عودة تنظيم “داعش” الإرهابي على الساحة من جديد، لا سيما في ظل الصراع المحتدم في غزة، يجعل المخاطر تتزايد بشأن الزخم الإسلاموي المتسببة فيه الحرب منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي بعد تأجيج “حماس” الموقف لهذا الحد المتفجر ميدانياً وعسكرياً، ثم دخول إيران وباقي تنظيماتها الميلشياوية في المنطقة من “حزب الله” في لبنان مروراً بفصائل منضوية في الحشد الشعبي وحتى “الحوثي” باليمن. 

ولا يفوتنا الشرعية التي منحتها إيران للجماعة الإسلامية بلبنان وهي فرع لجماعة “الإخوان المسلمين” المصنف على قوائم الإرهاب في مصر وعدد من البلدان العربية. بمعنى أن تلك الحرب شكلت فضاءا لانبعاث الإسلام السياسي (بشقيه السني والشيعي) بعد فترة أفول وانحسار بل وهزيمة فادحة بعد لحظة “التمكين” والصعود غير العادي في عشرية ما بعد “الربيع العربي”.

تعميم السردية الدينية المؤدلجة

ليس ثمة شك أن الحرب في غزة، لا تستهدف هذا الصراع الظاهر مع إسرائيل بقدر ما تسعى إلى تعميم السردية الدينية المؤدلجة للجماعات المتشددة والمسلحة، بمعنى أن المقاربة تقوم على تحويل العالم إلى “دار الإسلام” و”دار الكفر” وبالتبعية الأولى يعم فيها السلاح في حين الثانية يعم فيها الحرب الضروس. وتكون بذلك قد منحت “قبلة الحياة” من جديد للتيار الإسلاموي الذي تعرضت مصالحه المحلية والإقليمية لضربة قاصمة بعد نبذه السياسي في مصر وتونس والمغرب. 

ليس ثمة شك أن الحرب في غزة، لا تستهدف هذا الصراع الظاهر مع إسرائيل بقدر ما تسعى إلى تعميم السردية الدينية المؤدلجة للجماعات المتشددة والمسلحة- “رويترز”

من ثم، فإن تلك الحرب التي تقودها “حماس” برعاية إيران ومحور ما يسمى “المقاومة”، تكاد أن تكون عملية مقصودة لتحريك سياسات بعينها (وليس لتحرير غزة أو فلسطين كما شائع دعائياً) وتهدف إلى إعادة تموضع القوى الإسلاموية من جديد، وإشراكها في المحاصصة السياسية والحكم في ظل ترتيبات إقليمية وجيوسياسية جديدة يتوزع فيها النفوذ والأسهم وكذا الأرصدة. إذ إن استعادة “داعش” لطاقته بهذه الوحشية والعنف في سوريا مثلاً حيث نفذ فيها أكثر من خمسين عملية إرهابية منذ اندلاع “طوفان الأقصى” فقط، وقضى فيها نحو مئة أو أكثر قليلاً بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان” من المدنيين والعسكريين وتحديداً بمناطق “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، ثم ما جرى أخيراً في موسكو، لا يمكن القبول به على أنه محض صدفة، بل هو استفادة قصوى واستراتيجية من وضع إقليمي ودولي تتهيأ فيه مثل تلك التنظيمات لإعادة تموضعها وترتيب صفوفها لتشكيل قاعدة انطلاق وهجوم ضمن شبكة أهداف أمنية معقدة بتكتيك “الذئاب المنفردة” الذي يعتمد على السرية والمباغتة.

كما أن “الإدارة الذاتية” التي تحدثت وحذرت بشكل واضح من خطر “داعش” الذي يسعى لتجنيد أفراد جدد، ويقوم بتشكيل تنظيماته من جديد، الأمر الذي تتفق فيه القوى الغربية والولايات المتحدة مؤخرا”، يكشف عن صعود لافت على أتون الحرب المشتعلة حيث تشتغل خطابات تلك الجماعات من “القاعدة” بفروعها المختلفة (في شبه القارة الهندية أو اليمن) مروراً بحركة “الشباب الصومالية” وحتى “داعش”، على نغمة العداء بين الغرب والولايات المتحدة ووضعهما ضمن كتلة الأعداء والخصوم وينبغي مواصلة الحرب ضدها.

فالحرب في غزة كانت حرب تحريك لهذا الخطاب الذي يتماهى مع أدبيات الإسلام السياسي من جديد، ومنحه الفعالية والشرعية للتأثير بعد خفوته التام. ومن خلال شن خطابات كراهية يمكن تعبئة الأفراد في العالم الإسلامي والعربي بالضرورة تحت وطأة العنف والعنف المضاد، وتعميق الانقسام (الصراع مع الغرب الكافر) على الأساس الطائفي القومي بما يجعل فرص تنفيذ هجمات في تلك العواصم وغيرها مشروعاً وأهدافاً مقبولة لدى الرأي العام الإسلامي والعربي وربما توفير قاعدة وحاضنة لاستهداف الشباب للانخراط في تلك التنظيمات والتي تعرضت لضربات أمنية تسببت في تآكلها تنظيمياً وحركياً وتراجع نفوذها المجتمعي.

زيادة خطورة “داعش”

نلمح في أعقاب الحرب المباغتة لـ”حماس” على إسرائيل، أن “داعش” غيرت من استراتيجيتها وهي التي خسرت مساحات جغرافية تمكنت منها بوحشية وعبر جرائم جمة في سوريا والعراق، ولجأت للكمون واعتمدت تكتيك “الذئاب المنفردة”، ثم وجدت في بعض المناطق بإفريقيا وآسيا فرصة للصعود والتنافس مع تنظيمات أخرى لها باع في الجهاد العالمي والمعولم.

لا يختلف الخطاب الإعلامي الذي يقوم على توليد المظلومية بالمعنى الديني وتوظيفها السياسي بالشكل التحريضي بين “داعش” و”القاعدة” وحتى الإخوان.

وتقاسمت “داعش” الخطاب ذاته العدائي تجاه الغرب، وعنونت صحيفتها “النبأ” بعد نحو خمسة أيام من الصراع بـ”نصرة المسلمين” واعتبرت أن ما يمر به المسلمون اليوم عبارة عن “محنة” وقد أشارت إلى ضرورة الوحدة والاصطفاف لـ”نصرة المؤمن” خاصة من التعديات التي يقوم بها “الكافر عليه بقتل، أو أسر، أو تهجير”. لم تشر بوضوح أو شكل مباشر إلى الحرب في غزة وهذا مقصود حيث إن الحرب مقصود منها تعميم الصراع ضد الغرب وتعميق النزاع معه، والقضية ليست إسرائيل أو “تحرير فلسطين”، إنما تحريك المظلومية الإسلاموية لابتزاز قوى دولية وغربية لحصول الإسلام السياسي مرة جديدة على مكتسبات وامتيازات في المجال العام بالمجتمعات العربية التي طرد منها وآكلت شعبيته. 

ولا يختلف الخطاب الإعلامي الذي يقوم على توليد المظلومية بالمعنى الديني وتوظيفها السياسي بالشكل التحريضي بين “داعش” و”القاعدة” وحتى الإخوان، حيث نجد “القاعدة” أصدرت بيانات قالت فيه: “خيبـر خيبـر يا يهـود.. جيش محمد سوف يعود..”. والإشارة هنا للصراع والعداء التاريخيين إنما هو بهدف فتح الصراع أبعد من إسرائيل واستهداف المدنيين في العواصم الأوروبية وفي كل مكان. بما يؤكد الافتراض السابق أن الصراع يتخطى الظاهر بشأن المسألة الفلسطينية إلى تعبئة الصراع لأقصى حد والضغط على القوى الدولية لتحقيق جملة مصالح تتصل بطبيعة حضور قوى الإسلام السياسي بالمنطقة وتعيين دورها بالمجال العام ووجودها السياسي والمجتمعي وإعادة رسمها في المشهد الذي طردت منه بهدف استعادة النفوذ المفقود.

فمع نهاية العام الماضي، قضى أربعة مدنيين في نيويورك على إثر حادث طعن، والأمر ذاته ظهر في باريس حيث تم طعن امرأة يهودية وبعدها قتل شخص وإصابة شخصين بشكل متزامن. وقد بدا أن هناك حملة “ذئاب منفردة” تتنقل من الولايات المتحدة للعواصم الأوروبية وتنشر الدم والفزع في الغرب، حيث ظهرت حوادث مماثلة في أيرلندا نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي، وفي بروكسل. وكلها كانت تتراوح بين الطعن وإطلاق النار العشوائي. 

قاعة كروكوس سيتي هول في موسكو بعد الهجوم الذي شنه مسلحو “داعش-خرسان”- “رويترز”

ولذلك، تتوخى باريس الحذر بأقصى درجة بينما ترفع مستوى التهديد الأمني إلى الحد الأقصى بعد هجوم موسكو. وأوضح الرئيس إيمانويل ماكرون أن تنظيم “داعش – خراسان” الذي تبنى هجوم موسكو سبق له أن حاول تنفيذ هجمات في فرنسا. 

كما ذكر رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال أن الحكومة الفرنسية رفعت تحذيرها من “الإرهاب” إلى أعلى مستوياته بعد إطلاق النار في موسكو. وسبق أن نقلت صحيفة “نيويورك تايمز”، عن متخصصين في مكافحة الإرهاب مخاوفهم بشأن انعكاس وتيرة الهجمات التي تنفذها “داعش” في موسكو وطهران على مضاعفة عملياته في الغرب، وعلى وجه خاص فرنسا وبريطانيا وبلجيكا. 

مؤامرات ومخططات داعشية

وألمحت الصحيفة الأميركية إلى وجود مخططات داعشية يتم تدبيرها منذ فترة، وقالت إن “عدداً متزايداً من المؤامرات التي كان التنظيم الإرهابي يعمل على تنفيذها في أوروبا، قبل إحباطها، خلال الفترة الماضية”. وأشارت الصحيفة إلى المخاوف ذاتها والتحذيرات التي عرج عليها المسؤولون الفرنسيون ومنهم ماكرون، حيث الحدث الرياضي الأهم بفرنسا في الصيف المقبل وتنقل عن المسؤول بالأمم المتحدة في قضايا مكافحة الإرهاب إدموند فيتون براون، قوله: “أنا قلق بشأن دورة الألعاب الأولمبية في باريس”، لافتاً إلى أنها “ستكون هدفاً إرهابياً ممتازاً”.

على موقع التواصل الاجتماعي “إكس” (تويتر سابقاً) قال الرئيس الفرنسي ماكرون في أعقاب اجتماع مع كبار مسؤولي الأمن والدفاع إن القرار الذي يأتي قبل أشهر من استضافة باريس لدورة الألعاب الأولمبية، اتُخذ “في ضوء إعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن هجوم (موسكو) والتهديدات التي تلقي بظلالها على بلادنا”. وقد كشف عن محاولات محمومة للتنظيم لتنفيذ هجمات في فرنسا في الأشهر الماضية. 

مطلع الشهر الحالي، عاودت مسؤولة الأمن الداخلي جلسة استماع أمام لجنة القوانين في مجلس الشيوخ الفرنسي سيلين بيرتون، تشديدها على ضرورة “عدم تناسي عودة التهديد الأمني (إلى الأراضي الفرنسية) بالنظر لما هو جارٍ على المسرح الخارجي، خصوصاً في إطار جيوسياسي متوتر، وبسبب تنظيمات إرهابية تستهدف الغرب. فليس لدينا أي شك أن هذه التنظيمات الإرهابية سوف تسعى للاستفادة من إقامة الألعاب الأولمبية في فرنسا “نهاية تموز/ يوليو ــ بداية آب/ أغسطس لتضرب البلاد”.

وتتخوف فرنسا والغرب من الدينامية الإسلاموية التي تنجح من خلال خطاباتها المتشددة، وتأجيج المشاعر الدينية المسيسة وربطها بالأحداث في غزة مثلاً، في حشد العناصر أو الخلايا النائمة بالعواصم الأوروبية لتنفيذ الحوادث الإرهابية بطريقة “الذئاب المنفردة” سواء بالطعن أو إطلاق النار على المارة، حيث إن قوى الأمن تلقي القبض على مراهقين لا تتجاوز أعمارهم الـ14 عاماً بينما كانوا على وشك تنفيذ حوادث إرهابية بفعل تأثير خطاب الكراهية. وتنامي هذا العنف بمقدوره تحريك الأفراد وتحويلهم إلى سلاح جاهز لتبديد الآخر “الكافر”.

لذا، تؤكد السفيرة الأميركية لدى بغداد، ألينا رومانوفسكي أن “تنظيم داعش لا يزال يشكل تهديداً في العراق” كما في غيره. وتابعت: “عمل التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة مع العراق لهزيمة التنظيم بشكل كامل، لم ينته بعد”. مؤكدة أن “الهجوم الذي نفذه تنظيم داعش في روسيا يذكرنا بضرورة هزيمة التنظيم في كل مكان”.

وكانت صحيفة “فورين أفيرز” قد أشارت بوضوح إلى تأثيرات الحرب في غزة والدور الذي تلعبه “حماس” في الصراع على العقل الجهادي الذي يدير معركة أخرى توسع من نطاق الصراع ميدانيا كما توسع من نطاق المستهدفين، مشيرة إلى البيانات الصادرة عن تلك القوى وتحمل نبرة عدائية هجومية وتحريضية على المصالح الأوروبية والغربية واليهودية. 

ولفت التقرير إلى أن ثمة مصالح تجمع “حماس” بالقوى الجهادية رغم تباينهما “الأيديولوجي العميق”. لكن الصراع في غزة كلما ازدادت دمويته كما بعث أو “رفع درجة الغضب بين المسلمين وأعطى مصداقية للنظرة المتطرفة العالمية للإسلام الذي يواجه قوى الكفر”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة