلّ عناصر “المسألة الشيعية”، فإن تفكيك هذه العناصر المعقّدة يمكن أن يكون بالإصرار على حقّ الحياة والحرية البديهية في مواجهة الشقاء التلقائي. 

الحرية البديهية، هي في مصافي الحق الطبيعي للفرد. العيش والهناء والفرح واللذة والتوق إلى السلام والأمان: كلّها أشياء بسيطة… ولكنها كفيلة بنسف تعقيدات العناصر التي اجتمعت على تكوين “المسألة الشيعية” التي تمجّد الموت والغمّ والحزن والألم والصراعات الدائمة والمواجهات المستمرة.

إذ إن “المسألة الشيعية”، هي محنة الشيعة ونكبتهم. هي مراكمة الهزائم تحت الإصرار على الترويج لها بوصفها انتصارات إلهية باهرة أو إرادة عُليا قاهرة. والخروج من “المسألة الشيعية” يعني الاعتراف بالهزائم بوصفها الموضوعي المجرّد من شحن العواطف المستعادة من التاريخ ومن إعماء الأيديولوجيا ومن طموح الحكم. 

وإن ضمان الحريات البديهية للفرد ضرورة وبداية مسار تحقيق متطلبات الوعي الفردي عبر تنمية المهارات والقدرات التي تسمح بالتفكير والتدخل والتقييم والنقد، وصولاً إلى المساءلة والمحاسبة واعتبار القضايا العامة وانتظامها مسألة في صلب وعي المواطنية لا منطقة نفوذ خاضعة لمتطلبات “المسألة الشيعية”.

ويختتم مؤسس “حركة تحرر من أجل لبنان” تصريحاته لـ”الحل نت” بعدة أسئلة: “ماذا قدّم “حزب الله” للبنان بعد ما يزيد على مائتي يوم من الحرب؟، ويقول: “يقينا، مزيدًا من الدمار والنزوح ومئات القتلى على طرقات الجنوب لا على طريق القدس”. 

حسن نصرالله يأتمر من قيادة “الحرس الثوري” الإيراني، ويجب نزع الجنسية اللبنانية عن المنضوين في حزبه”. ويردف خليفه: “لماذا وضعت وزارة الداخلية جمعية التعليم الديني الإسلامي على قائمة الجمعيات ذات المنفعة العامة فتستفيد من تقديمات الدولة وهي تدير مدارس “حزب الله”؟ وهذا ما يحصل في مدارس الحزب حيث يُطمس الولاء للبنان ويحلّ محلّه الولاء للخامنئي وعناصر أيديولوجية لا تشبه ثقافة المجتمع اللبناني التعددية”.

بأي حال من الأهمية بمكان أن تستعيد لبنان وعيها الوطني ومؤسساتها من الثنائي “أمل” و”حزب الله”، حيث اختطف كلٌّ منهما الدولة، وتقوم بترويع المعارضين وتمضي نحو شرعنة كافة أجهزتها ومؤسساتها المالية والتربوية والمصرفية، فضلاً عن العسكرية على حساب الدولة ومؤسساتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات