يفاقم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من خلال مواصلة التعبئة العسكرية وعمليات التجنيد التي ترقى إلى كونها قسرية، الأوضاع المأزومة في سياق غزوه لأوكرانيا. إذ أن التعبئة التي يتخوف منها الروس تجعل حيواتهم تنقلب رأسا على عقب، بينما راكمت سياسة إدامة الحرب وتوسيع الصراع، مخاوف جمّة بشأن استقرار الأمن الاجتماعي مع تضاعف الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية، وأزمة التضخم، رغم ما يبدو علانية ووفق الأرقام الرسمية أن الاقتصاد الروسي متماسكا. 

وتعاني روسيا من ارتفاع معدلات التضخم التي لامست حدود 7.4 بالمئة وفق بيانات وكالة الإحصاء الفيدرالية “روستات”، الشهر الماضي شباط/ فبراير، وكذا تراجع القدرة الشرائية للمواطن، بخاصة مع ارتفاع الأسعار وتدني العملة المحلية أمام الدولار واليورو بفعل العقوبات، الأمر الذي اضطر الرئيس الروسي بأن يطالب خلال انتخابات الرئاسة بضرورة “الحفاظ على التوازن بين أهداف التنمية، وزيادة الاستثمارات والقروض، والحفاظ على فرص العمل وضمان استقرار الأسعار”.

بوتين يستعين بالتجنيد العسكري

وكالة الأنباء العالمية “رويترز“، كشفت عن وثيقة نشرت عبر المنصة الرسمية للكرملين فيها مرسوم بتوقيع الرئيس فلاديمير بوتين يوصي باستكمال التجنيد العسكري في فصل الربيع المقبل، واستدعاء نحو 150 ألف مواطن لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية. مع الأخذ في الاعتبار أن “الكرملين” عدّل في تموز/ يوليو العام الماضي الحد الأقصى للتجنيد إلى 30 عاما، عوضا عن 27 عاما، بحيث تشمل الخدمة الإلزامية بالجيش كافة الرجال من سن 18 عاما لمدة عام أو الانخراط في تدريب عسكري مماثل خلال فترة الدراسة الجامعية، وهو القرار الذي دخل حيز التنفيذ، مطلع العام.

استدعاء روسيا لـ 150 ألف مواطن للتجنيد يعد “خطوة خطيرة”، تعكس استمرار التصعيد في الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا، وتزايد التوترات مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا.

وهذه الخطوة قد تزيد من هواجس المواطن الروسي حيال تدهور العلاقات الدولية واحتمالية تصاعد الصراع بشكل أشرس واحتمالية شمول جزء من المنطقة الأوروبية وتدخل فرنسي مباشر في ظل دعوات تعبئة للجنود والتطوع في عدة بلدان أوروبية، وهذا هو “نذير حرب” حقيقية ستندلع تصاعديا باتجاه حرب شاملة في المنطقة، حسبما يوضح نائب مدير “مركز الرافدين الدولي للعدالة وحقوق الإنسان” في جنيف، عادل الخزاعي. والخطير في هذه المرحلة، هو نوع الحرب وعدم وجود وكلاء في المنطقة للدفاع عن روسيا وفي الطرف الآخر أوكرانيا لن تستطيع الصمود والاستمرار بدون وجود قوة داعمة على الأرض، وهذا ما يسعى إليه الروس لجر بعض الدول الأوروبية لمنطقة الصراع للاستنزاف.

وعلى صعيد الاقتصاد الروسي، قد يكون لهذا الاستدعاء تأثير سلبي على الميزانية العامة، حيث يتطلب تجهيز وتدريب هذا العدد الكبير من الجنود تكاليف مالية هائلة ونفقات ضخمة، وهو ما أوصل المواطن الروسي حد “السخط” و”الاحتجاج”. يقول الخزاعي لـ “الحل نت”. الأمر الذي يقابل بالسجن والقمع من قبل موسكو ويطاول كل المعارضين للحرب في كييف، بالإضافة إلى ذلك، قد يزيد هذا الإجراء من التوتر في السوق العسكرية العالمية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأسلحة وتكاليف الإنفاق العسكري.

بالتالي، فمن الناحية السياسية، فقد يتسبب هذا الاتجاه نحو العسكرة في تعزيز سياسات قمع الأصوات المعارضة داخليا، حيث قد تستخدم الحكومة الروسية هذا التصعيد لتبرير قمع أي مظاهر للمعارضة تجاه الحرب في أوكرانيا، وقد يتم تشديد الرقابة والقيود على الحريات المدنية والديمقراطية في البلاد. 

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحدث مع طيارين في مركز تدريب أطقم الطيران في بلدة تورجوك بمنطقة تفير – (رويترز)

وبشكل عام، فإن زيادة التوترات والتعبئة العسكرية تعمق الانقسامات وتعقد الأوضاع الدولية والداخلية في روسيا بشكل أكبر، ثم جر المنطقة لحرب عالمية جديدة وانعكاساتها على الحروب الصغيرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث ستتغير خارطة التحالفات الدولية باتجاه مع أو ضد ولن يكون هناك موقف محايد أو ممتنع.

لا تعد هذه المرة الأولى التي يلح فيها بوتين على مضاعفة قواته العسكرية، إنما سبق وطالب بأن يتضاعف العدد لنحو 15 بالمئة، نهاية العام الماضي، وذكر البيان الرسمي للجيش الروسي، أن “الزيادة في القوة الدائمة للجيش ترجع إلى التهديدات المتزايدة لبلادنا والمرتبطة بالعملية العسكرية الخاصة والتوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي”. وقال إن العدد المتوقع لزيادة أفراد الخدمة العسكرية نحو 170 ألفا، حتى يكون إجمالي عدد الجنود قرابة المليون جندي. 

وثمة تلميح في البيان تبطن تهديدات بشأن وجود تفاوتات أو خطط مغايرة لعملية التجنيد الإلزامي والذي تسبب في تسجيل وقائع هروب جماعية نتيجة مخاوف من تلك المستجدات. وقد كشفت عن ذلك صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية، قبل أقل من عامين، موضحة أن 261 ألف شخص هربوا من الالتحاق بالخدمة الإلزامية.

خطوة قد تزيد توترات عديدة

الحرب التي شنها بوتين على أوكرانيا، قد نجم عنها ضحايا مدنيين و”خسائر بشرية مروعة” وطاولت المعاناة ملايين المدنيين وفق مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، والذي قال بالتزامن مع الذكرى الثانية للحرب، “لا يزال الهجوم المسلّح الواسع الذي تشنه روسيا على أوكرانيا والذي يوشك على دخول عامه الثالث دون نهاية تلوح في الأفق، يتسبب في انتهاكات خطيرة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان ويدمّر الأرواح وسبل العيش”.

وعليه، فإن استدعاء روسيا لعدد كبير من المواطنين للتجنيد يمكن أن يؤدي إلى زيادة التوترات داخل روسيا نفسها، بل قد يثير هذا القرار مخاوف المواطنين بشأن الاستقرار الداخلي وتأثيره على حياتهم اليومية واقتصاد البلاد وخاصة بعد تدخل بوتين في الشأن الأوكراني عسكريا وسياسيا. كما قد يزيد الضغط على الحكومة الروسية لاتخاذ إجراءات عسكرية أكثر تصعيدا في أوكرانيا، مما قد يؤدي إلى مزيد من التوترات الدولية والعواقب الجيوسياسية.

ويقول الصحفي المختص في الشؤون السياسية والإقليمية شيار خليل لـ “الحل نت”، إنه على الصعيد الاقتصادي، فإن التركيز المتزايد على الجانب العسكري من قبل الحكومة الروسية قد يقلل من الاستثمارات في القطاعات الأخرى من الاقتصاد، مما يمكن أن يؤثر سلبا على النمو الاقتصادي وفرص التوظيف. وبشكل عام، يمكن أن يزيد تصعيد الأوضاع العسكرية والتوترات الدولية من الضغوط على المواطنين الروس ويعزز الاستعداد العسكري والتصعيد، مما قد يؤدي إلى دوامة من التوترات والصراعات المزمنة.

بوتين يسعى من خلال حيل مختلفة إخفاء الشروخ الاقتصادية، فضلا عما يتسبب فيه ارتفاع تكاليف الحرب والنفقات العسكرية والدفاعية على حكومته، وتداعياتها على المواطن الروسي، لدرجة أن صحيفة “فايننشال تايمز” كشفت عن تململ في أوساط رجال الأعمال الروس حتى من ذوي الصلات بالنخبة السياسية والعسكرية الرسمية.

فيما سبق للصحيفة البريطانية أن نقلت عن كونستانتين سونين الخبير الاقتصادي والأكاديمي بجامعة شيكاغو في الولايات المتحدة قوله: “يتطلع بوتين إلى تحقيق هدفين هما بالنسبة له أولويات قصوى: وهما الحرب والسلطة، ومن ثم، فكافة الإجراءات المرتبطة بالميزانية تجري بالشكل الذي يمنح صناع السياسات الضمانات الكافية بشأن امتلاك المجلس العسكري على ما يحتاجه لاستكمال الحرب وبعد ذلك يتم التفكير في معالجة بقية الميزانية، ولإنجاح المهمة الأخيرة يتم التفكير أو البحث في مصادر غير تقليدية لجمع ومصادرة الأموال”. وتقول إنه ضمن خطط التمويل العام الحالي، ستتضاعف العوائد غير المنتظمة في الميزانية الجديدة لتصل إلى 2.52 تريليون روبل وذلك خلاف القيمة التي بلغتها العام الماضي ووصلت لنحو 745 مليار روبل فقط.

لكن المسؤولة السابقة في أحد البنوك المركزية وكبيرة الاقتصاديين في مؤسسة “رينيسانس كابيتال” البريطانية صوفيا دونيتس قالت إن: “هناك احتمال ألاّ تحصل روسيا على نحو مليار روبل من العوائد المتوقعة؛ لأن الميزانية تستند إلى توقعات اقتصادية متفائلة أكثر مما ينبغي”، مضيفة أنه في هذه الحالة من المرجح أن تفرض الحكومة الروسية المزيد من الرسوم التي تُدفع لمرة واحدة كما فعلت في الماضي، فخفض الإنفاق في مجالات أخرى غير الدفاع كان الملاذ الأخير.

المؤشرات الحالية تشير، إلى أن الرئيس الروسي مصمم على موقفه من المواجهة مع الغرب عبر البوابة الأوكرانية، ومن هنا جاء قرار 150 ألف شخص للتجنيد الإجباري وهو أعلى رقم منذ 8 سنوات، وفق الباحث المختص في الشؤون السياسية وقضايا الأمن الإقليمي المقيم في واشنطن زياد سنكري، لافتاً لـ “الحل نت”، إلى أنه برغم وعود بوتين بأن هؤلاء الجنود الذين تم استدعاؤهم لن يحاربوا على الجبهة الأوكرانية، تشير التجربة بقيام القيادة العسكرية الروسية بالإخلال والتملص من كل هذه الوعود بحجة الأمن القومي الروسي.  

“بوتين يعول على فوز الجمهوريين”

هذا المؤشر يشكل تصميم روسي على إحداث خرق من خلال التعويل على صبر نفاذ الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، حيث بدأت تعلو بعض الأصوات في مجلس النواب تحديدا، تدعو إلى وقف الدعم العسكري لأوكرانيا، وفق سنكري. ويردف: “القيادة الروسية اتخذت قرارا بأن النزاع مع أوكرانيا هو نزاع مباشر مع الغرب، وعليها تعزيز جبهتها العسكرية وضخها بدماء جديدة لوضع الضغط على القيادات الغربية بأن هذا الصراع سيطول إلى حين الانتخابات الأميركية، حيث يعول على بوتين فوز الجمهوريين وعودة ترامب إلى البيت الأبيض وهو ما سيخدم الأجندة الروسية”.  

كل هذا يأتي مع توظيف بوتين “للسلاح الديني” الذي باعتقاده يمكن أن يشد عصب الروس، حيث تلقى رجال الدين الأرثوذوكس أوامر مباشرة بالدعاء لنصر روسيا في حربها والصلاة لكي يمنح الرب الانتصار لموسكو، كما يشير الباحث المختص في الشؤون السياسية وقضايا الأمن الإقليمي المقيم في واشنطن، حتى وصل الأمر بتهديد رجال الدين بالفصل في حال لم يلتزموا بالتعليمات. كل هذا يؤشر إلى استمرار هذا الصراع لأجل طويل حيث يحاول الروس استغلال النقص بالذخيرة والأسلحة لدى الأوكرانيين. بمجرد استخدام الدين في اي حرب في دولة كبرى، هذا بحد ذاته يعتبر دليل ضعف لانتفاء الحجج لإقناع المواطن العادي الذي بدأ يتذمر من تداعيات معركة لا أفق للنصر فيها. 

كل هذه الخطوات الروسية من شأنها أن تزيد الضغط على الاقتصاد الروسي، حيث من المرجح أن تلجأ الولايات المتحدة إلى سلاح العقوبات الذي من شأنه أن يزيد الضغط على الرئيس الروسي وخصوصا، أن الاقتصاد الروسي أمام امتحان هذا العام بعد انتقادات العديد من الخبراء لتقارير الحكومة الروسية حول وضع الاقتصاد، فهم يعتبرون أن موسكو تقوم بإعداد التقارير “حسب الطلب” والتحايل على الأرقام لإظهار أن العقوبات لم تؤثر على الوضع الاقتصادي للبلاد، وفق المصدر ذاته. 

العديد من الخبراء يشبهون الاقتصاد الروسي الحالي إلى ما كان عليه أواخر أيام الاتحاد السوفيتي. ويردف سنكري: “الغرب يعتقد أن تشديد سلاح العقوبات من شأنه أن يحرض الرأي العام الروسي ضد بوتين لا سيما أن هناك قطاعات لم تشملها العقوبات وهي تشكل ربع إيرادات الاقتصاد الروسي”. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة