تتدافع عمليات التصعيد الإيراني ضد القوات الأميركية في أكثر من نقطة جغرافية بالشرق الأوسط، وذلك استناداً لمناطق النفوذ الإيراني وحضور الميلشيات التابعة لطهران، ومن خلال ذلك، قصفت الميليشيات الإيرانية عدداً من القواعد الأميركية في العراق وسوريا، فيما ردّت واشنطن على هذا القصف بالاستهداف المباشر لتلك الميليشيات. 

غير أن التصعيد الأخير ضد القوات الأميركية في المثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسوريا، نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، خطوة مباغتة تبعث بتوسع نوعي خارج المتوقع، وقد جاء الإعلان الأميركي عن مقتل ثلاثة جنود وإصابات تجاوزت في تقديراتها الأولية 30 إصابة جرّاء هجومٍ بطائرةٍ مسيّرة على إحدى قواعدها العسكرية.

ليس ثمّة شكّ أن تلك العملية الأخيرة خطوة تصعيدية خطيرة، بل ستتبعها خطوات جادة من الولايات المتحدة حتما تتصل بضرورة تقويض النفوذ الإيراني وشلّ نشاطه وكبح تحركاته العدوانية، وفي ما يبدو أن الإدارة الأميركية لن تتجه إلى مواجهة مباشرة يترتب عليها اتساع نطاق الصراع، وستنحصر خطواتها نحو استراتيجية مفادها شلّ قدرة الميليشيات الولائية وتخفيض طاقتها بالدرجة التي تحول دون تكرار الاستهداف في مناطق أخرى، لاسيما تلك القواعد الأقل تأمينا. 

انتقام عسكري مدمّر

تدرس واشنطن الرّد عبر عدة مسارات ولم يفصح الرئيس جو بايدن عن طبيعة الرّد وتوقيته وحدوده والأفق المتوقع، حيث قال الناطق بلسان مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، وهو على متن الطائرة الرئاسية، إنه “من الممكن جدّا أن تشهدوا مقاربة متدرجة في هذه الحال، ليس مجرد إجراء واحد بل احتمال اتخاذ إجراءات عدة”.

ما سيناريوهات واشنطن لوقف تهديدات إيران التخريبية بالمنطقة؟ (3)
انتشر مظليون من الجيش الأميركي مع الفرقة 82 المحمولة جوا الرد الفوري في بغداد في أعقاب هجوم على مجمع السفارة الأميركية – إنترنت

وقال آرون ديفيد ميلر، مفاوض السلام الأميركي السابق في الشرق الأوسط والذي يعمل الآن في مؤسسة “كارنيجي” للسلام الدولي، إن هناك عددا من الطرق التي يمكن للإدارة أن تردّ بها على الهجوم الجديد على “البرج 22” دون مهاجمة الأراضي الإيرانية. 

وهي تشمل ضرب أفراد إيرانيين في سوريا أو العراق أو الأصول البحرية الإيرانية في الخليج العربي، وأضاف بحسب ما نقلت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال”: “ما تحتاج الإدارة إلى القيام به الآن هو إرسال إشارة واضحة مفادها أن استمرار هذه الهجمات سيؤدي إلى ردّ فعل أميركي أقوى بكثير، ويمكننا أن نفعل ذلك دون تجاوز الخط الأحمر الإيراني، وهو الضربات المباشرة على الأراضي الإيرانية”.

ومع ذلك، دافع بعض الجمهوريين عن الاتحاد الراديكالي في الرّد، وأشاروا إلى احتمالية ضرب أهداف في إيران، وأنه ينبغي وضعه في الحسبان، وقال السيناتور الجمهوري، توم كوتون، والذي يشغل عضوية لجان الخدمات المسلحة والاستخبارات بـ”مجلس الشيوخ”، إن الولايات المتحدة يجب أن تردّ على الهجمات من خلال “انتقام عسكري مدمّر ضد القوات الإرهابية الإيرانية، سواء في إيران أو عبر الشرق الأوسط”.

لكن النائب سيث مولتون، وهو ديمقراطي من ولاية ماساتشوستس ويعمل في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، قد حذّر من المخاطرة بحرب كبرى مع إيران. وقال: “من الميليشيات المدعومة من إيران إلى الصين، لدينا أعداء في جميع أنحاء العالم يريدون رؤية أميركا متورّطة في حرب أخرى في الشرق الأوسط، يجب أن يكون لدينا استجابة فعّالة واستراتيجية وفقا لشروطنا و جدولنا الزمني”.

بؤرة ساخنة جديدة

في مسار التصعيد الذي تشهده المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فإن عديد السيناريوهات والمآلات تبدو مطروحة وداخل حيّز الاحتمالات، بما يجعل من الضروري متابعتها وتدقيقها لفهم تداعياتها على الوضع السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط. 

القوات الأميركية القواعد إيران العراق سوريا النظام الإيراني الميليشيات الإيرانية البرج 22
صورة أقمار صناعية بتاريخ 12 أكتوبر 2023 لقاعدة أميركية تعرف باسم برج 22 شمال شرق الأردن. قُتل ثلاثة جنود أميركيين وأصيب “العديدون” في 28 يناير/كانون الثاني في غارة بطائرة بدون طيار على المنشأة. (AP)

ويرتبط ذلك بشكل ودرجة وحيّز حدود الرّد الأميركي على الضربة الأخيرة، خاصة أن الاستهداف الأخير كان مباشرا ضد القوات الأميركية، وخلّف قتلى ومصابين في توقيت دالٍ ولافت للإدارة الأميركية التي تستقبل مشهد الانتخابات الرئاسية.

ثمة نقطة أخرى في الاستهداف الأخير من قِبل “كتائب حزب الله” في العراق،  وهو ما يتمثل في إضافة بؤرة ساخنة جديدة في الصراع بين طهران وواشنطن، وبعيدةً بشكل ما عن مناطق حضور الميليشيات الخاصة بإيران، الأمر الذي يضع حسابات إرباك المشهد الإقليمي وتعميق تناقضاته حيز الترجيح.

فمن اللافت بالعملية الأخيرة حدوث اختلاف في التصريحات والبيانات الصادرة عن أطراف الاستهداف، حول تحديد دقيق لموقع القاعدة العسكرية الأميركية التي قُتِل فيها الجنود الأميركان الثلاثة. فوفق القيادة المركزية الأميركية وقع الهجوم على قاعدة الدعم اللوجستي الواقعة في “البرج 22” في المثلث الحدودي الفاصل بين الأردن وسوريا والعراق بالتحديد شمال شرق الأردن ناحية الحدود مع سوريا. 

يعني ذلك أن العملية وقعت في منطقة الركبان الأردنية المقابلة لمنطقة التنف بسوريا، بينما  التصريح الأردني الأولي أكد أن الهجوم حصل خارج الحدود الأردنية، إلا أن الأردن أصدرت لاحقا بيانا رسميا قال فيه إن الهجوم الإرهابي استهدف موقعا متقدما على الحدود مع سوريا بلا تحديد لطبيعة هذا الموقع هل هو على حدودها مع سوريا أم حدث الاستهداف داخلها.

فيما جاء البيان الصادر عن مكتب “المقاومة الإسلامية في العراق”، أن  إقدام فصائلها على استهدف أربع قواعد خارجية ثلاث منها في سوريا هي قاعدة “الشدادي” وقاعدة “الركبان” و”قاعدة التنف” والرابعة تجاه منشأة “زفولون” البحرية داخل فلسطين بطائرات مسيرة، كما لم يفت البيان الربط الواضح بين ما نفّذته ومسار الأحداث في غزة.

توقيتات مدروسة

يقيناً حمل الاستهداف الأخير تطوّرا نوعيا في دخول نقطة جغرافية جديدة تتمثل في الأردن الذي يواجه ضغوطا متزايدة من الجانب الإيراني عبر سوريا  من خلال عمليات تهريب المخدرات والأسلحة للداخل الأردني، مما يضع احتمالات فتح مساحات حركة للميليشيات التابعة لإيران أن تعمل ضد الدول المتاخمة حدوديا.

الولايات المتحدة وزير الخارجية أنتوني بلينكن يتبادل العملات المعدنية مع مفرزة حراسة أمنية بسفارة مشاة البحرية الأمريكية في بغداد، العراق، 5 نوفمبر 2023. (رويترز/جوناثان إرنست)

نحو ذلك يشير الأكاديمي الأردني، محمد الزغول، إلى أنه يمكن فهم  السياق الذي جاءت من خلاله الهجمات التي ينفذها ما يسمى “محور المقاومة” على قواعد ومواقع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وأيضا المصالح والمواقع الإسرائيلية عبر مسارين. 

يتابع  كبير الباحثين في مركز “الإمارات للسياسات” حديثه لـ”الحل نت”، أن المسار القديم  موجود  منذ سنوات وتعزّز بشكل رئيس بعد  اغتيال  قائد “فيلق القدس” السابق، قاسم سليماني، والآخر جديد مرتبط بسياق السابع من تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي في غزة.

يلفت الزغول، إلى أن المسار القديم خلاصته في كون إيران منزعجة تاريخيا  من الحضور العسكري الأميركي في المنطقة، وأن إيران تقرأ في السياق الدولي بأن “الغرب عموما في حالة أفول والشرق في حالة صعود، والقراءة الاستراتيجية الإيرانية في ذهنية المرشد علي خامنئي وتتبناها قوى الحرس الثوري الإيراني تقوم على مرتكز أن التوجه شرقا يعني  المصلحة الاستراتيجية الإيرانية، وبأن الانفتاح على الغرب يعني تجربة تمت محاولة خوضها عدة مرات وأخفقت”.

بالتالي، يضحى التعاون مع الغرب دائما مشروطاً، وشروطه قاسية تصل إلى حدّ المساس بالسيادة والكرامة الإيرانية، كما يوضح الباحث والأكاديمي الأردني. بينما التعاون مع الشرق “أيسر كثيرا إذ إن الصين وروسيا لا تشترطان على إيران تغييرات في بنية النظام وطبيعته وفي علاقاته، وفي أيديولوجية النظام مقابل تعزيز التعاون التكنولوجي والاقتصادي والعسكري وغيره”.

بالتالي ووفق هذا السيناريو، إيران وجدت أن الفرصة باتت مواتية في منطقة الشرق الأوسط للضغط على البصمة العسكرية الأميركية، وهذا قرار قديم لكن هذا القرار تم الإفصاح عنه علناً وتبنيه بشكل رسمي بعد اغتيال قاسم سليماني، بحيث عبّر أكثر من مسؤول إيراني بشكل صريح عن أن الانتقام الكبير لسليماني سيكون إخراج القوات الأميركية من المنطقة، ومن ذلك الحين بدأت العمليات العسكرية الإيرانية تستهدف القوات الأميركية.

في سياق هذه الاستراتيجية يتعمّد النظام الإيراني أن تكون ضرباته نوعية، وتستهدف الضغط على حضور القوات الأميركية في المنطقة بشكل كبير، بيد أن طهران تتعمد أيضا تضييق المساحات التي تكفل لواشنطن أن يكون ردّها واسعا وعميقا؛ لذا دوما تعمل طهران على أن يكون زمن ضرباتها وتصاعد وتيرته مرتبط بتوقيتات مدروسة، لا سيما مع الفترات التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية.

إذاً، فلسفة قاسم سليماني والتي ما زالت طهران تتبناها حتى اللحظة، هي  “ترفع من درجة حرارة الأحداث في المنطقة، وتستقر نحو أن أميركا عليها أن تواجه ستة جيوش قبل أن تحارب الجيش الإيراني؛ بالتالي يمكن للمفاوضات وحديث السياسة أن يكون له محل اعتبار وقيمة هامة، فضلا عن تحركها التكتيكي حاليا نحو ربط كافة تحركات وكلائها في المنطقة بمسار الصراع في غزة والضغط على واشنطن”، يقول الزغول.

فرحة بالحرب

إيران تراهن على التوازن الدقيق في الفعل ورد الفعل مع الولايات المتحدة الأميركية، وتقدر أن رد الفعل الأميركي أمام تصعيد ميليشياتها ضد المنشآت العسكرية الأميركية سيستند في أغلب الظن إلى حرص واشنطن على عدم التصعيد.

القوات الأميركية القواعد إيران العراق سوريا النظام الإيراني الميليشيات الإيرانية البرج 22
القوات الأميركية في قاعة “التنف” على الحدود السورية الأردنية – إنترنت

على أية حال، لا يمكن بأي صورة أن يتأخر الرّد الأميركي على الهجوم الذي تعرضت له قاعدة أميركية مؤخرا، كما يمكن قراءة أن ردّ واشنطن سيكون من خلال عملية نوعية تستهدف البنى التحتية التي تعتمد عليها الميليشيات الإيرانية وقياداتها الميدانية. 

ويأتي السيناريو الأقل ترجيحا ولكنه غير مستبعد أن يتم استهداف أحد المواقع الرئيسة لـ”الحرس الثوري” الإيراني في الداخل بالدرجة التي تسمح بتعطيل حركته ونشاطه مرحليا، غير أن السيناريو الأكثر واقعية أن الضربة الأميركية ستستهدف الميليشيا الإيرانية في العراق بشكل مباشر.

من جانبه يذهب مهدي عقبائي، عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية،  بقوله: “ربما من المنطقي فهم أنه لا أميركا ولا النظام الإيراني وعلى رأسهم علي خامنئي يريد توسيع الحرب، وقد اعترفوا بذلك مرات عديدة. لذلك، رأينا اليوم تأكيد ذلك الموقف المهادن من مواقف كتائب حزب الله في العراق والتي أعلنت وقف نشاطاتها وتجميد عملياتها ضد الولايات المتحدة، خامنئي لا يريد خوض الحرب فحسب، بل يتجنبها أيضاً”.

بينما يبحث الجميع عن طريقة لتهدئة الأوضاع، فإن خامنئي وقيادات النظام هم الوحيدون الذين يفرحون كثيراً بالحرب وحجم توسّعها إذا لم يدفعوا الثمن بأنفسهم، لأنهم بذلك يحاولون توسيع نطاق نفوذهم.

مهدي عقبائي، عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية

وفي الوقت نفسه، فإنهم يظهرون الحذر الشديد حتى لا تصل آثار الحرب إلى عتبة منازلهم، لكنهم يريدون توسيع الصراع على حساب حياة وأمن شعوب فلسطين والعراق واليمن ولبنان وسوريا من دون أن تكون على استعداد لتحمل العواقب.

إن الحرب في غزة وطبيعة تعامل النظام الإيراني معها ومحاولته استغلالها لمصلحته، بعد أن أدرك المجتمع الدولي تماما الدور السلبي لهذا النظام، “غيرت التوجه الدولي تجاه القضية الإيرانية، ومعرفة الأهداف والغايات المشبوهة لهذا النظام، والتي كشفتها المقاومة الإيرانية الواحدة تلو الأخرى، فقد تبين للجميع أن الحرب من أجل النظام ما هي إلا غطاء للاختناق الداخلي، وهذا هو السبب الذي دفعه إلى ذلك. تزايدت موجة الإعدامات في هذه الأشهر الأربعة”، وفق حديث عقبائي.

ونتيجة لذلك، يبدو النظام الإيراني الآن في مأزق لا رجعة فيه، ورغم أنه يقدم التنازلات تلو الأخرى على أمل بقائه واستمراره، إلا أن لا أحد يثق بالنظام والتزامه بتعهداته، فهو مثل “الرهان على حصان خاسر”، بحسب المصدر ذاته.

إذا يرى عقبائي، أن خلق الأزمات والحرب في المنطقة هي لضمان بقاء النظام داخل إيران، فضلا عن كونه استراتيجية نظام الملالي لحماية سلطته وتشتيت خصومه والتعمية عن أزماته وجرائمه؛ وبالتالي لن يتحقق السلام في الشرق الأوسط إلا بإسقاط نظام الملالي. 

وحتى لو انتهت الحرب في غزة بطريقة أو بأخرى، فإن الحرب ستستمر في مناطق أخرى، لأن الشعب السوري يعاني منذ أكثر من 12 عاما بسبب تدخلات الملالي في سوريا وتحريضهم على الصراع هناك، ولقد ظل الشعب العراقي ضحية نظام الملالي لأكثر من 20 عاما.

ولذلك، فسيناريوهات الردّ الأميركي على هجوم الميليشيا التابعة لإيران، والدرجة التي ستكون عليها، هي ما سوف تحدد مدى قدرة وإمكانية طهران على استكمال سياستها التخريبية التي تعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة وتوظيف وكلائها في الجغرافيا الساخنة لخدمة أهدافها السياسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات