يقدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه عادةً باعتباره زعيم الشعوب المقهورة، وتصنع التيارات الإسلاموية شعبيةً له ترقى به إلى مصاف أبطال التاريخ الإسلامي الذين فُتحت على أيديهم بلادٌ ووحّدوا الأمة، ويعمل أردوغان بدوره على تعزيز مثل هذه الصورة؛ لما لها من فائدة تجعله يقترب من حلمه ويكون الخليفة العثماني لهذا العصر. 

وتفاجأ أردوغان بتراجع شعبية حزبه “حزب العدالة والتنمية” الحاكم للبلاد، أمام “حزب الشعب الجمهوري” المعارض، في انتخابات البلدية وما يمثّله من تراجعٍ لشعبية أردوغان داخل بلده تركيا، ونذير بانتهاء حلم الخلافة الذي كثيراً ما صارع من أجله، وحاول بكل جهده أن يكون زعيماً لبلدان المشرق الإسلامي، ولكنه الآن بات مهدّداً بفقدان تركيا الذي يحكمها.

ويعبّر أردوغان عن نموذج الحاكم العادل في خيال التيارات الإسلاموية، ويحضر عادة في المقارنات التي تعقدها هذه التيارات، بين نظامها ونُظم الحكم القائمة في بلدان المشرق بوصفه النموذج الناجح لها، وترى فيه خليفة المسلمين القادم، وكثيراً ما دعم أردوغان هذه الجماعات والتيارات، عبر الدعم اللوجستي والمادي والمعنوي، والإيواء كذلك، مما يجعل التساؤل حول تراجع حُلم الخلافة والمشاريع الإسلاموية مطروحاً بتراجع أردوغان.

أردوغان وتراجع شعبية حزبه

بعد تجربة “الإخوان” في العديد من البلدان العربية التي أفضت إلى فشلٍ سياسي واجتماعي غير مسبوق، تراجعت شعبية التيارات الإسلاموية بشكلٍ كبير، وحرصت العديد من هذه التيارات والتنظيمات على إعلان عدم انتمائها إلى “الإخوان”، بل في العديد من الأحيان حاولوا التخفيف من الحدّة الإسلاموية المعروفة بها، وبدى هذا واضحاً في تنازل “الإخوان المسلمين” في الكويت عن مطلبهم الرئيس؛ بتغيير المادة الثانية للدستور، وتصبح الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وهو المطلب الذي تبني عليه “جماعة الإخوان”، والاتجاهات الإسلاموية شرعيتها.

إمام أوغلو يتسلم ولاية جديدة رئيساً لبلدية إسطنبول – “أ.ف.ب”

وحسب ما صرّح به الباحث في شؤون الإسلام السياسي أحمد زغلول شلاطة لـ “الحل نت” فإن الفشل السياسي لـ “الإخوان” دفع العديد من التيارات للاهتمام بنفي الانتماء إلى هذه الجماعة، بل يمكن القول للتيارات الإسلامية، ونلمس هذا في وجود تيارٍ إسلامي يطالب بعدم دفع فاتورة “الإخوان” في مصر، ويعلن ذلك كشعارٍ له، والمغرب كذلك منذ فترات تخفّفت من حمل “الإخوان”.

وأضاف شلاطة أن الجماعات الإسلامية في المغرب تقدّم نفسها في صورة تنفي عنها الانتماء لـ “الإخوان المسلمين”، ويصرّحون بخلفيتهم الإسلامية، ولكن في الوقت نفسه يصرّون على أنهم تنظيمٌ مغربي صرف لا علاقة له بـ”الإخوان المسلمين”، وحزب “النهضة” في أوقات عديدة يعلنون تخلّيهم عن المرجعية السياسية الإسلامية لعدم دفع فاتورة فكر سياسي قد فشل أو تنظيم له أزمات سياسية.

“طوفان الأقصى” وازدواجية الإسلام السياسي

ويمكن إرجاع خسارة “حزب العدالة والتنمية” في انتخابات البلدية بتركيا وتراجع حلم الخلافة العثمانية، إلى ما كشفته عملية “طوفان الأقصى” وتوابعها، من الاستغلال الواضح للقضية الفلسطينية من التيارات الإسلاموية، حيث مثّلت الحرب الجارية في غزة احتكاكاً مباشراً لهذه التيارات مع القضية الفلسطينية، واختباراً لمصداقية الإسلام السياسي ولا سيما أردوغان وحزبه حيال هذه القضية، التي كثيراً ما استخدمها لتجييش الجموع وبناء شعبيته، بوصفها السبب الرئيسي لوجوده وهدفه المرجو، بيد أن الواقع جاء مخيّباً للآمال المعلّقة عليهم، حيث تم استثمار الحرب لنيل شعبية أكبر دون تضامن أو دعم حقيقيَين.

فلم يأتِ فعل التيارات الإسلاموية إلا في صورة إلقاء اللوم على الإدارات السياسية في المنطقة، واتهامهم بالخيانة أو الترويج لأنفسهم من خلال الزعم بأنهم لو كانوا موجودين في موقع مسؤولية لما سمحوا بذلك، دون أن يكون هناك مقترحٌ مفيد فعلياً أو واضحاً يعمل على حلّ هذه الأزمة أو تخفيفها. 

ربما مثّلت عملية “طوفان الأقصى” دفعة قوية للجماعات الجهادية وتيارات الإسلام السياسي، ولكن بعد الرّد الإسرائيلي، والاستغلال الفج لمعاناة المدنيين في غزة من قِبل الإسلام السياسي، وعدم الحِراك الفعلي ذي الجدوى على أرض الواقع لإنقاذ المدنيين تراجع هذا الموقف كثيراً وربما انقلب إلى لومٍ حاد، حيث باتت الرؤية واضحة للجموع والاستغلال السياسي للقضية الفلسطينية واضحاً للعامة.

وبالنسبة لأردوغان فإن جانب كبير من شعبيته في دول المنطقة قد بناها من خلال الترويج لدعمه للقضية الفلسطينية، وتفاجأت مجتمعات بلدان المنطقة من موقفه في الحرب على غزة، حيث جاء دعمه لإسرائيل من خلال سفن عديدة، وكان منها الحامل لمعدات عسكرية، في حين اكتفى بالخطابات الرنانة والدعاء لدعم الفلسطينيين، وعُدّ هذا سبباً رئيسياً لتراجع شعبية أردوغان في المنطقة العربية.

وركّزت الصحافة التركية كذلك على دعمه اللوجستي لإسرائيل ووقوف الدعم لفلسطين عند الخطابات غير ذات المعنى الفعلي، مما جعل مصداقيته محل شكٍّ، ومن الضروري أن يكون لهذا أثرٌ واضحٌ على شعبيته، وهو ما ظهر في انتخابات البلدية التي أسفرت عن تراجع “حزب العدالة والتنمية” بعد تقدمه قرابة عقدين من الزمن، وهذا ما جعل أردوغان يصفها بأقوى هزيمة عرفها حزبه “العدالة والتنمية”

لفظ المجتمع التركي للسياسات الأردوغانية

حسب ما جاءت به صحيفة “الغارديان” البريطانية، فإن تراجع شعبية أردوغان بدأت مع خيبة أمل الشعب في استجابة الحكومة التركية مع الزلزال الأسوأ في العقود الماضية، وعدم الرضا عن الأوضاع الاقتصادية التركية من قبل الشعب، فنسب التضخم وصلت إلى 70 بالمئة والارتفاع الكبير لنسب الفائدة. 

“مَن يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا” هذه العبارة قالها أردوغان، تبدو وكأنها تعبيرٌ واضح عن التهديد الذي مثّله فوز مرشح الحزب المعارض إمام أوغلو ببلدية إسطنبول، ليصبح بذلك المنافس الرئيسي لحزب رجب طيب أردوغان في انتخابات 2028.

وأضافت الصحيفة أن الأدوات السياسية المعتادة من أردوغان، مثل اللعب على الهوية الإسلامية للمجتمع التركي، ودغدغة مشاعر الجماهير بالخطابات الإسلامية وغيرها، لن يؤتي الثمار التي جاء بها مسبقاً، ويتضح هذا من خلال تراجع “حزب العدالة والتنمية” أمام “حزب الشعب الجمهوري” المعارض في القرى والمدن التي عدت معاقل لأنصار أردوغان في الأناضول ومنطقة البحر الأسود.

وتعبّر الاحتفالات التي عمت أرجاء إسطنبول حتى الصباح بفوز “حزب الشعب الجمهوري” المعارض على “حزب العدالة والتنمية”، عن لفظ المجتمع التركي لسياسات أردوغان ورفضه لها أكثر مما عبّرت به نتائج الانتخابات التي جاءت مخيّبة لآمال أردوغان، بما يمثّله هذا من لفظ المجتمع التركي لطرق الإسلام السياسي وسياساته.

“مَن يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا” هذه العبارة قالها أردوغان، تبدو وكأنها تعبيرٌ واضح عن التهديد الذي مثّله فوز مرشح الحزب المعارض إمام أوغلو ببلدية إسطنبول، ليصبح بذلك المنافس الرئيسي لرجب طيب أردوغان في انتخابات 2028، وما أسفرت عنه الانتخابات والاحتفالات الأخيرة أن أوغلو يتمتع بشعبية غير هيّنة، خاصة أنه يعلن مشروعه بوصفه مشروعاً إصلاحياً يسعى لتفادي أخطاء سياسات أردوغان، ويردّد عادة عبارة “كل شيء سيصبح على ما يرام”.

ويمثّل فوز “حزب الشعب الجمهوري” ممثل المعارضة في تركيا بانتخابات البلدية في أنقرة وإسطنبول مؤشراً مهماً لكسر هالة أردوغان التي يصنعه لنفسه، حيث أصبحت شعبيته داخل تركيا ليست ذي قبل، بل أنها تراجعت بشكل ليس بقليل، وذلك جرّاء ما أحدثه أردوغان من فشلٍ اقتصادي وسياسي من خلال دعمه المباشر لـ”الإخوان المسلمين” وغيرها من الجماعات الإسلامية، وعدم تقديم الدعم الكافي لزلزال شباط المدمر، الذي حدث العام الفائت وخلّف خسائر فادحة في مناطق واسعة بتركيا. 

رئيس حزب الشعب الجمهوري أووزغور أوزيل وأعضاء مجلس الحزب أمام المجلس الأعلى في أنقرة الأحد- “إكس/ تويتر”

والواقع أن نتيجة هذه الانتخابات التي جاءت على خلاف المنتظر منها بالنسبة لأردوغان، عبّرت عن وقوف طموحه بتغيير الدستور التركي ليحكم دورة أخرى، في وضع كان يعبّر فيه أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” عن مفاصل الدولة التركية، فتركيا أردوغان، عبارة عن حُكم رئاسي لا يمثّل فيه البرلمان غير ضرورة صورية لا وجود فعلي له. 

ولم تعبّر هذه الانتخابات عن نذير بفقدان أردوغان لحكم تركيا فحسب، ولكنها أيضا تنذر بتهاوي حلم الخلافة الذي أنفق عليه الكثير والكثير، وتراجع شعبية التيارات الإسلاموية التي لفظتها المجتمعات العربية والإسلامية؛ فكما أخذت التيارات الإسلاموية أردوغان باعتباره النموذج الحي الناجح لها وألحّت على هذه، فإنها ستجد نفسها الآن مجبرة على أن تتحمل اليوم تبعات فشله في إدارة الدولة مؤخراً؛ ومن ثم تراجع شعبيته بهذا الشكل الملحوظ، وانفلات الأمور من بين يديه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات