مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي ظل التصعيد العسكري الذي تقوده القوات الروسية بشكل محموم، تظل إشارات الاستفهام تلح بالتساؤل حول أثر العقوبات المفروضة على موسكو ومدى فعاليتها في تقويض نفوذها وتخفيض قوتها العسكريتارية. غير أن الترسانة العسكرية التي يحصل عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلا عن المعدات والمواد التي تمكنه من تصنيع أو تطوير الأسلحة، ومنها المسيرات الإيرانية، تكشف عن شبكات غير معلنة وأذرع خفية وجيوب مستترة تتم عبرها عمليات التهريب لتفادي تلك العقوبات. 

ورغم العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال شهر شباط/ فبراير العام الحالي وطالت نحو 500 كيان لهم صلة بـ “دعم الآلة الحربية” لروسيا وفق ناطقة بلسان وزارة الخارجية الأميركية، وقالت: “ستكون هذه أكبر حزمة منذ بدء غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا”، لكن موسكو تمكنت عبر حيل عديدة غير قانونية التفلت من العقوبات، والقفز على القيود المفروضة بخصوص التصدير وضاعفت إنتاجها من الصواريخ بدرجة غير مسبوقة مقارنة بفترة ما قبل الحرب على كييف، وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”. 

بحسب الصحيفة الأميركية، فإن الروس عمدوا إلى مضاعفة إنتاجهم الصاروخي عبر تهريب الإلكترونيات الدقيقة، بالإضافة إلى المواد الأخرى المطلوبة لصناعة الأسلحة الموجهة بدقة وكذا صواريخ “كروز”، مشيرة إلى اضطلاع الأجهزة الأمنية الاستخبارية إلى جانب وزارة الدفاع في إدارة وتأمين الشبكات التي تتولى عمليات التهريب وتسهيل وصولها لموسكو، مع التلميح إلى أدوار تؤديها قوى إقليمية في هذا الشأن.

تهريب الأسلحة لروسيا

فيما تزيل وثائق سابقة لدى “البنتاغون” الغموض قليلا عن طبيعة تلك القوى التي تباشر أدوارها الأمنية في عملية نقل وتهريب السلاح لصالح موسكو في حربها ضد أوكرانيا، وتوضح إحدى الوثائق أن مسؤولين في ميليشيات “فاغنر” اجتمعوا سرا في شباط/ فبراير العام الماضي بـ “جهات تركية” من تسميتها، لجهة بحث عملية تهريب السلاح والمعدات العسكرية. وبحسب الوثيقة، فإن المسؤولين في “فاغنر” رجحوا أن تكون مالي هي بوابة المرور الآمن لهذه المهمة. 

مع الأخذ في الاعتبار أن الدولة الواقعة في غرب إفريقيا لم يكن اختيارها عفويا أو عشوائيا، إنما لأسباب مشتركة، فهي تشهد انعطافة من جانب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورغبة في توسيع نفوذه العسكري بها، والأمر ذاته للقوات الميليشياوية التي تعمل لصالح بوتين فهي تحظى بتواجد وانتشار عسكري كبيرين في غرب إفريقيا وتتعدد أنشطتها بين السلاح والموارد الطبيعية والطاقة لتأمين نفوذ موسكو وحماية مصالحها.

لذا، لم يكن مباغتا ما نقلته صحيفة “واشنطن تايمز” عن مسؤولين عسكريين بريطانيين، قبل أيام قليلة، بأن موسكو ورغم العقوبات الدولية التي كبدتها خسائر هائلة، ورغم هزائمها في المعارك بعد أكثر من عامين، إلا أنها من الناحية الكمية على مستوى الجنود والسلاح ما تزال تحتفظ بقدرات مناسبة لا تفقدها تماما قدراتها. 

اعتمدت الصحيفة الأميركية على تقرير تفصيلي منشور على الحساب الرسمي لوزارة الدفاع البريطانية في منصة “إكس”، جاء فيه أن القوة القتالية لروسيا ما تزال كافية وبالقدر الذي يؤدي لإنهاك القوات الأوكرانية، وأن العقوبات نجحت صحيح في التأثير سلبا على الصناعات الدفاعية المتطورة لروسيا. 

تجدر الإشارة  هنا، إلى أنه على الرغم من التحديات التي تواجه أوكرانيا نتيجة تباطؤ المساعدات العسكرية وتعبئة جنود جدد، وحتى مع المكاسب الإقليمية التي حققتها روسيا مؤخرا، فإن السيطرة الإقليمية لروسيا على أوكرانيا انخفضت فعليا منذ شباط/ فبراير 2022 من 26.4 بالمئة إلى نحو 18 بالمئة، حسبما توضح الباحثة المختصة في شؤون الأمن القومي إيرينا تسوكرمان، موضحة لـ “الحل نت” أن هذا يعني أن المكاسب الإقليمية الأخيرة رمزية إلى حد كبير وحتى مع التفوق في القوات والأسلحة فإن الروس غير قادرين على استعادة معظم الأراضي التي حررتها أوكرانيا. إن تقدمهم الحالي تدريجي. والسبب في ذلك هو أن التفوق في أعداد المجندين لا يعوض بشكل كامل عن الافتقار إلى التدريب والخبرة، وانخفاض الروح المعنوية، وحقيقة أن المكان الذي يكسبون فيه ليس له أهمية استراتيجية مثل ما فقدوه. علاوة على ذلك، فقد أسيء استخدام التفوق في الأسلحة إلى حد كبير لمهاجمة المدنيين وتدمير البنية التحتية المدنية بدلا من تحقيق مكاسب عسكرية مهمة.

على النقيض من ذلك، استخدمت أوكرانيا كل ما لديها من أسلحة لتقويض القوات الروسية على المستوى الاستراتيجي، على سبيل المثال، أحدثت في الآونة الأخيرة أضرارا كبيرة بالعديد من مصافي النفط، مما أدى في النهاية إلى الإضرار بقدرة روسيا على دفع تكاليف المجهود الحربي نفسه، وفق تسوكرمان، لافتة إلى أن ذلك قد شكل ضررا لحق بمصنع الطائرات بدون طيار “شاهد” داخل روسيا وهو ما يؤدي إلى تشكيل عقبة رئيسية أمام روسيا، لأنها على عكس أوكرانيا، تعتمد بشكل أكبر على هذه الطائرات بدون طيار الأكثر تطورا. 

الرأي ذاته ما ورد في تقرير لصحيفة “واشنطن تايمز” والذي أكد على أنه بـ “رغم مضاعفة الكرملين إنتاج الذخائر الرئيسية كالقذائف المدفعية التي يستخدمها ضد كييف، فإن أنظمة الأسلحة الأكثر تقدما وتعقيدا هي التي تضررت على نحو بالغ من جراء العقوبات، حيث إن تلك الأنظمة اعتماديتها شبه الكاملة على التكنولوجيا الغربية. وبما إن العقوبات تعطل سلسلة التوريد لصناعة الدفاع الروسية، فإنها تؤدي أيضاً إلى تعقيد آليات الدفع لموسكو، مما يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في صادرات الأسلحة الروسية”. 

“تعقيد استراتيجية الحرب”

يشير “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلاح”، إلى تراجع الحصة التي يحصل عليها “الكرملين” في تجارة الأسلحة العالمية في الفترة بين عامي 2019 و2023، بنحو 11 بالمئة مقارنة بـ 21 بالمئة في عامي 2014 إلى 2018.

نهاية الشهر الماضي، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى خطوة أخرى في اعتماد روسيا على مادة رئيسية في صناعة الذخائر الدفاعية، وهي مادة “النيتروسليلوز”، وقد تضاعفت وارداتها من هذه المادة المهمة والرئيسية في صناعة البارود ووقود الصواريخ، بنحو 70 بالمئة عام 2022، بالتزامن مع حربها على أوكرانيا. ووصلت الواردات من هذه المادة منتصف العام الماضي لنحو 3039 طنا، وهو ضعف النسبة مقارنة بعام 2021، ووفق الصحيفة الأميركية، فإن الصين توفر لروسيا ما تحتاجه من إمدادات لهذه المادة بما يجعلها تتفادى العقوبات المفروضة ضدها. 

وهنا تقول الباحثة المختصة في شؤون الأمن القومي إيرينا تسوكرمان، إنه تبعا لهذه المراوغات الروسية، ووجود تحالفات من قوى منبوذة دوليا، فإنه من التطورات الرئيسية الأخرى أن أوكرانيا تحولت من عدم تصنيع الأسلحة تقريبا في بداية الحرب إلى تجديد إنتاج الأسلحة الخاصة بها، وبالتالي أصبحت أقل اعتمادا على الغرب في الحصول على الأسلحة بسبب تمويل الأسلحة وصعوبة استيراد أجزاء معينة أو مواد خام. فيما لا تزال أوكرانيا بحاجة إلى المساعدة من الغرب حتى تعوض جهودها بشكل كامل التباين في القدرات مع روسيا. 

تُظهر هذه الصورة التي نشرتها الخدمة الصحفية لوزارة الدفاع الروسية في 11 تموز/ يوليو 2023، منظرا لمصنع إنتاج المركبات المدرعة العسكرية بينما يزور وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو المنطقة العسكرية المركزية.

وترى الباحثة تسوكرمان في تصريحها الذي خصت به “الحل نت”، أن أكبر الخسائر على الجانب الأوكراني كانت في الأرواح البشرية وفي المدنيين. وعلى الرغم من هذه القضايا، إلا أنهم لا يزالون قادرين على إلحاق قدر كبير من الضرر سواء من حيث المعدات أو الخسائر البشرية للجيش الروسي. والآن تهدف موجة التعبئة الجديدة من جانب روسيا إلى التغلب على دفاعات أوكرانيا في وقت حرج تبدو فيه المساعدات الأميركية بعيدة المنال، ويكافح بقية أعضاء “الناتو” من أجل زيادة القدرة على إنتاج أسلحة جديدة ويعانون من الخلاف حول شحنات الأسلحة.

ورفضت ألمانيا مرارا وتكرارا إرسال أسلحة “توروس”. ومع ذلك، فإن الوضع يتطور بسبب الصعوبة التي تواجهها روسيا في استيراد أو إنتاج أسلحة أكثر تطورا، في حين تتقدم دول “الناتو” الأخرى الآن لسد الفجوة قدر الإمكان، على سبيل المثال العثور على مئات الآلاف من الذخيرة من عيار 155 ملم، مما يسرع عملية البحث عن الأسلحة. ومن المقرر تسليم الأسلحة في العام المقبل، أو حتى تخصيص مصانع بأكملها لإنتاج أسلحة إضافية لأوكرانيا فقط مثل “قيصر” الفرنسي الذي يتخوف منه بوتين بشدة، تضيف الباحثة تسوكرمان.

وتختتم تسوكرمان حديثها قائلة: “تدفع فرنسا أيضا إلى تسليم المزيد من القنابل المتطورة وغيرها من الأسلحة، وإذا تحقق وعدها بإرسال جنود لتولي مواقع خلفية في أوكرانيا، فإن هذا من شأنه أن يسهل قضية التناوب التي كانت تشكل تحديا لقدرة أوكرانيا على جلب مقاتلين جدد، علاوة على ذلك، غيرت أوكرانيا أخيرا سن التجنيد من “27” إلى “25” عاما، مما يتيح المزيد من الشباب لإرسالهم إلى القتال. وهذا لا يعوض حقيقة أن روسيا لديها عدد سكان أكبر بكثير بشكل عام وأن روسيا حققت مكاسب كبيرة على الجبهة الدفاعية بينما بدأت أوكرانيا الآن فقط في بناء الخنادق مع انسحابها من موقع ما، لكنه يشير أيضا إلى أن روسيا لن تواجه بالضرورة معركة أسهل بسبب التفوق في الأعداد الهائلة. 

بجانب ذلك كله، أصبحت أوكرانيا أكثر حزما بشأن تواصلها الدبلوماسي مع الدول غير الغربية، بما في ذلك إفريقيا، وهو ما قد لا يؤدي بالضرورة إلى أسلحة إضافية أو مقاتلات أو حتى مواد خام، ولكنه قد يجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لتقدم روسيا على جبهة أخرى، وبالتالي تعقيد استراتيجيتها الحربية التي تعتمد على التحايل على العقوبات وتوسيع نفوذها الدولي وشرعيتها بشكل عام.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة