في ظل محاولات موسكو للالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة عليها إثر غزو أوكرانيا، تبذل الولايات المتحدة جهودا لتشديد الإجراءات على البنوك وملاحقتها، وهذا بات واضحا بعد أن بدأت البنوك التي حافظت على علاقاتها مع روسيا في الخليج وأوروبا في التوقف عن التعامل مع الروس وقبول التحويلات بالروبل، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على عوائد “الكرملين”، خاصة من الطاقة. 

جهود الولايات المتحدة “لسد الثغرات” التي وجدتها روسيا للبقاء في النظام المالي الغربي بدأت “تؤتي ثمارها”، بحسب ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال“، التي أشارت أيضا، إلى أن البنوك التي حافظت على علاقاتها مع روسيا في الخليج وأوروبا بدأت في التوقف عن التعامل مع الروس وقبول التحويلات بالروبل، الأمر الذي أدى إلى تعطيل صادرات الطاقة الروسية لحد ما، وهي الركيزة المالية الأساسية لتمويل الآلة الحربية في أوكرانيا.

هذا التشديد جاء بعد أن فرضت واشنطن عقوبات على موسكو على وقع ما أسمتها روسيا “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، في شباط/ فبراير 2022؛ إذ منعت معظم المصارف الروسية في ذلك الوقت من الوصول الى النظام الرئيسي المستخدم في التعاملات المالية الدولية، ما دفع موسكو للبحث عن وسائل أخرى لفك ارتباطها بالدولار، حيث توجهت الشركات الروسية والأوليغارشية إلى الإمارات سعيا لحماية مصالحها. 

ضغوط أميركية شديدة 

الولايات المتحدة بدأت بكبح مساع روسيا للالتفاف على العقوبات المفروضة عليها من خلال تعقيد الآليات التي وضعتها موسكو للتحايل على العقوبات التي راكمها الغرب منذ غزو أوكرانيا، والتي تهدف إلى “منع تمويل آلة الحرب العسكرية”.

الرئيس الأميركي جو بايدن   فرض في 23 شباط/ فبراير الماضي حزمة عقوبات جديدة على روسيا وصفت بأنها الأكبر منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وتضمنت إجراءات بحق أكثر من 500 شخص وكيان في دول عديدة، إذ أوضح بايدن آنذاك، أن العقوبات الجديدة تستهدف “قطاع روسيا المالي والبنية التحتية لصناعاتها الدفاعية وشبكات الإمداد وجهات الالتفاف على العقوبات عبر قارات عدة”، إضافة إلى استهداف أشخاص على صلة بوفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني. 

الولايات المتحدة تسعى من خلال العقوبات إلى التضييق على إيرادات روسيا من دون التأثير على إمدادات موسكو إلى الأسواق، سواء من الطاقة أو من الغذاء، بالتالي كانت هذه المعضلة أمام واشنطن والتي نجحت روسيا من خلالها بالمحافظة على إيرادات ثابتة أو زيادتها كما حدث في العامين الماضيين، وفق حديث الباحث الاقتصادي، عامر الشوبكي.

الشوبكي أضاف في حديث لـ “الحل نت”، أن واشنطن وجدت أن العقوبات غير فعالة تجاه روسيا وأنها ما زالت قادرة على تمويل آلتها العسكرية وتأمين إيرادات تصلح من خلالها مشاكلها الاقتصادية التي نتجت عن العقوبات. 

حملة واشنطن في التشديد على موسكو بدأت بعد أن وقع الرئيس جو بايدن في أواخر كانون الأول/ ديسمبر الفائت مرسوما يهدف إلى تشديد العقوبات على روسيا، لكن هذه الجهود تكثفت بعد وفاة المعارض السياسي الروسي البارز  أليكسي نافالني في السجن، والذي تبعه بعد أسبوع دخول الحرب على أوكرانيا عامها الثالث. 

بنك “Raiffeisen International” في روسيا – (مطبعة زوما)

بنك “الإمارات دبي الوطني” العملاق، أغلق القسم الذي يركز على روسيا، وتوقف عن قبول التحويلات بالروبل من روسيا وأغلق عددا كبيرا من الحسابات المملوكة لروس أو تحتفظ بها كيانات مرتبطة بالعقوبات الغربية، وهي حسابات تحتوي عادة على أكثر من 5 ملايين دولار، وفقا لما قاله متخصصون ماليون في الإمارات، وشخص آخر من الأشخاص المطلعين لصحيفة “وول ستريت جورنال”.

جاء ذلك بعد أن أرسلت واشنطن مسؤولين من وزارة الخزانة والخارجية إلى الدولة الخليجية، وفرضت عقوبات جديدة على كيانات مقرها الإمارات، خلال الأشهر الأخيرة، إذ قال متحدث باسم بنك “الإمارات دبي الوطني”، إنه لا يستطيع التعليق على عملاء محددين، لكنه ملتزم بمكافحة الجرائم المالية وغسل الأموال، والامتثال للعقوبات الدولية المعمول بها، وفق الصحيفة الأميركية.

تشديد العقوبات، ربما يكون من ناحية أخرى بحسب الشوبكي، حيث يرى الغرب أنه أصبحت هناك ضرورة لمصادرة ما تم احتجازه في البنوك الغربية من أموال الاحتياطي المركزي الروسي، وأعتقد أن هذا سيضر بمصالح روسيا بشكل واضح.

إضعاف موسكو

بحسب الخبير في الشؤون الأميركية، مسعود معلوف، فإن الولايات المتحدة ستقوم بكل ما يمكن القيام به للإضرار بروسيا في ظل الحرب التي تقودها موسكو على أوكرانيا، التي تعتبر حليفة واشنطن وتقدمت بطلب لتكون عضوا في “حلف شمال الأطلسي”. 

الولايات المتحدة تعتبر أن أي خسارة لأوكرانيا ستكون خسارة للغرب بصورة عامة، من هذا المنطلق هي تحاول إضعاف روسيا اقتصاديا، إذ أنها تعتبر في حال إضعاف موسكو اقتصاديا ستضعف روسيا عسكريا؛ لأنها ستجد صعوبات في إنتاج المزيد من الأسلحة والذخائر وغير ذلك، وفق حديث معلوف لـ “الحل نت”.

الحكومة الأميركية ضغطت أيضا على أنقرة لتعديل علاقاتها الاقتصادية المتنامية مع موسكو، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشركات التركية لمساعدتها روسيا في انتهاك العقوبات، وحثت الحكومة على تعزيز الامتثال للعقوبات. 

استجابة أنقرة للضغوط ظهرت في بيانات لوزارة التجارة التركية، التي كشفت انخفاض صادرات تركيا إلى روسيا في شباط/ فبراير الماضي 33 بالمئة على أساس سنوي إلى 670 مليون دولار، مقارنة مع 1.1 مليار دولار في الشهر نفسه من عام 2023، بحسب وكالة “رويترز“، بينما انخفضت الواردات التركية من روسيا 36.65 بالمئة إلى 1.3 مليار دولار في شباط/ فبراير، مقارنة مع ملياري دولار في الشهر نفسه من العام الماضي.

الوكالة ذكرت، أن التهديدات الأميركية بفرض عقوبات على الشركات المالية التي تتعامل مع روسيا أثرت على التجارة بين أنقرة وموسكو، مما أدى إلى تعطيل أو إبطاء بعض المدفوعات سواء لواردات النفط أو للصادرات التركية.

الولايات المتحدة استهدفت أيضا النمسا، وهي مركز مصرفي لأوروبا الوسطى والشرقية، حيث أرسلت مؤخرا مسؤولة وزارة الخزانة، آنا موريس، للقاء الحكومة والبنوك بما في ذلك بنك “رايفايزن” الدولي، الذي يحتفظ بوحدة له في روسيا، إذ أكد البنك أن لديه مبادئ توجيهية وإجراءات لضمان الامتثال للعقوبات. 

الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، فرضوا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى جانب دول من بينها أستراليا وكندا واليابان، نحو 16.500 عقوبة على روسيا، الهدف الرئيسي منها تقويض الأموال الروسية، إذ جُمّدت احتياطيات من العملات الأجنبية قيمتها 350 مليار دولار، أي نحو نصف إجمالي احتياطاتها. كما يقول الاتحاد الأوروبي إنه جمّد نحو 70 بالمئة من أصول البنوك الروسية، فضلا عن استبعاد بعضها من خدمة تحويل الأموال السريعة “سويفت”.

ماذا عن النفط والطاقة؟

النفط والغاز الروسيين كانا هدفين رئيسيين آخرين للعقوبات، إذ حظرت الولايات المتحدة وبريطانيا النفط والغاز الطبيعي الروسي، وحظر الاتحاد الأوروبي واردات النفط الخام المنقولة بحرا، في حين فرضت دول مجموعة السبع، سعرا أقصى قدره 60 دولارا لبرميل النفط الخام الروسي، في محاولة لخفض أرباحها.

لكن روسيا ما تزال تصدّر 8.3 مليون برميل نفط يوميا، بعد زيادة الإمدادات إلى الهند والصين، وفق وكالة الطاقة الدولية، التي قالت إن عائدات روسيا من تصدير النفط في شباط/ فبراير، تراجع بعد تشديد الرقابة على الالتزام بالعقوبات، مشيرة إلى أن الهند السبب الرئيسي وراء تراجع تدفقات الخام الروسي إلى الخارج، حيث قلصت الدولة مشترياتها من براميل الخام الروسي بمقدار 420 ألف برميل يوميا في شباط/ فبراير مقارنة بالشهر الذي سبقه، بحسب الوكالة.

الشهر الماضي، شددت الولايات المتحدة جهودها لتقليص تجارة النفط الروسية، ففرضت عقوبات على شركة الشحن المملوكة للدولة سوفكومفلوت و14 ناقلة نفط خام تشارك في نقل النفط الروسي. وقالت مصادر لوكالة “رويترز” الأسبوع الماضي، إن شركة ريلاينس الهندية، التي تدير أكبر مجمع للتكرير في العالم، لن تشتري النفط الروسي المحمل على ناقلات تديرها شركة سوفكومفلوت بعد العقوبات الأميركية الأخيرة.

ناقلة بضائع ترفع العلم الروسي أثناء تفريغها بميناء إزمير في تركيا – (رويترز)

بفعل تشديد تنفيذ العقوبات، باتت شركات النفط الروسية تواجه تأخيرا قد يمتد لعدة شهور في تحصيل مستحقاتها مقابل بيع النفط والوقود، ما يؤدي إلى تقليص الإيرادات النفطية التي تجنيها موسكو، إذ قال المتحدث باسم “الكرملين” ديمتري بسكوف، إن هناك مشكلات في السداد عند سؤاله عن تأجيل البنوك الصينية للمدفوعات. وعزا الأمر لاستمرار الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الصين.

الخبير في الشؤون الأميركية والدبلوماسي السابق، مسعود معلوف، يرى أن العقوبات القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا حتى الآن لا تفيد، إذ “رأينا أن الاقتصاد الروسي لم يتأثر بها”، في حين أن وزارة الخزانة الأميركية تقول، إن العقوبات تلحق الضرر بروسيا، وأنها دفعت إلى تسجيل تراجع بنسبة 5 بالمئة من النمو الاقتصادي الذي كان من الممكن أن تحققه على مدى العامين الماضيين.

منذ فرض العقوبات، عمدت روسيا إلى الالتفاف عليها والتحايل، ناهيك عن استخدام أسطول ظل -عبارة عن مجموعة من ناقلات النفط التي تعمل خارج الأنظمة البحرية- لنقل نفطها إلى الصين، لكن بعد كانون الأول/ ديسمبر الماضي توقفت 3 بنوك صينية عن قبول المدفوعات من قبل الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات، بحسب ورقة بحثية نشرها “أتلانتك كاونسل“.

المختص في شؤون النفط والطاقة، عامر الشوبكي، يرى أن الولايات المتحدة لو أرادت التشديد على النفط الروسي لعاملته كالنفط الإيراني مثلا أو الفنزويلي أثناء العقوبات، بحيث لا يتاح لطرف ثالث شراء هذا النفط إلا بحدود معينة. 

“إذا غامر الغرب بمصالحه وارتفعت أسعار النفط فرضا، سيضع ذلك الحكومة الروسية في حرج شديد ويرفع العجز وبالتالي عدم قدرة موسكو على تمويل حربها على أوكرانيا، كون النفط والغاز يشكل نصف إيراداتها”، وفق الشوبكي.

بناء على ذلك، فإن روسيا اليوم باتت تواجه تقييدا على محاولاتها الالتفاف على العقوبات الغربية لتقليص حجم خسائرها الاقتصادية، لكن على ما يبدو أن عام 2024، سيكون عام تشديد العقوبات ومتابعة تطبيقها، لتضييق الخناق على موسكو، مع دخول الحرب على أوكرانيا عامها الثالث، من دون وجود حلول تلوح في الأفق. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات