على هامش “مهرجان الأقصر” للسينما الإفريقية، مؤخراً، لمح الممثل المصري الكبير والمثقف صبري فواز، إلى جملة الاعتراضات التي طاولت الفيلم الأخير “رحلة 404″، من خلال مقص الرقيب. وربما خلافات الفنان مع الرقابة وصدامه مع الرقيب الذي له معايير تختلف عن شروط الفن ومعنى الإبداع الذي هو بالأساس سلطة لحاله، بينما يرفض أو على نحو أكثر وضوحاً يتمرد على الوصاية والقيود مهما كانت مرجعيتها، تبدو متلازمة ترافق علاقتهما التي لا يسودها الود بقدر ما الاحتكاك والمقاومة وصراع الإرادات: الفن أو السلطة.

غير أن جملة لافتة وعبارة استطرد فيها الممثل المصري، جعلت الذهن يتفتق عن مشاعر عديدة وأفكار مختلفة، بخصوص “السينما النظيفة”، وقال: “مفيش حاجة اسمها سينما نظيفة.. دي جملها قالها واحد حاسس أنه عايز ينضف”، مشدداً على أن السينما ينبغي أن تكون جيدة الصنع وممتعة فقط، وهذا المطلوب في الفن عموماً.

الفن و”السينما النظيفة”

أوجز الفنان المصري بعفوية شديدة وبروح هادئة ليس فيها تعقيد أو مبالغات نظرية موقفه من موقعه كمبدع يساهم بإنتاج فني سينمائي. فالفن لا يمكن إحاطته بتلك المفاهيم الأخلاقوية التقليدية. وتعبير السينما النظيفة الذي راج على يد التيارات المحافظة والإسلاموية كان مقصوداً به إدانة الفن برمته، وإحداث هذا الشقاق بين نوعين من الفن حسب مفاهيم وزعمهم، وأن في المقابل هناك ذلك الفن المحرم الآثم الملعون بمشاهد وأفكار وحوارات تكسر الحواجز وتضج بالقيود وتبدد التقاليد البالية التي تحافظ على امتيازات فئوية لجماعة أو سلطة بعينها. والتعبير في فترة رواجه كان ضمن حملة تندرج معها محاولات لـ”أسلمة” العلوم والفنون والثقافة وكافة قطاعات المجتمع. وهو أداة استقطاب قصوى لعمل الشرخ بين ما هو إسلامي مقبول ويحمل “النظافة” المطلوبة وآخر تنفي عنه التيارات الإسلاموية تلقائياً الصفات “التطهرية” ويبدو مشبوهاً ملوثاً.

بوستر فيلم “رحلة 404”- “الصورة من الإنترنت”

في الواقع أن الجماعات الإسلاموية بتياراتها المتنوعة، من جماعة الإخوان وحتى أقصى نموذج ونسخة معاصرة وصلت لذروة التوحش ممثلة في “داعش”، لم ترفض الفن بالكلية، إنما هي تحاول السيطرة على الفن وتقديم النموذج الذي يخدم رؤيتها. 

الفن كما أشياء أخرى بالنسبة لهذه التيارات ليس أكثر من كونه أداة تتمركز حولها وعلى تخومها الدعاية السياسية الدينية والأيديولوجية العقائدية للتنظيمات، فتوسع من قاعدتها وتروج لمعانيها وتنشر قيمها وأفكارها وتحرض على سلوكها وتسعى لتعميمه، وتكون في المحصلة وسيلة جذب وانتشار وكسب بالمعنى السياسي والحزبي.

كان لدى جماعة “الإخوان المسلمين” منذ بداية نشاتها في مصر، تحديداً في مدينة الإسماعيلية شمال شرق القاهرة اهتماماً بالفن، ولديها فرق موسيقية ومسرح، الأمر الذي تستخدمه كحيلة تاريخية دفاعية للتأكيد على انفتاحها الثقافي الفني على الإبداع. 

وفي المقابل، كانت هي الجماعة ذاتها (وأذرعها المختلفة) التي تصدت بعنف للكثير من الأعمال الفنية، أدبية وسينمائية ودرامية، ووصفتها بـ”الخلاعة”، بينما كانت تتفادى النقاشات السياسية والأزمات الإقليمية الملحة وتتهافت لسحب فيلم من دور العرض السينمائي من خلال دعوى قضائية أو عبر نوابها في البرلمان، وكذا مصادر رواية أو كتاب. 

هاجم المتشددون فنانون كثر ولاحقوا المبدعين بتهم عديدة، منها “العمالة” للغرب الذي هو معادي للإسلام حتماً، والتملق للأول على حساب الأخير، وقد تكررت حوادث مؤسفة مثلما حدث مع الروائي السوري حيدر حيدر ورواية “وليمة أعشاب البحر” وتم مطالبة مصادرتها في القاهرة عندما نشرتها “وزارة الثقافة المصرية”، فضلاً عن ما جرى مع نجيب محفوظ ومحاولة قتله وشن هجوم على روايته “أولاد حارتنا” ومصادرتها لسنوات طويلة.

كما تعرض السيناريست الكبير وحيد حامد الذي خاض معارك فنية ضد الجماعات المتشددة، وتمكن من فضح تاريخهم وانتهازيتهم وتخريبهم للوجدان المصري والهوية الإنسانية بشكل عام، من خلال أفلام مؤثرة كـ”الإرهابي” ومسلسل “العائلة” فضلاً عن مسلسله الشهير “الجماعة” والذي يعرض فيه تاريخ الجماعة الأم لكل الحركات الإسلاموية، ووصل الأمر حد الشماتة في وفاته قبل أعوام قليلة. 

إن الأفلام الدعائية التي ينتجها تنظيم “داعش” الإرهابي تتمتع بتقنيات عالية، ولكنها في الواقع زهيدة التكلفة، ويمكن إنتاجها بما لا يزيد عن ألف دولار، والهدف الأساسي للتسجيلات هو بث الذعر في صفوف الأميركيين.

مارشال كوري، مخرج أميركي

ويمكن القول إن الفن بالنسبة للتيارات الدينية من الإخوان لداعش أو بداية من فكرة المسرح والفرق الغنائية وحتى “صليل الصوارم” الأغنية التي راجت لتنظيم “داعش” الإرهابي وتصويرهم بتقنيات إخراجية حديثة وبارعة ومتطورة ومن زوايا مؤثرة لعمليات العنف الوحشي كان عبارة عن امتلاك القوة ومصادره، بمعنى وعبارة أخرى الاستعانة بالوسائلة الحداثية والتكنولوجية المتطورة لمضاعفة أثرهم النفسي الإرهابي والمتشدد ونشر الرعب. هذا ما يمكن توصيفه بعولمة الإرهاب وتدشين أممية الخوف الفاشية والذعر من خلال تلك الوسائط العالمية بتأثيراتها السينمائية الهوليودية والدرامية.

استقطاب الشباب عبر الأفلام

وبحسب ما نقلت عنه شبكة “سي إن إن” الأميركية، قال مارشال كوري، المخرج الأميركي المحترف للأفلام الوثائقية، إن الأفلام الدعائية التي ينتجها تنظيم “داعش” الإرهابي تتمتع بتقنيات عالية، ولكنها في الواقع زهيدة التكلفة، ويمكن إنتاجها بما لا يزيد عن ألف دولار، مضيفاً أن الهدف الأساسي للتسجيلات هو بث الذعر في صفوف الأميركيين.

وقال كوري: “من المهم مراقبة الأدوات التي يمتلكها التنظيم ويعمل من خلالها، هم ينتجون الأفلام التي تشبه ما يظهر بأفلام هوليوود مثل الحركة البطيئة أو تكرار المشهد أو عكسه، وكأننا أمام مشاهد من فيلم “ماتريكس”. لافتاً إلى أن “هذه التكنولوجيا وضعت في الأصل من أجل تسهيل عمل المخرجين المستقلين الذين يحاولون إنتاج أفلام زهيدة التكلفة، ولكن للأسف فإنها تقع أيضاً بين يدي جماعات مثل داعش”.

وأوضح المخرج الأميركي دوافع التنظيم الإرهابي: “أظن أنهم يحاولون إخافة الناس عبر التسجيلات التي تظهر فيها عمليات قطع الرؤوس والفظاعات الأخرى، هذه المقاطع الترويجية تهدف إلى لفت انتباه الشباب بأنه يمكنهم لدى الانضمام للتنظيم أن يكونوا جزءا من فيلم المغامرات الذي يشاهدونه أمامهم، كأنهم يقولون لهم: ألا تعتبرون هذا الأمر مشوقاً ومدهشاً؟ إذا لماذا لا تشاركون فيه؟”.

الفن بالنسبة للتيارات الدينية من الإخوان لداعش أو بداية من فكرة المسرح والفرق الغنائية وحتى “صليل الصوارم” الأغنية التي راجت لتنظيم “داعش” الإرهابي-” الإنترنت”

وذكر مشاهداته الميدانية والتي كان من بينها ما جرى في “ليبيا أيضاً”. إذ “كان هناك مقاتلون يطلقون النار بكثافة في المعارك في حين يقف رفاق لهم ليلتقطوا الصور، وهؤلاء كانوا من جماعات مختلفة تماماً عن داعش، ولكن الدافع واحد، وهو الرغبة في المشاركة بفيلم أكشن، وداعش يلعب على نفس وتر الرغبات لدى الشباب”.

إلى جانب الأناشيد التي تبعث، وفق مفاهيم الجماعات الدينية الأصولية والمسلحة، معاني “الجهاد” وتحفز لديهم طاقة “العنف” و”القتال”، فإنها كذلك وسيلة للتعبئة وجذب الحواضن المحتملة والتي ترغب في الانسياق وراء تلك الأفكار والممارسات الراديكالية.

وفي الموقع الرسمي لجماعة الإخوان، هناك عرض لموقف جمع المؤسس في أربعينات القرن الماضي بالفنان المصري أنور وجدي، حيث قال الفنان للمرشد المؤسس: “أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل.. طبعاً أنتم تنظرون إلينا ككَفَرة نرتكب المعاصي كل يوم، في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعاً”. فقال له البنا: “يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم، فالتمثيل ليس حراماً في حد ذاته، ولكنه حرامٌ إذا كان موضوعه حراماً، وأنت وإخوانك الممثّلون تستطيعون أن تقدموا خدمةً عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل إنكم تكونون أكثر قدرةً على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعَّاظ وأئمة المساجد. إني أرحِّب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنَتَبَادَلَ الرأيَ حول ما يمكن أن تُسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله”.

“الفن الوعظي الإرشادي”

حديث الفنان والبنا لا يختلف في حقيقته عن واقع موقف الإسلام السياسي بكافة تياراته من الفن. الفن الوعظي الإرشادي الذي يحمل تبشيراً بفكرة دعوية تؤسس لـ”الخلافة” أو تعادي “الغرب” الذي يتربص بـ”الإسلام والمسلمين”، بل يلح على فكرة “الأممية” و”أستاذية العالم”، ويفترض الرؤية المانوية للعالم التي هي خير وشر و”دار سلام” و”دار حرب” و”حزب الله” و”حزب الشيطان”.

لذا، لا يتوانى قادة الجماعة الإسلاموية عن وصف السينما الأميركية بأنها صناعة سياسية ولها ارتباطات بدوائر خارج النطاق الفني لتحقيق أهداف مختلفة وبعيدة تماماً تتصل بالأمن والسياسة. وهذه الفكرة تسيطر عليها أعراض وهواجس المؤامرة العالمية ضد الشرق الذي هو مسلم وعربي بالضرورة من دون اعتراف بالآخر والتنوع، تبدو تهمة تدخل في إطارها الدولة المصرية كما ذكر موقع الجماعة في مقال منشور على المنصة الإلكترونية. 

وجاء فيه: “لا أحدَ يُنكر أن “هوليود” بارعةٌ جدًّا في ترويج الأكاذيب الأميركية، فهي مرتبطةٌ بدوائر صنع القرار الأميركي، وإحدى مروِّجي السياسات الأميركية؛ لذا ترى كلَّ إمكانات البنتاغون والمباحث الفيدرالية تحت يدها وبميزانيات مفتوحة، … لذلك هي ليست مدينةً للترفيه والتسلية فقط كما قد يبدو، بل هي إحدى بؤر السياسة الأميركية..”. بل إن الكاتب حاول أن يتوهم في مقاله أن الأفلام التي لها صورة عن حروب الفضاء الخيالية هي تحمل رمزية متوهمة عن عداء أميركا لباقي العالم والقضاء عليه لتحقيق القوة وطبعاً. 

وفي المقابل، اتهم السينما المصرية بأنها تصطف مع هذا الطرف والترويج لأفكاره لدرجة تزييف الحقائق واعتبار أن الحقبة الإسلامية في الأندلس تعرضت للانحسار والهزيمة نتيجة اختلاط الرجال بالنساء ومن هنا يواصل الغرب حربه على المسلمين من خلال توسيع “الموضة” وتجميل المرأة لمضاعفة أثر الفتنة!. 

الرقص والغناء الذي كان تعبيراً رمزياً ومجازياً عن الفن ويحمل رغبة في الاندماج اللانهائي مع الكون بأبعاده وانفتاحه للحصول على الحرية ورفض الضيق والانغلاق بالنسبة للإسلامويين انحطاط أخلاقي وديني.

وتابع الكاتب في منصة الإخوان الرسمية قائلاً: “ونأتي إلى هوليوود الشرق وفيلم (المصير)، والذي اختار فيه مخرجُه يوسف شاهين الحقبةَ الأندلسيةَ التي هُزم فيها المسلمون وتم طردُهم من الأندلس نهائياً عام 1492م؛ ليجعل الأحداث تدور إبانها والتي اشتعل فيها الصراع بين فكر ابن رشد والعلماء المسلمين، فيقومون بحرق كتبه؛ في محاولةٍ للقضاء على فكرِه، ولكن يتضح أن أحد تلامذته يحتفظ بنسخة منها كلها، فيعيدها إلى الحياة مرةً أخرى، بل إن أحد الأوروبيين الذين تعلَّموا على يديه تحمَّل المشاق في أن ينقلها إلى أوروبا والتي كانت سبباً في تقدمها، وهكذا نجد أن أفكار ابن رشد هي التي بقيت في النهاية ضد علماء الدين. ثم يضع الفيلم استراتيجية مواجهة الإرهاب والأفكار المتطرفة بالغناء والرقص؛ حيث يغني أحد أبطال الفيلم أغنيته الشهيرة: “علِّ صوتك بالغنا.. لسه الأغاني ممكنة”.

وبحسب الكاتب، فإن “الموسيقى والغناء والرقْص هي الحل وهي الوسيلة المُثلَى لمواجهة الأفكار المتطرفة والأعداء القادمين (كما في الفيلم)، وهذه إشارة تجعل التناقض بين التطرف من ناحية والرقص من ناحية أخرى، بحيث يصبح التقابل بين الإيمان والدين من جهة، والخلاعة وانعدام الأخلاق من ناحية أخرى. فالرقص والغناء الذي كان تعبيراً رمزياً ومجازياً عن الفن ويحمل رغبة في الاندماج اللانهائي مع الكون بأبعاده وانفتاحه للحصول على الحرية ورفض الضيق والانغلاق بالنسبة للإسلامويين انحطاط أخلاقي وديني، رغم أن الصوفية تلجأ إلى هذا الشكل ضمن نشاطهم الروحي للارتقاء والسمو والاتحاد مع المطلق.

لكن الكاتب المنتمي للإخوان في مقاله يرى أنه “في هذا الإطار من الممكن أن نفسِّر هذا الطوفان والذي ينصبُّ علينا صبّاً من خلال الفضائيات، محمَّلاً بالعُري والابتذال والتمرد على القيم والأعراف وكل ما يمتُّ إلى تعاليم الإسلام بصلة، وأصبحنا نرى أناساً من جلدتنا يتحدثون ويطعنون أينما يقف الإسلام!! .. عِدُون الشباب والفتيات ويمنُّونهم، وما يعدونهم إلا غروراً.. يزيِّنون لهم حياةَ المجون والعَبَث..”، ويقول إنه من “أسباب ضياع مملكة غرناطة وهي آخر ممالك المسلمين في الأندلس كان بسبب اختلاط النساء بالرجال وتفنُّن النساء في إظهار مفاتنهنَّ”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات