فتور، إنه أنسب وصف يمكن أن يلخص العلاقات الروسية – التركية في الفترة الحالية، والتي كانت مستقرة لسنوات بسبب توافق توجهات الطرفين بعدد من الملفات منها ليبيا وسوريا والقوقاز، لكن بات من الواضح بأنها قد شهدت هزّة دبلوماسية لا تقل ارتداداتها عن الزلزال المدمر في تركيا خلال شباط / فبراير 2023. 

الخلاف المستتر ظهر للعلن، بعد أن تم تأجيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا المقررة خلال شباط/ فبراير الماضي إلى موعد لاحق، في شهر نيسان/ أبريل أو أيار/ مايو المقبل، وهي الزيارة الثالثة التي تلقى ذات المصير. 

أما تفسير ذلك، فإنه يدفعنا إلى مراجعة المتغيرات التي طرأت على الصعيد السياسي والعسكري لتركيا، لأن أنقرة التي تسير على خيط رفيع بين واشنطن وموسكو، كما تقول وكالة “بلومبيرغ”، باتت تميل إلى الولايات المتحدة. 

 من خلال تفعيل “الآلية الاستراتيجية” قبل أسابيع بين البلدين، وهي منصة للحوار والتعاون في مختلف المجالات، والتي وصفت بالأكثر حيوية وإيجابية بعد مرور 3 سنوات من التفاوض التركي الأميركي، يظهر مدى الوضع الحرج وزيادة  انعزالية روسيا في الوقت الراهن. 

صفعات أتقرة صوب “الكرملين” 

وزارة الخارجية التركية، أصدرت بيانا يوم السبت الماضي، بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لضم روسيا لشبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني، مؤكدة عدم اعترافها بالوضع الحالي واعتبرته انتهاكا للقانون الدولي، فيما شدّدت الوزارة على دعم تركيا لوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها، 

كما ورد في البيان، أنه “مرت 10 سنوات على ضم جمهورية القرم الأوكرانية الذاتية الحكم إلى الاتحاد الروسي في استفتاء غير شرعي أجري في 16 آذار/ مارس 2014″، وأكدت تركيا، أنها ستواصل مراقبة التطورات في شبه جزيرة القرم عن كثب، وستضع وضع أتراك تتار القرم على جدول أولوياتها.

بهذا الصدد، يرى مراقبون أن تركيا تعمل مع متطرفين داخليين لزعزعة استقرار المناطق التركية والإسلامية في روسيا، وأنها المسؤولة عن الأحداث الأخيرة التي شهدتها داغستان، كما تقدم تركيا الدعم المالي للجزء الموالي لأوكرانيا من تتار القرم.

أما رفع علم السويد إلى جانب العلم التركي في مقر “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) في بروكسل، فهي أول صفعة تلقتها روسيا في العام الحالي، بعد أن رفعت أنقرة الحظر على هذه العملية التي استمرت 20 شهرا. 

إردوغان وبوتين – إنترنت

الأمر دفع روسيا إلى التهديد باتخاذ “إجراءات مضادة” ردا على انضمام ستوكهولم، مبينة أن الإجراءات ستكون مرهونة  “بظروف ومدى اندماج السويد في الحلف الأطلسي”، إذ تعد مملكة السويد العضو الثاني والثلاثين وآخر دول البلطيق عدا روسيا في “الناتو”.  

لم تنته مسألة انضمام “الناتو” لهذا الحد فحسب، بل إنها فتحت مجالا لتعاون عسكري يشكل ضربة جديدة لروسيا، حيث ناقش وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن خلال تواجده في واشنطن مؤخرا، رفع العقوبات الأميركية التي استهدفت صناعة الدفاع التركية عام 2019 بسبب استحواذها على نظام الدفاع الصاروخي الروسي المتقدم إس-400، فقد كانت عودة تركيا إلى برنامج الطائرات المقاتلة من طراز إف-35، مرهونة بالموافقة على انضمام السويد، إلى جانب التخلي عن المنظومة الروسية. 

من جهة أخرى، أظهر تقرير لصحيفة “برافدا” الروسية تصاعد التوتر بين تركيا وروسيا، حيث قامت تركيا بإغلاق حسابات الشركات الروسية وفرض قيود على استخدام البنوك التركية، مما يعزو إلى الضغوط الأميركية في سياق العقوبات الثانوية. 

إضافة إلى ذلك، بدأت شركة “بايكار” التركية في بناء مصنع لإنتاج طائرات “بيرقدار” دون طيار في أوكرانيا، مما أثار إشادة الأمين العام في “حلف شمال الأطلسي” بتركيا، واعتبر الأمر دعما مباشرا لأوكرانيا في مجال الدفاع، وبهذا السياق، أخبرت روسيا، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أن مصنع “بيرقدار” الذي يملكه صهره سيكون واحدا من أهدافها في أوكرانيا.

“عدم تقبل”

يوجد نوع من عدم التقبل الروسي للسياسة الخارجية التركية في كيفية المحافظة على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة والتغيرات التي تطرأ، وفق ما يراه المحلل السياسي التركي يوسف أوغلو. 

يكمن ذلك، وفق حديثه لـ “الحل نت”، في موافقة تركيا على انضمام السويد إلى “حلف الناتو”، وكذلك التعاون التركي والبلغاري الروماني في اتفاقية مسح الألغام وتأمين البحر الأسود، وهو ما لا يصب في مصلحة روسيا، وفق رأيه. 

في شأن ذي صلة، يبقى الملف السوري شائكا بين الطرفين، حيث أن “هناك غطاء روسي لوحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، في مناطق منبج وتل رفعت شمال شرق سوريا، وهو ما تعتبره أنقرة تهديدا لأمنها القومي”، بحسب أوغلو. 

هنا، تصطدم الرغبة الروسية الراعية لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق بالرفض التام من كلا الطرفين، ففي أحدث التصريحات الصادرة عن أنقرة بشأن التطبيع مع دمشق، قال المتحدث باسم الخارجية التركية، أونجو كيتشالي، إن عملية التطبيع لم تشهد أي تقدم حتى الآن، وأن تركيا لا تجري أي حوار مباشر مع دمشق.

في رد على سؤال حول عملية التطبيع، قال كيتشالي: “سياستنا بشأن التطبيع معروفة في البداية، وقمنا بصياغتها بشفافية، ليست لدينا شروط مسبقة، لكن لدينا توقعات معينة من نتائج هذه العملية في سياق التسوية السياسية وعودة اللاجئين ومستقبل سوريا”. 

سبق هذه التصريحات تأكيد من وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بفشل “الكرملين” في تحقيق لقاء مباشر بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي إردوغان، مشيراً إلى أن التطبيع بين البلدين في الوقت الراهن “أمر مستحيل”. 

المحلل السياسي التركي، ذكر أنه “كان من المفروض أن يحضر بوتين تدشين المرحلة الأولى للمفاعل النووي الروسي في مرسين، لكنه اكتفى بمشاركة متلفزة، رغم توجيه دعوة رسمية له من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان”. 

أوغلو، يرى بأن هذه الخطوة “تندرج تحت سياسة المد والجزر والضغط المرن لمحاولة الحصول على مكاسب سياسية من قبل تركيا لصالح روسيا، نظرا لدور تركيا المتنامي”.

موسكو وأنقرة: القطيعة واردة؟ 

رغم حدة الخلافات خلال الفترة الحالية بين البلدين، استبعد المحلل السياسي التركي إسلام أوزكان، أن تؤدي إلى حدوث قطيعة بين أنقرة وموسكو، أو انهيار في العلاقات، كونها مبنية على استراتيجية يستفيد منها الطرفين. 

خلال حديثه لـ “الحل نت” بشأن عدم تخلخل العلاقة، أوضح أوزكان، أن روسيا تسعى بشكل دائم لزرع خلافات بين تركيا وحلفائها الغربيين في “الناتو”، كما تود موسكو استغلال مكانة تركيا في المنطقة العربية والإسلامية لمصلحتها، خاصة بعد أحداث غزة. 

“بوتين لا يريد خسارة تركيا لأنها الملاذ الوحيد للوساطة مع الدول الغربية”، وفق رأي أوزكان، الذي أكد أيضا وجود خلافات بين روسيا وتركيا حول “مركز الغاز”  الروسي المقرر إنشاؤه في تركيا، والذي من شأنه أن يصبح منصة للإمدادات إلى دول أخرى، منها أوروبا. 

علما روسيا وتركيا

تراجعت الصادرات التركية إلى روسيا بنسبة 34 بالمئة على أساس سنوي خلال شهر شباط/ فبراير الماضي، وذلك بسبب تعطل أو تباطؤ بعض المدفوعات للصادرات التركية بفعل التهديدات الأميركية بفرض عقوبات على الشركات التي تتعامل مع روسيا.

تجدر الإشارة، إلى أن وزارة الخزانة ووزارة الخارجية الأميركية فرضتا عقوبات على أكثر من 250 شركة وأفراد في الصين وتركيا والإمارات، بسبب دعمهم المستمر لروسيا. 

وفقا لبيانات من وزارة التجارة التركية، فقد سجلت الصادرات التركية إلى روسيا خلال شباط/ فبراير مبلغا قدره 670 مليون دولار، مقارنة بـ 1.1 مليار دولار في نفس الشهر من العام السابق.

بالمقابل، انخفضت الواردات التركية من روسيا بنسبة 36.65 بالمئة الشهر الماضي، لتصل إلى 1.3 مليار دولار مقابل ملياري دولار في الشهر نفسه من العام الماضي.

مؤخرا، أشارت وكالة “رويترز”، إلى أن التهديدات الأميركية بفرض عقوبات على الشركات المالية التي تتعامل مع روسيا أثّرت سلبا على التجارة بين تركيا وروسيا، مما أدى إلى تعطيل أو تأخير بعض المدفوعات، سواء لواردات النفط أو للصادرات التركية.

بذلك يمكننا القول، إن روسيا لا تعيش أجمل فتراتها لا مع تركيا ولا غيرها، كما يحاول قيصرها أن يصدّر ذلك عبر التسويق في وسائل الإعلام من خلال ابتسامته التي يخبئ خلفها الكثير من الصدمات، خاصة وأنه جعل من روسيا في حيّز جيوسياسي أضيق من عنق زجاجة. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات