في ظل الأزمة التي تقع تحت وطأتها حركة “النهضة” التونسية وذلك منذ إجراءات الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز عام 2021، فإن هناك محاولات عديدة لا تتوقف لاستعادة الحركة الإسلاموية دورها وموقعها في المجال العام.

لكن الإجراءات التي وجدت شرعية بين فئات تونسية متفاوتة رغبة منها في إنهاء حكم العشرية السوداء وهي التي هتفت ضد راشد الغنوشي: “ارحل” و”يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح”، أنهت احتمالية تلك العودة في ظل النبذ المجتمعي والسياسي. الاستقطابات والانقسامات الحادة التي بعثتها “النهضة”، قد نجم عنها تصدع في مؤسسات الدولة، فضلاً عن نشاط غير عادي للقوى الإرهابية المتشددة والمسلحة، ما أدى بالنهاية لظواهر تهدد الأمن القومي التونسي والإقليمي، منها تسفير الشباب إلى بؤر التوتر في ليبيا وسوريا والعراق. 

ولعب الغنوشي القيادي بالحركة الإسلاموية (فرع إخوان تونس) دوراً مشبوهاً في جعل الانقسام بين مؤسسة الرئاسة وأجهزة الدولة من جهة والبرلمان من جهة أخرى، وسيلة لمزيد من الاستقطاب والتعبئة لتحقيق مصالحه ومحاولة إطالة الأزمة التي بدورها تضمن له البقاء الأطول في الحكم.

فـالغنوشي الموقوف حالياً رهن قضايا عديدة تتصل بالإرهاب والفساد، تطاوله اتهامات واضحة ومباشرة بالضلوع في عملية تسفير الشباب لمناطق النزاع، وتسهيل فرص الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية المسلحة. وهذا الملف تحديداً كشفت عنه النائبة التونسية فاطمة المسدي، وسبق لها وتقدمت بالملف إلى القضاء العسكري الذي يباشر مهمته في التحقيق. 

تونس ومناورات حركة “النهضة”

المثير أن الحركة التي تواجه هذه الأمواج العاتية، بينما تفتح سجلاتها كافة للتحقيق والمسائلة، تناور مجدداً بعد إخفاقها في محاولات التشنيع العديدة التي تمارسها، بجانب التحريض السياسي والعنيف، وهذه المناورة تتم هذه المرة عن طريق آخر مغاير لكنه تقليدي ومكشوف، وهو محاولة تغيير اسم الحزب/ الحركة الإسلاموية، ووضع لافتة جديدة.

أمين حركة “النهضة” الإسلاموية بتونس، العجمي الوريمي- “الصورة من الإنترنت”

الأمر الذي سبق إليه التنظيم الأم، أي جماعة “الإخوان المسلمين”، حيث إنها حاولت في مصر أن تذهب أبعد من ذلك قليلاً وتدفع بجناح أو ذراع سياسية وتشكل حزباً ضمن قمته مسيحي لتؤكد أن وجهها أو إطارها الإسلاموي لا يعني الانغلاق على أدبيات رفض الآخر أو تكفيره، بل هم قطاع مدني يؤمن بالتعددية والمواطنية، غير أن الوقائع سريعاً ما تكشف أنها مجرد تكتيكات سياسية ومناورات مؤقتة تنقلب مع التمكين السياسي، وتنكشف أغراضها وخبيئتها مع الأزمات والصدامات الحقيقية. 

صرح أمين الحركة الإسلاموية بتونس العجمي الوريمي، أن احتمالية تغيير الاسم وارد لكنه لن يتم من دون عقد مؤتمر عام، موضّحاً في صفحته الرسمية على “فيس بوك”: “تغيير اسم (النهضة) وارد وقد طُرح ذلك داخل لجنة الإعداد المضموني”، ولكنه أشار إلى أنه “ليس هناك ما يدعو لاتخاذ هذه الخطوة قبل تنظيم مؤتمر الحزب”. وألمح إلى الاتجاه نحو تغيير اسم “مجلس الشورى” والذي يمثل أعلى سلطة حزبية، باسم “المجلس الوطني”. وقال: “تبدو اليوم أكثر تلاؤماً مع التوجهات الجديدة للحزب كحزب يبحث عن مشتركات مع القوى الديمقراطية والمدنية”.

في ما يبدو أن الحركة “الإخوانية” في تونس، لا تتردد في الاقتباس والامتثال للحلول التقليدية البراغماتية، كما في سوابق عديدة، بعضها قريب وبعضها الآخر بعيدٌ نسبياً تاريخياً. فجماعة “الإخوان” في مصر، لم تتردد بعد “الربيع العربي”، في الإعلان عن حزب سياسي باعتبار أنها تقوم بفصل الديني عن السياسي، وتشكل بخلاف “الجماعة” الإسلامية بمعناها الديني المغلق والطائفي، حزباً بقوام مدني، الأمر الذي حدث كذلك مع حزب النور السلفي، لكن التجربة أكدت أن هذه الأحزاب ليست أكثر من هيئة تنفيذية تعبّر عن إرادة “المرشد”.

فالحزب لم يكن أكثر من مجرد أداة سياسية “بمرجعية إسلامية”، وفق زعمها، والتي هي جماعة “الإخوان”، ويحقق لها إرادتها السياسية كما يرى “مجلس الشورى”. وبحسب “مركز كارنيغي”، فبعد الإصرار مراراً وتكراراً على أن الحزب سيكون قادراً على اختيار زعيمه، لم تتمكن جماعة “الإخوان” من مقاومة تقديم هدية سخية على نحو غير عادي إلى ذريتها: سينتقل ثلاثة من أعضاء هيئتها العليا – مكتب الإرشاد – إلى الحزب لإدارته.

تشكيل تيار جديد تحت مسمى آخر

ولا يختلف موقف حركة “النهضة” في مسعاها إلى استبدال الأسماء وتغيير العناوين، عن ما تسعى له جماعة “الإخوان” راهناً في ظل أزمتها منذ عام 2013، حيث تبحث عن تشكيل تيار عام يتمكن من التغلغل المجتمعي بشكل خفي وناعم بعيداً عن مسمى “الإخوان المسلمين” والذي بات مشؤوماً ومرتبطاً بالعنف وسنوات مريرة من تعميم الطائفية والقمع وعدم الوفاء بوعود الرفاه والتنمية الاقتصادية أو السياسية، كما حدث في مصر وتونس والمغرب. 

ويتعين التأكيد على أن حيلة “النهضة” لا تعدو كونها أمراً جديداً كما يظهر من سياقات عديدة سياسية وتاريخية، بل إن حركة “حماس” التي تأزمت علاقتها بمصر إبّان “الربيع العربي”، واتهامها باقتحام السجون وتهريب عدد من العناصر والقيادات الإرهابية المنتمية لتيار الإسلام السياسي، وهو الاتهام ذاته الذي طاول “حزب الله” اللبناني، وتفاقمت العلاقات مع الإطاحة بحكم محمد مرسي إثر تظاهرات شعبية جارفة، أصدرت وثيقة سياسية عام 2017، تقول فيها إن الحركة الإسلاموية التي تسيطر على قطاع غزة لا تربطها بجماعة “الإخوان” في مصر أي صلات تنظيمية أو فكرية عقائدية أو سياسية، وهو الموقف الذي بدا أنه رغبة في التخفّف من الحمولات التي تؤثّر على براغماتية “حماس” ورغبتها في استعادة علاقاتها الخارجية. 

ليس ثمة شك أن هناك في خطاب الغنوشي تباينات عديدة، وهي ما توفر، لدى أعضائه ومن لفّ لفهم، حصيلة جيدة من المقولات الدفاعية لاستبعاد شبهة التكفير بحقهم، حيث إن استعمال لغة التشدد الديني توازي نقيضها المرن والبراغماتي والقائم على التآلف وذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة السياسية.

إذاً، محاولات حركة “النهضة” ليس بجديدة إنما مكررة ولها سوابق تكشف عن الأهداف والمآلات، وهي مؤقتة ومجرد مناورة لحين استعادة القوة المفقودة والوصول لمرحلة التمكين السياسي التي سيترتب عليها انبعاث الشخصية “الإخوانية” التي تخرج من كمونها وحديث “المستضعفين” إلى الأقوياء في الأرض!. 

تتصدى قوى سياسية في تونس عبر تشكيل جبهة موحّدة لمحاولات “إخوان” تونس العودة مجدداً، ومن بين تلك الأحزاب “التيار الشعبي” و”حركة تونس إلى الأمام” و”حركة الشعب” و”حراك 25 جويلية” (تموز/ يوليو).

يمكن القول إن حركة “النهضة” الإسلاموية، لا تتوقف عن المناورة، بل لها خطابات عديدة، وكل خطاب يتم بناء مقاربته وصياغته حسب طبيعة المرحلة ومحدداتها، وحجم النفوذ والقوة. إذ إن مرحلة الاستضعاف تختلف عن مرحلة التمكين. ومثلما عاد الغنوشي عام 2011 إلى تونس بعد فترة غياب وكانت تلاحقه أحكام قضائية عديدة في العهود السابقة لحكم تونس تصل للإعدام، قال إنه لن ينخرط في السياسة (سبق لإخوان مصر التأكيد على وعد مماثل بعدم الترشح في الانتخابات ثم انقلبوا على ذلك)، ثم ما لبثت أن أدار ظهره لحديثه السابق في مخاتلة واضحة.

والغنوشي سبق له وتحدث عن رغبته في أن يكون الحكم تشاركياً تعددياً حتى مع فلول النظام السابق والعلمانيين، غير أنه وفق تسريبات سابقة له تنكشف نبرة أخرى تحمل امتعاضاً من هيمنة التيار العلماني وفق زعمه على مفاصل الدولة. وإلى جانب التسريب الصوتي، فإن القيادي التاريخي لـ “إخوان تونس”، صدرت بحقه قبل عام مذكرة توقيف على خلفية “تكفير” رجال الأمن ووصفهم بـ”الطواغيت” والمعروف بحمولته التكفيرية في أدبيات الإسلام السياسي بداية من “الإخوان” مروراً بـ”القاعدة” وحتى “داعش”.

والمذكرة القضائية تنسب له “أفعال مجرمة متعلقة بالاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب”.

لكن الحركة دافعت عن نفسها وقالت: “مسيرة الأستاذ راشد الغنوشي الفكرية والسياسية على امتداد سنوات طويلة تثبت أنه كان من أهم القامات التي حاربت أفكار الغلو والتطرف والتكفير عن طريق عدد هام من الكتب والمقالات والمحاضرات والبيانات، وأسس لفكرة الإسلام الديمقراطي، ومن العبث محاولة اتهامه بالتكفير وإصدار حكم ضده يتم تأكيده في الاستئناف”.

ما وراء خطاب الغنوشي

ليس ثمة شك أن هناك في خطاب الغنوشي تباينات عديدة، وهي ما توفر، لدى أعضائه ومن لفّ لفهم، حصيلة جيدة من المقولات الدفاعية لاستبعاد شبهة التكفير بحقهم، حيث إن استعمال لغة التشدد الديني توازي نقيضها المرن والبراغماتي والقائم على التآلف وذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة السياسية. لكن الثابت أن البُنى الفكرية المنحرفة لهذا التيار قائمةٌ على التكفير والعنف، وأن أي خطاب آخر هو للتعمية عن أهداف وبمجرد الوصول لها يظهر الوجه المتشدد القمعي. 

فيما يوضح “مركز المسبار”، أن هناك مناطق غير واضحة ومحل اشتباه في خطاب الغنوشي، يقترب فيها من الأطراف المتشددة، بينما لديه مناطق أخرى يكون فيها رمزاً وداعية للاعتدال، وبالتالي، فهناك التناقض بين مرونته النظرية في كثير من الأحيان، وتصلباته العملية، سواء في إدارة للحركة، أو في الموقف السياسي عموماً.  

في مقال سابق للغنوشي، نجد إعلانه الواضح بمصادر تشكله المعرفي والأيديولوجي، وقد نهل من أفكار المؤسس الثاني لجماعة “الإخوان” سيد قطب والذي دشّن مقولات تكفيرية واضحة وتحدث عن “الجيل القرآني” و”العصبة المؤمنة” التي يتعين عليها القضاء على “الجاهلية” و”حكم الطاغوت”. فيقول الغنوشي: “في كل مرحلة من تاريخ أمة من الأمم تسطع في سمائها نجوم تهدي الحائرين وقد تضيء سماءها حتى لكأنها في رابعة النهار إذا كثروا واشتد وهجهم فامتد مخترقاً الزمان والمكان، كأشبه ما يكون بالطاقة المتجددة التي لا تنفد. تقديرنا أن صاحب الظلال سيد قطب ومجدد الفكر الخلدوني مالك بن نبي رحمهما الله”.

ويردف: “لم أحظ بشرف لقاء صاحب الظلال رحمه الله، ولكني قرأت كل ما كتبه في أول اتجاهي الإسلامي إثر تحولي من الاتجاه القومي وتأثرت به تأثر بالغاً..”. 

ونظرية سيد قطب هي أن الحكومات في العالم اليوم إنما “تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله”.

راشد الغنوشي قبل اعتقاله- “أ.ف.ب”

وقال في كتابه: معالم في الطريق”: “ينبغي أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة – حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون – يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو (أولاً) إقرار عقيدة (لا إله إلا الله) بعدلها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم.”

في الخاتمة، تسعى جماعات الإسلام السياسي التي شهدت إخفاقات متتالية في مصر وتونس والمغرب إلى استعادة الحيّز المفقود، وإيجاد موطئ قدم لها من جديد. وحتى الآن تبحث عن منعطفات جديدة أو سياقات تبعث فيها الروح كما حدث في حرب غزة وتحويل الصراع لـ ديني طائفي، كما تفتّش عن لافتة ترفعها للرأي العام والجماهير التي تعادي خطابها الإسلامي المسيّس وفقد مشروعيته ومصداقيته. غير أن كل تلك المحاولات قد تواجه صعوبات جمّة في ظل وضوح ألاعيب الإسلام السياسي في التّخفي كالأفعى، وأن تغيير الجلد واللون لا يعني الاعتدال أو مراجعة مواقفها وتصحيح أفكارها، بل عبارة عن تهدئة وسرعان ما تعود الأمور لسيرتها الأولى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات