عملية مقتل أو تصفية القيادي في “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) والتي انتقلت في تبعيتها بين تنظيمي “القاعدة” و”داعش” الإرهابيين، لها مؤشرات جمّة، وتفصح عن حالة غليان تنظيمي وضغوط تنذر بأفق معتم. وأمام هذا الانسداد، لن تكون الحالة الأخيرة من العنف بغض النظر عن الأطراف المتورّطة والمسؤولة عنها أو التي يحتمل ضلوعها في ذلك، إنما ستلاحق أطرافاً آخرين. ومع ذلك فإن الهيكل التنظيمي بات أمام تصدّع كتلة ومكوّن رئيسي فيه حتى مع عملية العزل القسري التي تتم للأفراد والعناصر والقوى المنحازة للقحطاني. 

ومن ثم، فإن النتيجة الحتمية على هذا المسار؛ هي في انحسار وضعف التنظيم الذي سيكون في بيئة كلها مخاوف وهواجس أمنية تجعل ردود فعله عصبية وغير متماسكة، كما تؤدي إلى خيارات تفاقم من ظروفه الصعبة، لا سيما تحت وطأة التظاهرات والاحتجاجات في مناطق نفوذ “الهيئة”. 

مقتل أبو ماريا القحطاني

وقال “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، إن أبو ماريا القحطاني من أبرز قيادات تنظيم “القاعدة” في سوريا، وهو ميسر علي موسى عبد الله الجبوري والمعروف بـ “القحطاني”، وهو جهادي من العراق. وفي العام 2011، أرسله البغدادي مع الجولاني إلى سوريا لتأسيس فرع لتنظيم “القاعدة”، وشغل منصب المسؤول الشرعي والقاضي العام للجبهة. كما يشار إلى أن القحطاني عُيّن مسؤولاً عن ديوان الحسبة وعضو اللجنة الشرعية في مدينة نينوى بعد الإعلان عن دولة العراق الإسلامية في تشرين الأول/ أكتوبر 2006، بعد أن خرج من السجن.

أبو محمد الجولاني (يمين) أبو ماريا القحطاني (يسار)- Source: SM

ووفق المرصد الحقوقي، مقره لندن، أفرجت “هيئة تحرير الشام” عن القيادي في الصف الأول أبو ماريا القحطاني وهو من الجنسية العراقية في 7 آذار/ مارس الفائت، بعد اعتقاله 7 أشهر، بتهمة التواصل مع جهات معادية. وجاء في بيان اللجنة القضائية، بعد الاطلاع في قضية “المتهمين بالعمالة” براءة أبو ماريا القحطاني من تهمة العمالة، والإفراج عنه. 

كما خضع للإقامة الجبرية في منتصف آب/ أغسطس الفائت، إثر اعتقال خلية تعمل لصالح “التحالف الدولي” واعتراف أفرادها بتورطه. فيما أعلنت “هيئة تحرير الشام” عن تجميد مهام وصلاحيات القيادي في صفوفها أبو ماريا القحطاني، ثم وصلت أنباء عن تصفيته. وقالت في بيان لها: “القحطاني أخطأ في إدارة تواصلاته” دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل. فيما تتكتم “هيئة تحرير الشام” عن مصير العملاء، وتجري عمليات إعدامهم في ظروف مجهولة كما تدفن جثثهم بطريقة سرية ولا تسلمها لذويهم إلا في حالات خاصة.

ويشير المرصد: “اعتقل الجهاز الأمني (للهيئة) عشرات العناصر العسكرية بينهم قيادات في الصف الأول. وذكرت المصادر بأن الجولاني، حذر القيادات الأمنية والعسكرية في الهيئة من تداول قضية أبو ماريا القحطاني في وسائل الإعلام أو أي جهة أخرى، تحت طائلة المسائلة”.

في واقع الأمر، السؤال ليس في الجهة أو الشخص المسؤول عن تصفية أبو ماريا القحطاني، فهذا ليس مربط الفرس، بل يؤدي للتشويش وتغييب الحقائق واستبعاد الرسائل المشفرة. كما سوف يستنزف المرء في دائرة تكهنات قد لا تنتهي، وأمام ترجيحات وسيناريوهات تبدد الطاقة أمام ما يمكن استخلاصه من الحادث بتفاصيله وسياقاته وملابساته. 

لم تكن تبرئة القحطاني سوى مناورة عادية أو على وجه الدقة مثل تخفي الأفعى وهي تصطاد فريستها قبل أن تفتك فيه بمخالبها، وهو المشهد الذي يتبادر إلى ذهن المرء بينما كان الجولاني يبدو متأثراً وينحني على جثمان “صندوق أسراره” في وداع أخير!

وبشكل مبدئي، حتى نقفز على تلك النقطة لما هو أبعد من ذلك، فإن هناك عدة أطراف وجهات ترى في مقتل القحطاني فرصة ثمينة، وتعتقد بأن التخلص منه يوشك أن يجعل أطرافهم تتمدد وعضلاتهم المشدودة تحدث لها انفراجة سريعة. وهذه الأطراف/ الجهات، لا تبدأ عند قائد التنظيم المنتمي له القحطاني أبو محمد الجولاني والذي انقلب إلى خصم في ذروة الاتهام بالعمالة ثم التبرئة، ولا تنتهي عند باقي التنظيمات كـ”حراس الدين” التابع لتنظيم “القاعدة” أو تنظيم “داعش” المصنفين على قوائم الإرهاب.

وقد تكون الأطراف هذه اصطفت ضمناً أو اتفقت علانية على السماح بقتل عضو مجلس الشورى والرجل الثاني في الهيئة بواسطة عبوة ناسفة انفجرت فيه أثناء وجوده في منطقة سرمدا بريف إدلب الشمالي.

تصفية القحطاني من منطق “ملوك الطوائف”

ويمكن القول إن القحطاني قد دخل في منطقة ملغمة عندما اصطدم طموحه بالجولاني أو بات وجوده التنظيمي يمثل عبئاً على “الهيئة”، وقد شعر الجولاني بأن هناك درجة نفوذ تتراكم وتهدد الحيز الذي يتعين أن يتسع لحسابه وحسابه وحده، ثم أدرك بأن الكتل المتنافسة وصراع الأجنحة داخل تنظيمه قد يكون فكي كماشة يلتف حول رقبته. وبالتالي فإن انفجار ألغام تلك المنطقة التي انخرط فيها القحطاني عملية حتمية مع رفع الحماية عنه، وفكرة تصفيته هي تحصيل حاصل، ويبقى المستفيد من غيابه غير خاف على أحد، مع احتمالية أن يكون هناك آخرين ساهموا في القتل أو اجتمعوا على ذلك سراً أو علانية للانتقام أو الثأر أو لأغراض استبعاد المنافس بمنطق ملوك الطوائف.  

كان اعتقال القحطاني من قبل الجولاني واتهامه بالعمالة عملية تكتيكية، ولم يكن بمقدور زعيم الهيئة الاستمرار في الاعتقال أو حتى الدخول في عداء استراتيجي مع شخص بهذا الوزن التنظيمي وبحجم ارتباطاته في الفضاء الجهادي المحلي والخارجي، فضلاً عن الارتباطات الجهوية القبلية والمناطقية، وقد كان الاعتقال بمثابة الضوء الأخضر بأن الحماية التي يمتاز بها الرجل الثاني في التنظيمي هي والعدم سواء، ومن ثم، فإن تصفيته تبقى مشروعة وقيد التنفيذ أو اللحظة المناسبة، وهي في طور الهندسة والإخراج النهائيين. 

وبالتبعية، لم تكن تبرئة القحطاني سوى مناورة عادية أو على وجه الدقة مثل تخفي الأفعى وهي تصطاد فريستها قبل أن تفتك فيه بمخالبها، وهو المشهد الذي يتبادر إلى ذهن المرء بينما كان الجولاني يبدو متأثراً وينحني على جثمان “صندوق أسراره” في وداع أخير!. وفي غضون شهر أو أكثر قليلاً على الخروج من الاحتجاز تم قتل الرجل وقد نطقت اللجنة القضائية المكلفة بالتحقيق معه بأنه “بريء من تهمة العمالة”. 

وإلى ذلك، تبدو ملابسات الحادث ضمن سياق خطة التصفية والقتل جزءًا من عملية الهندسة المقصودة، وتوضح أو تكشف عن رسائل مطلوب توجيهها، حيث أوضح رئيس المجلس الأعلى للإفتاء في الهيئة عبد الرحيم عطون، بأن القحطاني قتل بحزام ناسف نفذه عناصر من تنظيم “داعش”، والإشارة للتنظيم الإرهابي الأخير ليس من باب إزاحة التهمة عن الهيئة وزعيمها الجولاني أو إيجاد مبرر آخر لضلوع “تنظيم الدولة” في الاغتيال، إنما الرسالة تتمثل في تصعيد التنظيم على صدارة المشهد المأزوم وفي الساحة السورية من جديد وفي تلك المنطقة، أي منحه بطاقة حياة مجانية وكسبه تموضع جديد لافت بهذا الحادث ليكون له صدى ترويجي بأن الذراع الطولى لـ”داعش” تمتد وتتوغل من جديد بالمنطقة، الأمر الذي قد يبعث بمخاوف عديدة في صيغة رسائل خشنة لعدة أطراف وفق رؤية الجولاني.

صعود “داعش”

ولا يخفى على أحد أن تنظيم “داعش خراسان” الذي يخوض صراعاً ضد روسيا وقام بهجوم عنيف أواخر الشهر الماضي في العاصمة موسكو، جدد المخاوف من صعود “داعش” في عدة مناطق من خلال أفرعه المختلفة، وقد ذكرت السفيرة الأميركية لدى بغداد، ألينا رومانوفسكي، أن “تنظيم داعش لا يزال يشكل تهديداً في العراق”. وقالت إن “الهجوم الذي نفذه تنظيم داعش في روسيا يذكرنا بضرورة هزيمة التنظيم في كل مكان”. 

كما تعد سوريا ضمن المناطق التي نشطت فيها عمليات التنظيم الإرهاب مؤخراً. وتشير تقديرات القيادة المركزية الأميركية، إلى تضاعف عدد مقاتلي التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق بخلاف ما هو صادر من تقديرات في تقرير نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، وتصل لنحو 2500 شخص. 

وجاء في تقرير “مشروع مكافحة التطرف”، بأن التنظيم الإرهابي “نفذ بشكل مؤكد ما لا يقل عن 69 هجوماً في وسط سوريا الشهر الماضي”. وقضى في تلك الهجمات ما لا يقل عن 84 جندياً في الحكومة السورية و44 مدنياً، وهو أكثر من ضعف العدد الإجمالي لعمليات “داعش” المؤكدة خلال عام 2024.

“داعش” ليس مستعداً للسيطرة على المُدن الكبرى.. ومن المرجح أن يكون غير قادر أيضاً على الاستيلاء على أهداف استراتيجية أقل، لكن يبدو أن هجمات آذار/ مارس تظهر نمطاً ملأت فيه خلايا داعش جزءًا كبيراً من الفراغ في مناطق الحكومة السورية.

ووفق مشروع مكافحة التطرف، فإن الشهر الماضي آذار/ مارس “كان الأكثر عنفاً في تمرد داعش في البادية (وسط سوريا) منذ أواخر عام 2017، حينما فقد التنظيم السيطرة على مناطق استولى عليها”. لافتاً إلى أن “خلايا داعش استهدفت بنجاح وباستمرار مواقع النظام، ونصبت كمائن وأسرت جنوداً وأعدمتهم بشكل متكرر”.

كما نقل موقع “الحرة” معلومات واردة في تقرير صدر مؤخراً عن “مركز معلومات روج آفا”، ويقول إن “داعش واصل هجماته بوتيرة كبيرة في أجزاء من سوريا تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من الولايات المتحدة. وأحصى المركز 27 هجوماً لداعش في آذار/ مارس، وقبلها 26 في شباط/ فبراير، و16 هجوماً في يناير الماضي”.

وليست هذه المخاوف بجديدة، حيث صرح أحد المسؤولين بالجناح السياسي لـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، لموقع “فويس أوف أميركا” مطلع العام، أن أنشطة التنظيم الإرهابي “زادت بدرجة كبيرة” سواء في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” أو حكومة دمشق. ورغم أنه يمكن اعتبار نمو للتنظيم “متواضع” إلى حد ما، إلا أن الزميل بمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومقرها واشنطن، بيل روجيو، قال لـ”فويس أوف أميركا” إن “داعش يحافظ دائماً على قدراته، حتى بعد فقدانه للسيطرة على الموصل والرقة ومواقع أخرى”.

وأردف: “لم يهزم أبداً.. لأننا لم نفعل ما يكفي لهزيمتهم بشكل فعلي. في أماكن أخرى مثل سوريا، سيكون من الصعب للغاية العمل لأنه مع من ستعمل؟.. من ستتعاون معه للقيام بذلك؟”.

ووفق مشروع مكافحة التطرّف فإن “داعش ليس مستعداً للسيطرة على المُدن الكبرى.. ومن المرجح أن يكون غير قادر أيضاً على الاستيلاء على أهداف استراتيجية أقل، لكن يبدو أن هجمات آذار/ مارس تظهر نمطاً ملأت فيه خلايا داعش جزءًا كبيراً من الفراغ في مناطق الحكومة السورية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات