تحدث الرئيس السوري، بشار الأسد، في مقابلة متلفزة، أجراها وزير الخارجية الأبخازي، إينال أردزينبا، في القصر الرئاسي ونشرت مقتطفات منها: “نلتقي معهم (الأميركيين) بين الحين والآخر، مع أن هذه اللقاءات لا توصلنا إلى أي شيء، ولكن كل شيء سيتغير”. 

هذه المقتطفات غذت فكرة أنه ربما يكون هناك اتفاق غير مصرّح به بين الحكومة السورية وبين الولايات المتحدة الأميركية للتخلص من الوجود الإيراني في سوريا، وإخراج الأسد من عزلته، وإن ما يحدث ما هو إلا مقدمة ضرورية لإعادة تأهيل سلطات دمشق إقليميا بعد أكثر من عقد من العزلة السياسية.

وما يدعم هذه التكهنات تعليق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية على حديث بشار الأسد : “لن نعلق على تفاصيل مناقشاتنا الدبلوماسية الخاصة”. فكلام الأسد عن اللقاءات ولم يحدد مضمون هذه اللقاءات أو على أي مستوى تجري أو من يشارك فيها يفتح الباب سراً على الأعداد لشيء في الأروقة الخلفية للسياسة. 

كما أشار الرئيس السوري، في لقائه عندما سئل عن إعادة الحوار مع الغرب إلى أن “الأمل موجود دوما، حتى عندما نعرف أنه لن تكون هناك نتيجة علينا أن نحاول”. وأضاف “علينا أن نعمل معهم بغض النظر عن رأينا السيئ بهم ونشرح لهم أننا لن نتنازل عن حقوقنا، و سنتعاون معهم فقط على أسس المساواة”.

إعلان الأسد عن اللقاءات، يأتي في الوقت الذي تحاول فيه دمشق فك عزلتها الدبلوماسية وإطلاق مرحلة إعادة الإعمار بعد أكثر من 13 عاما من النزاع المدمّر، الذي تسبب في مقتل أكثر من نصف مليون شخص وأحدث دمارا هائلا في البنى التحتية وأدى إلى نزوح وتشريد وهجرة أكثر من نصف سكان البلاد. ليظل السؤال الأكبر مفتوحاً هل حصل الأسد على الضوء الأخضر للتخلص من الوجود الإيراني في سوريا؟

تكهنات تآمرية من الأسد

أن ترجيح حدوث هذا الاحتمال لا تستمد قوتها من إمكانية اللقاءات غير المصرح بها وحسب، وإنما أيضاً من مصلحة الطرفان “الأسد والغرب” التخلص من الوجود الإيراني في سوريا. فالأسد على وجه الخصوص لديه ما يدفعه وبقوة للتخلص من الوجود الإيراني، لأنه لا يحكم إلا بالاسم ولا يوجد إلا حسب رغبة “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” في لبنان.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يسير إلى جانب نظيره السوري فيصل المقداد والسفير الإيراني لدى سوريا حسين أكبري خلال زيارة لموقع ملحق قنصلي للسفارة الإيرانية الذي دمرته الغارة الجوية قبل افتتاح مبنى قنصلي جديد في مكان قريب في دمشق في 8 أبريل/نيسان 2024. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

حتى أن البعض يرى أنه الممكن أن يكون هناك “اتفاق ضمني” بين بشار الأسد والإسرائيليين يهدف إلى القضاء على الميليشيات الإيرانية وأسيادهم في “الحرس الثوري” الإيراني في سوريا، حتى تتمكن حكومة الأسد من السيطرة بشكل خالص على الحكم. 

ليس مستبعدا أن يكون هذا التوجه السوري مدعوما من روسيا التي من مصلحتها التخلص من منافس قوي لها في سوريا. إلا أن خطورة هذا الاتفاق ستحول سوريا إلى ساحة معركة بين إيران ووكلائها وإسرائيل يمكن أن ينهي فعلياً وجودها كدولة ومعها حكم الأسد. 

وما يدعم وجهة النظر – القائلة بوجود اتفاق بين دمشق الغرب – هو بعد أسبوع واحد من الهجوم الإسرائيلي على السفارة الإيرانية في دمشق، كان الأمر كالمعتاد بالنسبة للأسد، وظهر برفقة زوجته وعائلته علنا ​​​​في نهاية شهر رمضان، وشارك في الصلاة وتجول في شوارع المدينة. 

هو ما كان يعني أن سوريا لن تكون جزء من هذه الحرب على إسرائيل، وسوريا لن تكون المسرح الذي تتم عليه الأحداث. فمنذ بداية الحرب في غزة، والأسد بعيد كل البعد عن التصعيد الإقليمي ويقدم نفسه على أنه محايد لأنه يريد الحصول على الدعم من الجميع الذي يضمن له بقاءه السياسي. 

وما كان بشار الأسد ليتحدث عن اللقاءات مع الأميركيين، في ظل التصعيد بين إيران وإسرائيل، لو لم يكن يبتغي بعث رسالة مفادها أنه مستعد للابتعاد عن إيران ومسايرة المزاج الأميركي والإسرائيلي المناهض لها، والنأي بنظامه عنها.

وبحسب الإعلامي السوري، عمار شواخ، في حديثه مع “الحل نت”، فإن الأسد يسعى منذ أكثر من عام للتخلص من النفوذ الإيراني، لأن هذا مقترن بمرحلة مهمة وهي مرحلة إعمار سوريا فقد جعلت الدول العربية وعلى رأسها السعودية والإمارات العربية انسحاب القوات الإيرانية من سوريا شرط رئيسي للمشاركة في إعمار سوريا، وهذا الإعمار مهم للأسد لأنه يساعد على تقديم صورة جديدة له، فهو على استعداد تام للتخلص من التواجد الإيراني الذي سيصبح خطرا على وجوده السياسي.

تلاقي المصالح الدولية

بالنسبة للأميركيين، وبحسب المحلل السياسي والأكاديمي، عمار محمد قطب، في حديثه مع “الحل نت”، يمثل التدخل الإيراني في سوريا بنداً جديداً في قائمة الملفات المتشابكة بين الولايات المتحدة وإيران، وبشكل واضح حاولت إيران استخدام هذا التدخل كورقة ضغط على السياسة الأميركية لأجل تخفيف العقوبات المفروض عليها. 

وزير الخارجية السوري فيصل مقداد (وسط) يزور موقع الضربات التي أصابت مبنى ملحق بالسفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، في 1 أبريل/نيسان 2024. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

كما أن الولايات المتحدة تعلم أن وجود القوات الإيرانية في سوريا يمثل خطراً على حليفتها وهي إسرائيل هو ما تعبر عنه الانفجارات المستمرة في المقرات الإيرانية في سوريا على يد إسرائيل التي تريد المحافظة على أمنها وبقاء قوات “الحرس الثوري” تحت السيطرة. 

لذلك، من مصلحة أميركا من الناحية الاستراتيجية التخلص من القوات الإيرانية، وليس من المستغرب أن يكون هناك شبه اتفاق مع الأسد أو تحرك فردي منه لتحقيق هذا. إذ إن أميركا مهتمة بتقلص الوجود الإيراني في سوريا بشكل عام، وتعمل على محاربة هذه النفوذ في المناطق الجنوبية السورية بشكل رئيسي.

وأضاف قطب، إدارة بايدن تسعى جدياً إلى انسحاب إيران الكامل من سوريا، حتى أنه يمكن القول إن إدارة بايدن ساعدت في تقييد الوجود الإيراني في سوريا من خلال الحد من حرية حركة إيران مع استمرار الوجود الأميركي على الحدود السورية العراقية. 

كما أننا شهدنا صدور قانون “الكبتاغون” الأول والثاني، الذي يمثل حصاراً فعليّ للوجود الإيراني وضربة قاتلة للشبكات الإيرانية في سوريا هو ما يمكن اعتباره خطوة تكتيكية في السياسة الأميركية في إطار التخلص من النفوذ الإيراني. 

وبيّن قطب، أن الإدارة الأميركية أصبحت تدرك مع الوقت أن تمدد النفوذ الإيراني في سوريا يعني مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو ما يسبب قلق للسياسة الأميركية لأن التصعيد المسلح في الشرق الأوسط مادة دعائية جديدة لـ”الكرملين” لتعزيز روايته حول جهود إدارة الصراع التي يقودها الغرب في المنطقة، والتي توصف بأنها غير متسقة وغير فعالة.

موسكو تظهر أن الغرب- الولايات المتحدة في المقام الأول- غير قادر على تحقيق الاستقرار، ولا على حماية حلفائه. فالتمدد الإيراني غير مرغوب بها حتى من الصديقة الروسية التي ترى أن ما يحدث بين إيران وإسرائيل يصيب في مصلحتها السياسية والعسكرية لأن روسيا باتت تدرك أن دورها في الشرق الأوسط سيكون مشروطا ومرهون بتقليل النفوذ الإيراني. 

ولكي تحقق روسيا أهدافها في الشرق الأوسط عليها تحجيم الدور الإيراني، والذي لن يكون بسهولة إلا من خلال مشتركات دولية وفق ما تحكم المصالح السياسية.

وربما تلتقي مصالح دمشق مع واشنطن وموسكو قد يدفع مع الوقت إلى الانسحاب الكامل للقوات الإيرانية من سوريا، وهو ما بدأ يتحقق في بعض المناطق التي كانت تتمركز بها القوات الإيرانية.

انكماش الوجود الإيراني

تناقلت وكالات الأنباء، أخبارا عن تقلص إيران وجودها العسكري في سوريا بعد سلسلة من الضربات على مواقعها الاستراتيجية المهمة، حسبما قال مصدر مقرب من جماعة “حزب الله” المدعومة من إيران و”المرصد السوري لحقوق الإنسان”.

الرئيس السوري بشار الأسد خلال توقيع البرنامج الشامل للتعاون الاستراتيجي وطويل الأمد بين إيران وسوريا، في 03 مايو/أيار 2023 في دمشق، سوريا. (تصوير: ماتين قاسمي/غيتي)

المصدر المقرب من “حزب الله”، قال إن إيران سحبت قواتها من جنوب سوريا، بما في ذلك محافظتي القنيطرة ودرعا المتاخمتين لمرتفعات الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل.

وأضاف المصدر، أنه لا يزال لها وجود في أجزاء أخرى من البلاد. وشهدت الأشهر الأخيرة سلسلة من الضربات على أهداف إيرانية في سوريا، ألقي باللوم فيها على نطاق واسع على إسرائيل، وبلغت ذروتها في ضربة في الأول من نيسان/أبريل الجاري، عندما دمرت القنصلية الإيرانية في دمشق بالأرض وقتلت سبعة من قادة “الحرس الثوري”، اثنان منهم جنرالات.

“المرصد السوري لحقوق الإنسان” من جهته ذكر أن القوات الإيرانية انسحبت من دمشق وجنوب سوريا. وقال مدير المرصد، رامي عبد الرحمن، إن مقاتلين لبنانيين وعراقيين مدعومين من إيران حلوا محلهم.

إيران بدورها، ذكرت مراراً وتكراراً إنه ليس لديها قوات قتالية في سوريا، بل فقط ضباط لتقديم المشورة والتدريب العسكريين. لكن “المرصد” يقول إن ما يصل إلى 3000 عسكري إيراني موجودون في سوريا، يدعمهم عشرات الآلاف من المقاتلين الذين دربتهم إيران من دول مثل لبنان والعراق وأفغانستان.

العديد من مستشاري إيران غادروا سوريا في الأشهر الأخيرة، خاصة بعد ضربة آذار/مارس الفائت، التي أسفرت عن مقتل أحد أفراد “الحرس الثوري” واثنين آخرين، على الرغم من أن بعضهم بقوا في محافظة حلب في الشمال ومحافظة دير الزور في الشرق.

مدير المرصد السوري، رامي عبد الرحمن

وقال أشخاص سافروا مؤخرا إلى دمشق لوكالة “فرانس برس”، إن الوجود الإيراني أصبح أقل وضوحا في العاصمة السورية، مع إغلاق العديد من مكاتب الجيش الإيراني في مدينتها القديمة. وأضافوا أن الأعلام وصور قادة إيران التي كانت معلقة في أجزاء من دمشق اختفت في الغالب.

لذا، وبحسب شواخ، فإن هناك إدارة دولية مشتركة تعمل على تقليل من النفوذ الإيراني في سوريا، كما أن بقاء القوات الإيرانية في سوريا أصبح مكلف للإيرانيين، بالإضافة أن مقتل عدد كبير من القيادات الإيرانية أدى إلى أضعف موقفها الداخلي ، فلن تجد إيران بديل عن الانسحاب من سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات