منذ أيام وتعيش المنطقة العربية حالةً من الارتباك والضغط النفسي والعسكري مع التأرجح بين الآمال في وساطة دولية وبين مخاوف من سيناريوهات حرب شاملة باتت وشيكة. فقد بدأت وتيرة الأحداث في التصاعد مع ما حدث في 28 تموز/يوليو من الهجوم على قرية مجدل شمس في الجولان، فقد اتهمت إسرائيل “حزب الله” بمقتل 12 شخصاً وإصابة العشرات، وتتوعد بالانتقام، مما أثار مخاوف من اندلاع حرب شاملة.
إسرائيل بدورها لن تترد في الإعلان عن نواياها في الانتقام لما حدث في مجدل شمس، ومؤكدة أنها لا ترغب في الدخول في حرب مفتوحة مع “حزب الله”. فما كانت إلا أيام قليلة وجاء الرّد الإسرائيلي كصفعة قوية على وجه إيران و”محور المقاومة”. وتمثّل هذا الرّد في اغتيال الرجل الثاني في “حزب الله”، فؤاد شكر، في الضربة التي استهدفت الضاحية الجنوبية ببيروت مساء الثلاثاء الماضي.
وما كانت إيران تستفيق من تلك الضربة الموجعة إلا وأنزلت إسرائيل بصفعة أخرى أكثر قوة متمثلة في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية، في عقر دار طهران، هذا الأخير الذي سافر إلى طهران للمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، فكان من نصيبه الموتُ غريباً عن وطنه بمحل إقامته في مبني يُشرف على حمايته “الحرس الثوري” الإيراني.
ومع استمرار وتيرة التصعيد المستمر أعلن أمس الخميس الجيش الإسرائيلي مقتل قائد الجناح العسكري لـ”حماس”، محمد الضيف، بعد أكثر من أسبوعين من استهدفه جنوبي قطاع غزة. وهذا ولم تعلن “حماس” حتى هذه اللحظة أي تفاصيل أو حتى ردّ على ما جاء به إعلان الجيش الإسرائيلي. لكن هذه الاغتيالات الملاحقة للقيادات تضع إيران في موقف صعب تجاه علاقاتها مع “محور المقاومة”. مما من شأنه خلق جدارٍ عازلٍ بين إيران والمقاتلين في ميليشياتها. وهذا يرجع إلى جملة من الأسباب بعضها نفسية وأخرى عسكرية وأمنية.
أولاً: مقتل هنية
تُمثل الاغتيالات الثلاثة السابقة حالة واضحة من الضعف الإيراني المتوالي، إلا أن مقتل هنيه له خصوصيته التي ستساهم في نزع الثقة المتبادلة بين إيران وأطراف “محور المقاومة” وهذا يرجع إلى تفاصيل عديدة أولها، إن مقتل هنية في إيران والذي يُعد حلقة الوصل بين إيران و”حماس”، هو هزيمة مباشرة للنظام الإيراني وخاصةً أن هنية كان يقيم في مبني يُعرف باسم “نشأت” تابع لـ”المحاربين القدماء”.
الباحث هشام عبد المقصود، المختص في السياسة العربية والدولية، في تحليله لـ”الحل نت”، قال إن مقتل القادة السياسيين والعسكريين في الصراعات المختلفة يشكّل نقاط تحوّل مهمة، تؤثر بشكل عميق على الأطراف المتنازعة.
في السياق الفلسطيني، يُعد إسماعيل هنية من الشخصيات البارزة في حركة “حماس” وفي المشهد السياسي الفلسطيني عموماً. لذلك، فإن مقتله بحسب عبد المقصود، يترك أثراً نفسياً كبيراً على “محور المقاومة” بأكمله وليس على “حماس” وحدها. وهذا يرجع إلى أن هنية يتمتع بخبرة سياسية كبيرة داخل هذه التنظيمات.
فقدان مثل هذه الشخصية يمكن أن يؤدي إلى حالة من الارتباك والشكوك حول مَن سيقود الحركة في المستقبل، مما قد يُضعف القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة في الأوقات الحرجة.
ويتابع عبد المقصود قائلا: إن “مقتل هنية سيؤدي إلى تراجع الثقة بين أفراد المقاومة من ناحية لأنه دائما سيطرح سؤال من البديل لهنية وخاصة أن المقاومة تمرّ بحالة ضعف كبيرة، وأيضاً تتراجع الثقة بين إيران والمقاومة، وحماس بشكل خاص، لأن إيران هي التي خلقت المأزق الذي تعيشه المقاومة الآن فهي لم تستطيع حماية فرد في بيتها فكيف لها أن تهتم بشأن المقاومة خاصةً مع استمرار عدم الرّد حتى الآن”.
ثانياً، حتى الآن وعلى مدى 48 ساعة ماضية لم توضح إيران بشكل دقيق الطريقة التي قُتل بها هنية، فقد أعلنت وسائل إعلانية مقرّبة من إيران أن الصاروخ الذي قتل هنية ومرافقاً له، جاء من خارج إيران. إلا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تؤكد على أن الصاروخ الذي قُتل به هنيه جاء من داخل إيران. وحاليا توجد رواية ثالثة تفرّدت بها صحيفة “نيويورك تايمز”، تشير إلى أن هنية اغتيل بعبوة ناسفة كانت مخبأةً منذ شهرين.
وربما إيران لا تعلن هذا لأنه سيدعم الحديث عن “اختراق أمني كبير” داخل إيران، أدى إلى استهداف أهم قائد سياسي لـ”حماس” داخل طهران وبسهولة. فحالة الالتباس التي يعيشها النظام الإيراني ستؤدي حتما إلى خلق أزمة ثقة بين إيران التي تقدم نفسها بوصفها الراعي الرسمي لـ”المقاومة الإسلامية” وبين أطراف “المقاومة”.
ثالثا، على “محور المقاومة” أن يدرك تماماً أن إيران لن تفعل شيئاً للقضية الفلسطينية. فالقضية الفلسطينية هي قضية عربية، وهذه القضية تمرّ من خلال الممثل الشرعي لها هو الشعب الفلسطيني وليست الفصائل الإيرانية.
فإيران التي تدّعي العِداء مع إسرائيل لم يحدث يوماً أن قتلت جندي إسرائيلي، وعندما تريد فعل هذا يكون من خلال الشعب الفلسطيني حتى يكون الرّد من إسرائيل على الشعب الفلسطيني كما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. هذا بالإضافة إلى نقطة جوهرية وأساسية، وهو أن إيران على المستوى الفعلي لم تقدم للقضية الفلسطينية شيئاً سوى “الصبر الاستراتيجي” على عكس موقفها من روسيا، فقد باتت إيران المورّد الرئيس للطائرات المسيّرة التي تستخدمها موسكو في حربها ضد أوكرانيا. أما عن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فما هي إلا مجرد محاولات من إيران لفرض نفوذها في المنطقة العربية و استرخاص الدم العربي.
ثانياً: “المقاومة” أوراق محروقة
مع اعتماد إسرائيل على سياسة الاغتيال دون ردّ مناسب من إيران، سيعظّم هذا الفجوة بين “محور المقاومة” وإيران خاصةً مع تحوّل “المحور” إلى كبش فداء لـ”حزب الله”. وتساهم اغتيال القيادات في حرق المسافات الآمنة لدى الشعوب خاص إذا ما حدث نوع من الربط بين اغتيال وبين عنصر التواطؤ.
صالح أبو عوذل، رئيس مؤسسة “اليوم الثامن” للإعلام والدراسات، أشار في حديثه لـ” الحل نت”، إلى أن الأذرع المسلحة الموالية لإيران في اليمن ولبنان وسوريا، ربما أدركت اليوم أنها أصبحت أوراق محروقة، تبحث إيران من خلالها عن التهدئة مع إسرائيل، فمع كلّ عملية تقوم بها الأذرع الإيرانية اتجاه تل أبيب تقوم إيران بتقديم “قربان” تهدئة.
اغتيال إسماعيل هنية وهو في مكان يفترض أنه شديد التحصين بغض النظر عن الطريقة التي لم تصرح بها طهران إلى الآن، هو ورقة تهدئة تبعثها طهران، بأنها على استعداد لتقديم المزيد من رؤوس قادة أذرعها مقابل عدم التصعيد الإسرائيلي تجاه إيران.
بل تخشى إيران على “حزب الله”، وحسن نصرالله تحديداً، الذي تعمل إيران على الحفاظ عليه شخصيا وعلى قواته العسكرية من الدخول في حرب ستكون خاسرة أمام إسرائيل. لذلك يبدو أن طهران أطاحت بإسماعيل هنية، حتى لا يدخل “حزب الله” في معركة مفتوحة مع الجيش الإسرائيلي.
من المؤكد بحسب أبو عوذل، أن الأذرع العربية ستتخذ موقفا مغايرا على ما كانت عليه قبل اغتيال إسماعيل هنية أو اغتيال فؤاد شكر ومحمد الضيف، هذه العمليات الثلاث لا شك أنها ستؤثر كثيراً على تماسك ما يسمى بـ”محور المقاومة”، وطهران لا تمانع في أن تقدّم الكثير من “كباش الفداء”، حتى تتحاشى التصعيد مع تل أبيب.
اغتيال إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران، ربما يفسّر أن النظام الإيراني غيرُ راضٍ عن العديد من العمليات التي نفّذها “الحوثيون” أو “حزب الله” تجاه إسرائيل، لذلك يظل القول الفصل، أن ما بعد اغتيال هنية ليس كما قبله بالنسبة لعلاقة الأذرع الإيرانية في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، بالنظام الإيراني الذي يبدو أنه يقدم الكثير من التنازلات وإحراق الكثير من الأوراق لكي يتجنّب التصعيد، خاصة وأن النظام تعرّض لهزة كبيرة بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي وأبرز أعمدته مؤخرا.
ثالثاً: غياب الرد الإيراني
الاغتيالات الثلاثة الماضية ستخلق شرخاً واضحاً بين إيران وبين أطراف وكلائها وخاصةً أن إيران حتى هذه اللحظة تتباطئ في الرّد، وحتى وإن كان هناك ردّاً، وهذا ما يعلمه “محور المقاومة” سيأتي على استحياء ولحفظ ماء الوجه.
فمقتل هنية وفؤاد شكر أو الضيف، لن يكون بحجم مقتل قاسم سليماني الذي قُتل في غارة جوية أميركية عام 2020 الذي كان يوصف بأنه عقل خامنئي، واكتفت إيران وقتها بالتنديد و خروج مظاهرات من الجماعات الإسلامية، ثم الهجوم على القوات الأميركية في بغداد الذي لم يسفر عن أي ضحايا. من خلال إطلاق عدة صواريخ على الأراضي الفارغة والقاحلة لقاعدة “عين الأسد”، ثم أطلقتْ صاروخين وأسقطت طائرة ركاب أوكرانية فوق طهران، خوفاً من الرّد.
مع كل حادثة اغتيال من الاغتيالات الثلاثة كانت الثقة تُهدم بين إيران وأطراف “المقاومة”، فإيران لا تحمي رجالها كما تتدعي واكتفت حتى الآن برفع العلم الأحمر على بعض المساجد في طهران، من الجدير بالذكر هنا أن العلم ذاته تم رفعه عند مقتل قاسم سليماني الذي يرمز إلى الثأر في التراث الإيراني. فهل رفع العلم الأحمر سيعوّض “المقاومة” عن الفقد الذي تشعر به ويملأ الفراغ الذي استباح وكلاءها مع مقتل كل قائد من القادة الثلاثة. مما يوحي بشكل واضح أن إيران تستخف بمشاريع “المقاومة العربية” وتمارس ضغوطاً نفسيةً قاسية تمثلت أخفقها في حماية القادة. ولن تحاول حل الموقف الذي عملت هي على تعقيده دون هوادة أو روية.
رابعاً: غياب الحماية الأمنية
تمارس إسرائيل بهذه الاغتيالات المتباعدة جغرافيا والقريبة زمناً حرب نفسية أولاً، تهدف فيها إلى إظهار الضعف لدى “محور المقاومة” ولدى إيران وهذا ما تحقق بالفعل. كما أن هذه الاغتيالات تمثل وبشكل صريح نوع من الضغط النفسي الذي غالباً ما يهدف إلى إضعاف إيمان الجماعة المعادية بكل ما يخصّها من عقيدة أو مبادئ أو قيم.
وفي حين تمكنت إسرائيل، على سبيل المثال، من توجيه ضربات خطيرة ومميتة للغاية للموارد البشرية والمعدات الإيرانية والجماعات الوكيلة لها، فإن إيران في المقابل لم تتمكن أبدًا من توجيه ضربة مضادة لأعدائها، على الرغم من ضجيجها الهائل ووعودها العديدة.
اليوم بعد هذه الاغتيالات بات من المستحيل على إيران أن تتحدث عن الأمن القومي الخاص بها أو بـ”محور المقاومة”، فهذه ليست العملية الأولى التي تحدُث داخل إيران فهناك عشرات العمليات نذكر منها ما حدث في كرمان بداية العام الحالي، من مقتل 95 شخصاً في انفجار قنبلتين بالقرب من قبر سليماني.
وهذا ليس جديد فقد حذّر وزير الاستخبارات الأسبق، على يونسي، من مستوى التغلغل في أجهزة المخابرات والأمن وعدم كفاءة هذه الأجهزة، لدرجة أن قادة النظام يجب أن يشعروا بالقلق على حياتهم، وقد كشف اغتيال هنية عن نقاط الضعف والثغرات هذه أمام أعين العالم بأوضح صورة ممكنة.
وضعُ إيران في المعارك الاستخباراتية والأمنية للدول المتحاربة في التاريخ المعاصر، إن لم يكن فريدًا، فقد قل نظيره بالتأكيد، ومن الصعب العثور على أمثلة مماثلة لإخفاقاتها الواسعة النطاق. وهنا يرى عبد المقصود في حديثه مع “الحل نت”، أنه قد تكون هناك ضغوط داخلية من “محور المقاومة” تطالب بإعادة النظر في التحالفات الاستراتيجية مع إيران. هذا بالإضافة إلى التداعيات الخارجية، فقد تسعى الفصائل التابعة لإيران إلى تحسين علاقاتها مع دول الجوار، التي يمكن أن يصبحوا شركاء أكثر موثوقية من إيران.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.