مع دخول الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الثالث مؤخرا، تبقى أسئلة دون إجابة واضحة، حول تأثير هذه الحرب على الدور الروسي، لا سيما العسكري في سوريا، فما هو حجم نفوذ موسكو في دمشق اليوم بعد 9 سنوات من دخول قواتها العسكرية للأراضي السورية؟

آثار الحرب الروسية الأوكرانية على الدور الروسي في سوريا بدت محدودة للغاية، حسب الباحث في العلاقات الدولية، محمود علوش. معللا الأمر بعدم اضطرار روسيا لتقليص نشاطها العسكري نتيجة اقتصار وجودها العسكري في سوريا على عناصر من مجموعة “فاغنر”، وأفراد من الشرطة العسكرية وعدد من القواعد العسكرية. وتاليا، تجاوز الصراع السوري مرحلة الحرب التقليدية منذ عام 2017. حيث أدارت موسكو الساحة السورية بعد هذا التاريخ من خلال ديناميكيات التعاون الروسي-التركي-الإيراني عبر “منصة أستانا”، والتي ساهم تحول السياسة التركية منذ عام 2016 بإعطائها أهمية متزايدة، عبر التعاون مع روسيا وإيران لإدارة الوضع السوري. كذلك، ساهم تكبيل المعارضة السورية المسلحة بالستاتيكو الذي أفرزته هذه “المنصة”، بإفقادها القدرة على إعادة خلط أوراق الصراع.

سياسيا، أصبحت روسيا بحاجة لتوازن علاقاتها التنافسية مع تركيا في سوريا، نتيجة لحاجتها لموقف تركي إيجابي أو حيادي في الملف الأوكراني، وسواه من الملفات الدولية، حسب يوسف الحمود، وهو رائد طيار منشق عن القوى الجوية السورية. وهذا ما أدى لتجميد التصعيد العسكري ودفع الحل السياسي إلى الواجهة بدلا عنه، إرضاء أو تحييدا للتأثير التركي، إلى جوار دول إقليمية أخرى، كانت تتباين مع موسكو في سوريا، لكنها اتخذت مواقف متفهمة للحجج الروسية في أوكرانيا. وإلى جوار دفعها ودعمها للحل السياسي، اتجهت موسكو للإمساك بالقرار الأمني والعسكري لحكومة دمشق، عبر إرغام بشار الأسد على إعادة تجميع وهيكلة القوى الأمنية، أو عبر تعيينات عسكرية، تتصدرها شخصيات موالية لموسكو.

حسب علوش، لعبت الأرضية المشتركة لدى الدول الثلاث بتقويض الوجود العسكري الأميركي في سوريا دورا بارزا في تحييد آثار الحرب بأوكرانيا على دور روسيا في سوريا. كما أدى امتناع الدول الداعمة للمعارضة السورية بداية الصراع السوري عن الانخراط مجددا فيه لمحافظة موسكو على وجودها ونفوذها ودورها الضابط لإيقاع أدوار القوى الإقليمية المنخرطة في هذا الصراع، كإيران وتركيا وإسرائيل. ومؤشر هذا النجاح، إطلاق موسكو لمسار تفاوضي بين تركيا والنظام السوري، باعتباره تتويجا للحالة الروسية الجديدة. منوها لتعالي التناغم بين موسكو وأنقرة، نتيجة حاجة الأولى لموقف تركي محايد تجاه الحرب في أوكرانيا، وعدم انخراطها في العقوبات الغربية ضد روسيا. ما ولّد اعترافا بدور تركي أكبر في سوريا.

انسحاب روسي مؤثر؟

مع ذلك، سحبت روسيا عددا من قواتها العاملة في سوريا، حسب بعض المصادر، والتي وصفتها أنها قوات نخبة مقاتلة ممن اكتسبوا الخبرة الميدانية في سوريا للزج بهم في الحرب الأوكرانية. مع سحب موسكو لبعض منظومات دفاعها الجوي من سوريا. فيما قالت مصادر أخرى، إن الانسحاب الروسي جزئي، غير بالغ الأثر، لا سيما مع هدوء جبهات المواجهة في سوريا منذ عام 2019. وثالث الأقوال: عدم وجود انسحاب روسي، إنما عملية إعادة تموضع للقوات الروسية، لعدم ترك فراغ عسكري استراتيجي روسي في سوريا. لكن الراجح، حسب الخبيرة المتخصصة في الشؤون السياسية العربية، صافيناز محمد أحمد، وجود انسحاب أيا كان مسماه، جزئيا أو نوعيا، وهو ما أفاد إيران، نتيجة تسليم روسيا لعدد من قواعدها العسكرية ونقاط شرطتها العسكرية إلى “الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله” اللبناني. وكذلك، استفراد إيران بالإشراف العسكري والأمني في بعض مناطق دير الزور، والذي كانت تتقاسمه مع القوات الروسية.

خلال حديثه لموقع “الحل نت”، يقول الرائد حمود: مع طول أمد الحرب الروسية – الأوكرانية، اضطرت الأولى لتقليص قواتها في سوريا. ويؤيد ذلك، تقليص عدد الطلعات الجوية الروسية في السماء السورية، إلى جانب ورود أسماء عدد من الطيارين والمستشارين العسكريين الروس الذين خدموا في سوريا بين القتلى في الحرب الأوكرانية. مضيفا، أن تراجع النشاط العسكري الروسي في سوريا، أدى لتقوية النفوذ الإيراني، بتعزيز نفوذ الأخيرة لتفوز في الملفات العسكرية والاقتصادية وصولا للقرار السياسي السوري. خلالها، بدأ الدور الإيراني بالنمو على حساب الدور الروسي. فعلى الرغم من دورهما المتكامل في سوريا، لكن ذلك لا يعني تناغمهما في العمل، لا سيما عند تضارب مصالحهما. حيث استثمرت روسيا في الميليشيات الولائية الإيرانية والقوات التابعة إلى “الحرس الثوري الإيراني” لتغطية تقليص عدد قواتها في سوريا، نتيجة غزوها لأوكرانيا. لكن دون وصول هذا الاعتماد لمستوى يمكن إيران من سحب الملف السوري من اليد الروسية دوليا.

غالب دالاي، وهو زميل أول غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للسياسات الدولية، يخالف صافيناز الرأي، قائلا: مع الوقت بدا أن روسيا لم تنسحب من سوريا بأي شكلٍ من الأشكال. فالدور الروسي الحاسم فيها، بات رمزا لمكانة موسكو في حد ذاته، كقوة عظمى يمكنها رسم مسار أزمة دولية كبرى والحفاظ على مصالحها في سوريا. وعليه، فإن فشل موسكو في سوريا أو انسحابها منها لم يكن خيارا لروسيا، رغم ضغط الموارد، الذي قابلته الأخيرة بتحويل تركيزها نحو مصالحها الرئيسية في غرب سوريا، مقلصة وجودها في وسط سوريا، ما أفاد إيران والميليشيات المتحالفة معها في جنوب غرب سوريا، وتماشيا مع عملية إعادة الانتشار، وبالنظر إلى الوجود الروسي المحدود في جنوب غرب سوريا ووسطها، “من المتوقع أن تزيد إيران من نفوذها الاقتصاديّ والسياسي في هاتين المنطقتين”.

كذلك، كلما خضعت موسكو للاختبار، كانت تؤكد على دورها في سوريا، حسب دالاي. ففي تموز/ يوليو 2022، أرسلت موسكو كتيبة إضافية من قوات المظلات والدفاع الجوي إلى شمال سوريا، بعد إشارة تركية بالقيام بتوغل عسكري في المنطقة. ووفقا لقائد القوات الجوية الأميركية في الشرق الأوسط، الجنرال أليكس غرينكويتش، غالبا، استقر حجم الوجود العسكري الروسي في سوريا بعد عمليات إعادة الانتشار الأولية. وبالتالي، تحتفظ موسكو من خلال تشبثها بدورها في سوريا، ولو بطريقة معدلة، بمصادر نفوذ وأشكال من الترابط مع الدول الإقليمية، والتي تؤثر في سياسات هذه الدول إزاء الحرب الأوكرانية. إلا أن استمرار الحرب في أوكرانيا سيؤدي لتقوية نفوذ الدول الإقليمية بشكل تدريجي في تعاملاتها مع موسكو.

الحرب الروسية الأوكرانية أثرت على الدور الروسي في سوريا على ثلاثة مستويات، حسب فراس علاوي، وهو صحفي سوري ومدير تحرير موقع “شرق نيوز”. أولها، عسكري، عبر إشغال روسيا في أوكرانيا عسكريا، مما قلّص الدعم العسكري الروسي لسوريا. مشيرا خلال حديثه مع “الحل نت”، إلى تأثر الوجود الروسي في سوريا بعد غياب مجموعة “فاغنر”، نتيجة صدام المجموعة مع النظام الروسي صيف العام الماضي، نظرا لاعتماد الوجود الروسي في سوريا كثيرا على عناصر “فاغنر” واعتبارها ذراع روسيا القوية في سوريا. وعليه، هناك تأثير عسكري، لكنه غير واضح تماما، على الوجود الروسي في سوريا، لكون الوجود الروسي هو وجود فعال فقط في مناطق سيطرة حكومة دمشق منذ عام 2016.

تغيير مهام القوات الروسية في سوريا

بعد إشارتها لتغيير مهام القوات العسكرية الروسية في سوريا، مع بدء حربها في أوكرانيا، من مهام قتالية إلى مهام حفظ الأمن والاستقرار، ترى صافيناز، أن جبهة الجنوب السوري، التي دخلت خفض التصعيد عبر توافقات روسية – أميركية تقضي بإبعاد الميليشيات الإيرانية مسافة 80 كم بعيدا عن حدود الجولان المحتل، كانت الأكثر استعدادا للتصعيد تأثرا بالانشغال الروسي بأوكرانيا. وخلالها، شهد الجنوب السوري نشاطا إيرانيا غير معتاد منذ آذار/ مارس 2022، ما سبّب قلقا لكل من الأردن وإسرائيل، ما يفسر تصعيد الأخيرة عسكريا في الجنوب السوري. ويفسر أيضاً تأرجح الموقف الإسرائيلي من روسيا في حربها ضد أوكرانيا، نتيجة تراجع وتيرة التنسيق الأمني المشترك في الجنوب السوري على وقع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا.

علاقة روسيا بإسرائيل في سوريا، أحد آثار الحرب الروسية في أوكرانيا، حسب وائل علوان، وهو باحث في “مركز جسور للدراسات”، حيث اضطرب التنسيق الروسي – الإسرائيلي في سوريا، نتيجة موقف تل أبيب من الحرب الأوكرانية. ونتيجة لذلك، اضطرت إسرائيل لتغيير استراتيجيتها وقصفها لمواقع “الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله” في سوريا، سواء من حيث طريقة القصف أو بموضوع التنسيق الأمني والجوي.

بعد عملية “طوفان الأقصى”، أعادت الحاجة المتبادلة لروسيا وإسرائيل كلا البلدين للاستمرار بالتفاهمات القديمة أو لتفاهمات جديدة، بالغا أعلى مستوى للتنسيق بينهما، حسب حديث علوان مع “الحل نت”. ونتيجة لذلك، انسحب “الحرس الثوري الإيراني” من 13 نقطة كان يشغلها في القنيطرة، حّلت محله فيها قوات روسية. وبرأيه، سوريا ميدانيا وعسكريا وسياسيا، وحتى اقتصاديا، متأثرة بجميع القضايا الإقليمية والدولية ذات الصلة، وذات الصلة هنا لا تعني الجغرافيا فقط، ولا تعني التأثير المباشر، فقط، وإنما وجود مصالح للفاعلين الإقليميين والدوليين في مختلف هذه المناطق. وعليه، تتأثر الساحة السورية بالحرب الأوكرانية، بنلء على مصالح الفاعلين الإقليميين والدوليين المتشابكة.

الموضوع الاقتصادي، ثاني المستويات المتأثرة حسب علاوي، فإشغال روسيا وإنهاكها اقتصاديا، عبر العقوبات الغربية عليها، أثّر على الدعم الاقتصادي الروسي لحكومة دمشق، مع تأثيره على الدعم المادي للقوات الروسية الموجودة في سوريا. وبالتالي خفّف من عمليات الطلعات الروسية الجوية وما شابهها. وثالثها، سياسي، فمع زيادة حدة المعارك في أوكرانيا، زادت حدة المواقف الغربية المقاطعة لروسيا، وتاليا، عزل روسيا سياسيا، ما أدى لإضعاف دعمها للحكومة السورية في “الأمم المتحدة” و”مجلس الأمن” وغيرهما من المحافل الدولية. مع ذلك، فإن مستويات إضعاف الدور الروسي في سوريا الثلاث، لم تصل لمستوى الانتصار على روسيا في سوريا، “على الأقل لغاية اليوم”، يقول علاوي. وعن الجانب الاقتصادي، يقول حمود: نظرا للمتطلبات الكبيرة للحرب، لا سيما مع طول مدتها، أصبحت روسيا بحاجة للاقتصاد السوري وليس العكس.

قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، زار وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، “قاعدة حميميم” العسكرية، واجتمع ببشار الأسد. ما دلّ وفقا لمراقبين، أن سوريا باتت تمثل امتدادا للأمن القومي الروسي، لا سيما أن “قاعدة حميميم” تعتبر خط الدفاع الروسي المُتقدم في البحر المتوسط لمواجهة “الناتو”، ورغم تصاعد الأصوات في مناطق “المعارضة السورية”، لاستغلال انشغال روسيا في أوكرانيا وإشعال الجبهات مع دمشق، إلا أن التصعيد مرهون لقرار تركي لا تستطيع المعارضة بشقيها السياسي والعسكري تجاوزه. وبالنظر للواقع، لا يوجد مصلحة لكل من تركيا وروسيا بذلك. وهو ما أشار إليه مدير الدائرة الأوروبية الرابعة في وزارة الخارجية الروسية، يوري بيليبسون، بالقول: “التعاون مع الجانب التركي في المسار السوري يسير بشكل اعتيادي، ولم نلاحظ فيه أي تغييرات ناجمة عن عوامل خارجية مثل أحداث أوكرانيا”.

رد الجميل

سارعت حكومة دمشق لدعم حرب روسيا في أوكرانيا، من خلال دعم المتطوعين الذين يريدون مساندة القضية الروسية. ولإثبات جدية دعمها، عرضت شعبة المخابرات العسكرية 217 على المتطوعين عقدا يشمل مزايا مادية وعينية، حيث يقدم نحو 3000 دولار أميركي للمقاتلين المتطوعين و7000 دولار أميركي للمقاتلين الجرحى وحصصا غذائية لأسر المتطوعين. ويتضمن العقد أيضا، مبلغ تأمين بقيمة 15000 دولار أميركي يُدفع في حال وفاة المتطوع أثناء القتال. إلا أن موسكو رفضت استقبال المتطوعين الذين قدموا إلى السفارة الروسية في دمشق وإلى قاعدتها العسكرية في “حميميم”.

كذلك، أعلن الجيش الروسي إيكال مهمة تجنيد المتطوعين لشركائه في القطاع الخاص، كشركة خدمات الحراسة والحماية “الصياد”. مع ذلك، لم يكتب لمحاولة روسيا استخدام بعض السوريين وقودا لحربها في أوكرانيا النجاح. حيث عانت استراتيجية موسكو المعتمدة على تدفق المقاتلين الأجانب لتثبيط عزيمة الشعب الأوكراني، وكسر المرونة المدنية، وحرمان الجيش الأوكراني من الدعم الشعبي، من تناقضات تكتيكية. وبجوار ذلك، لو كان المقاتلون السوريون ضرورة حيوية لنجاح استراتيجية روسيا في أوكرانيا، لتحتم عليها تجنيد منتسبي الجماعات المسلحة المدعومة من قبلها، كاللواء الثامن الذي يتألف من جنود محترفين يتقاضون رواتبهم بانتظام، ومعتادين على العمل مع الضباط الروس. لكن روسيا لم تحاول أبدا استخدام هذه الإمكانات العسكرية المتاحة لها.

وفقا لحمود، عملت موسكو على تقوية الفيلق الخامس، التابع للعميد سهيل الحسن، مع تقوية بعض القطع العسكرية التابعة لحكومة الأسد عبر دعمها ماديا وعسكريا، إضافة للتأهيل والتدريب، الذي وصل لتدريبها على استخدام الطائرات المسيرة، وهو ما تم مشاهدته عبر الطائرات المسيرة الانتحارية في مناطق إدلب مؤخرا. كذلك، تم نشر قوات هذا الفيلق على خطوط الجبهات، سواء في حلب وريفها، أو ريفي إدلب وحماة.

آثار الحرب الروسية الأوكرانية على النفوذ الروسي في سوريا، ضبابية وغير مؤثرة، مع ارتباطها بنهاية الحرب الدائرة هناك، وما قد تنتجه من اتفاقيات. مع ذلك، قلّصت موسكو عدد قواتها في سوريا، دون تأثير يذكر على نفوذها هناك، بالرغم مما قيل عن توسع للنفوذ الإيراني نتيجة ذلك، ويدعم ذلك، منع موسكو لإيران من تصليب وجودها العسكري في جنوب سوريا، أو جعل الجنوب السوري ساحة إيرانية ساخنة تجاه إسرائيل، بعد عملية “طوفان الأقصى”. إلا أن الجدير بالإشارة هنا، استغلال الحكومة السورية انشغال روسيا في أوكرانيا، لتوسيع هامش حركتها، بإعادة تطبيع علاقاتها مع دول الجوار، بمعزل عن روسيا، أو عبر إعادة هيكلة وتعيينات أمنية وعسكرية، منها تسمية رئيس هيئة أركان الجيش، المنصب الذي بقي شاغرا منذ عام 2018. وخلالها، تولت غرفة العمليات المشتركة برئاسة روسيا، إدارة العمليات العسكرية في سوريا. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة