في فيلم “بيروت الغربية” والذي وثق بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وما ترتب عليها من صراع ما زالت آثاره باقية حتى الآن، كان لافتاً بعض مشاهد لها راهنية مع وضع لبنان المأزوم بشكل عام، وتحت وطأة ما جرى مؤخراً إثر مقتل باسكال سليمان القيادي بـ”حزب القوات اللبنانية”. الاغتيال في لبنان يعكس جزءًا من سيرتها السياسية، وهو مفتاح أو بؤرة انفجار لصراع بين عدة أطراف/ مكونات مرتبطة ومشدودة مثل نغمة صاخبة بتسوية لم تتم بعد.

سيرة الموت الانتقامي والتصفيات لم تنقطع في لبنان والتي وصلت إلى مرحلة التحريض العلني ثم كاتم الصوت الذي استعملته قوى الأمر الواقع في مناطق نفوذها بالضاحية ضد من وصفتهم بـ”شيعة السفارة” مثل لقمان سليم.

فجأة، ومع انفجار الحرب الأهلية بلبنان، باغت رياض الذي قام بدوره الفنان اللبناني جوزيف بو نصار منع أفراد مسلحين مرور سيارته ليصل بزوجته وابنه إلى المدرسة، وقد كانت الصدمة ليس في منع الوصول الاضطراري والمؤقت إنما في الانقسام الهوياتي والتصدع في البنية الوطنية بعدما طلب المسلح هوية رياض ثم عقب على قوله بأنه من “بيروت” بسخرية حيث إن الأخيرة لم تعد وهناك “بيروت الغربية وبيروت الشرقية”. وعندما يتحول المواطن إلى علامة سياسية في ظل تطاحن طائفي يؤدي لشرخ هوياتي وتصاعد نفوذ مناطقي بحماية السلاح والميليشيات وخطابات عنف، تكون بيروت الأولى للمسلمين والثانية للمسيحيين. 

لبنان وأزمة الهوية

أزمة الهوية والإشارة إلى ما سيترتب على ذلك، انعكس في ما يخص تبعات الحرب وقد ذكر رياض بينما العتمة نتيجة انقطاع الكهرباء تعطي لحديثه صفة التشاؤم أنه “الحرب تقرب الناس من بعضها، هذا ما اقتنع به، لكن بعد الحرب هل سنظل مع بعضنا”. هنا، طرح الفيلم من خلال يوميات عفوية لثلاثة مراهقين من خلفيات مختلفة تشابكهم مع ملابسات الحرب وانتقالاتهم بين تلك المناطق اللبنانية التي تحولت لساحات معارك كل منها في قبضة ميليشيا بعينها، وتخطي حيز قد يعني الموت حتماً، لذلك كان يضطر طارق الذي قام بدوره رامي دويري أن يخفي الصليب على صدر مي وقامت بأداء دورها الفنانة اللبنانية رولا آل أمين ونزعه وهم في مناطق بيروت الغربية، وربما كانت نجاة المراهقين الثلاثة طارق وعمر ومي في تجاوزهم الاعتبارات الضيقة الطائفية المستجدة وبحثهم عن أحلامهم البسيطة العفوية المتمثلة في استخراج أو تحميض الفيلم المصور في كاميرا عمر في شوارع بيروت المنكوبة، والانتماء لحلم ومغامرة معاً كان هو نفسه الجواب الخلاصي الذي قاله بائع المناقيش وهو ينصح طارق بأنه لا يستجيب للعصب الطائفي الجديد والمشؤوم الذي انبعث مع الحرب وقال: “مين سألك شو دينك قله أنا لبناني”.

كان لمقتل المسؤول في القوات اللبنانية، باسكال سليمان، انعكاسات قاسية على اللاجئين السوريين في لبنان- “أ ف ب”

مع احتدام الأزمة بحق السوريين في لبنان للحد الذي تسبب في الاعتداء عليهم بالشوارع، وتهديد سلامتهم، وانبعاث النداءات المخيفة من مكبرات الصوت تطالبهم بالرحيل، كما تعرضوا للترحيل القسري في فترات سابقة، وتسليمهم لمناطق الحكومة السورية في دمشق، بما يفاقم من ظروفهم القهرية ويجعل حياتهم وأمنهم الشخصي على المحك.

التعاطي مع الحادث لم يخرج من دائرة ما هو سياسي حتى لو كان الأمر ظاهرياً له دوافع سرقة. وبحسب الدائرة الإعلامية لـ”القوات اللبنانية”، فإنه “في كافة الأحوال، ما يجب التشديد والتأكيد والتركيز وتسليط الضوء عليه هو أن ما أدى إلى عملية الاغتيال هذه بغض النظر عن خلفياتها عوامل جوهرية وأساسية”. 

وأوضحت الدائرة الإعلامية لـ”القوات اللبنانية” في بيان أن “العامل الأول يتمثل بوجود الحزب (يقصد حزب الله) بالشكل الموجود فيه بحجة ما يسمى مقاومة أو حجج أخرى، وهذا الوجود غير الشرعي للحزب أدى إلى تعطيل دور الدولة وفعالية هذا الدور، الأمر الذي أفسح في المجال أمام عصابات السلاح والفلتان المسلّح. فالمشكلة الأساس إذا تكمن في جزيرة الحزب المولِّدة للفوضى، وما لم يعالج وضع هذه الجزيرة، فعبثاً السعي إلى ضبط جزر الفلتان. فهذه العصابات موجودة ولكنها تتغذى من عامل تغييب الدولة”. 

وعدّ الحزب “العامل الثاني يتمثل بالحدود السائبة التي حولها “الحزب” إلى خط استراتيجي بين طهران وبيروت تحت عنوان “وحدة الساحات” فألغى الحدود، وما لم تقفل المعابر غير الشرعية وتضبط المعابر الشرعية فستبقى هذه الحدود معبراً للجريمة السياسية والجنائية وتهريب المخدرات والممنوعات، وبالتالي من يبقي الحدود سائبة هو المسؤول عن الجرائم التي ترتكب إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر”. 

وقال إن “العامل الثالث يتمثل في خصي (إخصاء) إدارات الدولة القضائية والأمنية والعسكرية وغيرها من خلال منعها من العمل في مناطق معينة، أو في قضايا معينة، أو في أي أمر يتعلق بأي شخص ينتمي إلى محور الممانعة”.

وبالتالي، وثق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، وقائع مريرة من الاعتداءات البالغة والعشوائية بحق السوريين، خلال عطلة عيد الفطر، حيث تم ملاحقة السيارات التي تحمل لوحات سورية والانتقام من السوريين في تجوالهم بالشوارع بمناطق لبنانية مختلفة، الأمر الذي بدد مشاعر الفرح بهذا العيد.

وقال المرصد: “شهدت مناطق مثل برج حمود وسد البوشرية والجديدة وبشري وجبيل وجونية وذوق مصبح وذوق مكايل وطبرجا وغيرها، سلسلة اعتداءات طالت عمالاً ولاجئين وأفراداً من بينهم نساء من الجنسية السورية. كما جرى تحطيم سيارات تحمل لوحات سورية، والهجوم على مساكن يقطنها سوريون، فيما اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي حملات تحريض وبث مكثف لخطاب الكراهية ضد اللاجئين وسط دعوات لترحيلهم”. 

كما انتشرت مقاطع مصورة توثق الاعتداءات، وأخرى تظهر مجموعات مدنية تتنقل في المناطق وتعطي السوريين مهل زمنية لإخلائها تحت التهديد والوعيد، واضطرت بلديات لبنانية كثيرة إجراءات مشددة قيدت من تحركات السوريين وزادت من التحريض عليهم، وفرضت في بعض الأحيان عليهم حظر تجول شامل غير محدد في توقيته كما فعلت العديد من البلديات، فيما سجل توزيع مناشير مطبوعة تدعو السوريين للمغادرة تتهمهم بتهديد الأمن والسلامة العامة في لبنان، بحسب المرصد الحقوقي، مقره لندن.

ما يجري مع السوريين في لبنان بالجملة هو نفسه ما يجري بحق آخرين وإن اختلفت المسميات والانتماءات.

وتابع: “في أحدث المستجدات، أفادت وكالة الإعلام الرسمية في لبنان، الخميس، بأن مجهولين اعترضوا سيارة أجرة تقل سوريين على طريق رياق- القاع الدولية، قرب مفرق بلدة شعث في البقاع الشمالي، وقاموا بخطفهما إلى جهة مجهولة. وتمكن سائق سيارة الأجرة من الفرار من قبضة الخاطفين الذين كانوا يستقلون سيارة رباعية الدفع، فيما فتحت القوى الأمنية تحقيقاً لكشف ملابسات الحادث”. 

الإنسان كأداة سياسية

كانت للأحداث التي عبر عنها الفيلم اللبناني راهينتها لا لشيء سوى أن الإنسان يتحول إلى مجرد علامة أو أداة سياسية، يتم تعريفه كما يتم توظيفه ورؤيته من مجال رؤية مشوه ضعيف يختزله في صورة خصم أو قاتل خفي متجهم بعيد المنال. فالنظام البعثي الذي فرض سيطرته لعقود في لبنان وارتبط نظامه وجهازه الأمني الموالي له في لبنان بحوادث اغتيال مريرة للأصوات اللبنانية المعارضة لوجوده، مثل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وجبران تويني الذي كان يرأس تحرير جريدة “النهار”.

هذا فضلاً عن جورج حاوي ومهدي عامل القياديين بالحزب الشيوعي، والمأساة الكبرى في اغتيال حسين مروة الذي كان يرقد في سريره عاجزاً لا يملك الحركة وبلغ من العمر ثمانية عقود، وتمتد القائمة لكثير وغالبيتهم من رموز تيار 14 آذار الذي ضم تكتلاً من شخصيات سياسية وصحفية والمتهم في كل تلك الحالات هو قوى الأمر الواقع التي لم تتغير.

المشهد العام في لبنان يبعث على المرارة، حيث إن جريدة “الأخبار” اللبنانية المحسوبة على “حزب الله” التي صدّرت في صفحتها الأولى عبارة “شيعة السفارة” في إشارة لشخصيات تنتمي للطائفة الشيعية وهم معارضون للخط الولائي المعادي لـ”الولي الفقيه” ورافقتها صورة بها 28 شخصاً منهم كان من بينهم لقمان سليم، تماثل ما يجري بحق السوريين من تعبئة وتحشيد طائفي وخطاب سياسي متشنج، يؤدي في المرحلة اللاحقة للاغتيال والقتل. 

ساهم النظام في دمشق كما قوى الأمر الواقع في لبنان المرتبطة بالأول على نحو سياسي فج ومباشر، في تحويل الأفراد إلى قتلة افتراضيين يتم عزلهم ونبذهم وتعريضهم للأذى.

إذ في الحالتين يسبق الموت السياسي علانية أو بكاتم الصوت وصم الأفراد تبعاً لدرجة ميولهم أو تبعيتهم التامة لخط سياسي طائفي، والخروج عليه يعني السقوط من على منصة الإعدام. وما يجري مع السوريين بالجملة هو نفسه ما يجري بحق آخرين وإن اختلفت المسميات والانتماءات. 

خطابات طائفية وعنصرية

وذلك ما يتضح في خطاب جبران باسيل رئيس “التيار الوطني الحر” صهر الرئيس السابق ميشيل عون والذي سبق ووصف السوريين بأقذع العبارات بصورة عنصرية، واليوم يقول إن “ملف اللاجئين السوريين أولوية”، ويربط بين وجود السوريين وحتمية زوال لبنان وتهديد اللاجئ السوري للبنان وجودياً، وهو خطاب بعيداً عن عدائيته إلا أنه يعتبر أن لبنان رخوة للحد الذي يهددها لاجئين اضطرتهم ظروفهم للاحتماء ببلد آخر!

غير أن التحالف السياسي الذي جمع “التيار الوطني الحر” بـ”حزب الله” الذي يضمن مصالح سوريا في لبنان، كما يضمن الدور المصالحي البراغماتي الآخر لإيران في دمشق، يفسر نزوع باسيل لهذا الخطاب، فضلاً عن ضلوع الجهاز الأمني التابع للحزب في تسليم بعض اللاجئين قسراً إلى حكومة دمشق، وقبلها تسليم بيانات وهويات هؤلاء إلى الجهاز الأمني لـ”النظام السوري”. 

ونقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية، عن باسيل قوله: “كل دولة لديها هويتها ومميزاتها، وعندما تفقد الدولة هويتها، لا يعود هناك وجود للشعب اللبناني ويصبح سورياً وفلسطينياً على أرض لبنان. نحن بمسار تناقصي باللبنانيين الموجودين على أرض لبنان وتزايدي لغير اللبنانيين الموجودين على الأراضي اللبنانية، بالمسار الديمغرافي وهذا ليس من باب مسيحي مسلم بل لبناني وغير لبناني. ملف عودة النازحين هو أولوية مطلقة ولذلك قمنا بزيارة إلى إيطاليا والفاتيكان للحديث عن هذا الموضوع”.

وادعى باسيل أن هناك أهداف خفية لتوطين “السوريين في لبنان وقد أعلن عنها أصحابها، ولذلك لم تعد فقط قصة خوف أو توجس بل قضية خطر قائم بوجوده الفعلي وممارسة أفعال مثل الدفع للنازحين بالدولار والمطالبة بأوراق ثبوتية للنازحين مقابل إعطاء سجلاتهم، كل هذا يظهر أنه ليس هناك فقط نية بل عمل تنفيذي لإبقائهم في لبنان”.

في المحصلة، ساهم النظام في دمشق كما قوى الأمر الواقع في لبنان المرتبطة بالأول على نحو سياسي فج ومباشر، في تحويل الأفراد إلى قتلة افتراضيين يتم عزلهم ونبذهم وتعريضهم للأذى، حيث إن ذاكرة الخوف التي شكلها “آل الأسد” في لبنان من تهديد لسيادة بلادهم، وتحويلهم إلى مقاطعة ضمن جغرافيته الأمر الذي لم ينته مع الطموح الجيوسياسي لحليفه الإقليمي الإيراني، يجعل الوجود السوري بالنسبة لهذا الخطاب العنصري والطائفي عبارة عن “عنصر” بالمعنى الأمني الذي راكم مغزاه “حزب البعث” في صورة هجمية ومؤامراتية. 

وبالتالي، يصبح السوري في لبنان هو مواجهة بين مشروعين، كل طرف في مربع ملغوم بالأمن أمنياً وطائفياً وحسابات السياسة يواجه مربع مماثل يخشى من نصيبه في محاصصة الوطن الذي حول حتى مواطنيه إلى فئات عسكريتارية مشحونة بالعداء وشهوة الانتقام ومتحفزة على القتل والعدوان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات