من المعروف أن الأساس في وجود الحركات المهدوية والخلاصية، هو وجود أزمة ما، أزمة ثقافية اجتماعية أو سياسية. هذا ما يؤكده لنا تاريخ ظهور تلك الحركات، فهو تاريخ ارتبط بسياق محدد هو شيوع الاضطرابات والحروب والقلائل التي تعصف بشعبٍ أو جماعة ما.

لقد بات هذا معروفاً لنا بحكم تاريخ تلك الحركات، ولكن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن هذه الأسباب الاجتماعية والسياسية غير كافية لظهور تلك الحركات، التي تمتاز باستقلال ذاتي خاص، فهي تنبع من مصادر فكرية عقائدية متجذرة سيكولوجياً ورمزياً ومخيالياً في بنية الشخصية العربية أو الإسلامية، هذه المصادر تتمثل في الخزان الكبير للتراث النصوصي المهدوي في الديانة الإسلامية بجميع فروعها، شيعية أو سنّية وغيرها من التفريعات الأخرى التي تكاد لا تحصى. 

“المنقذ المهدوي”

لقد ظلت هذه المصادر بمثابة ترسانة مفتوحة أمام أي طامح أو طامع أو مضطرب، فيلجأ إليها الناس وقت الأزمات وتتحرك فيهم رغبة البحث عنها وقت المِحن، لتكون لهم بمثابة المخدّر لا العلاج الشافي. وما أقربها لهم، فهي لا تحتاج دراسة وطول تأمل كالأنواع الدينية الأخرى مثل الفقه أو التفسير والأصول والحديث وغيرها، بل تحتاج خيال واسع، وتأويل قادر على ليّ الحقائق. 

التراث الفكري النصوصي وبدرجة أقل التراث الشفاهي -وبعض التقاليد- الذي تحتفظ به الذاكرة الجمعية للشيعة، وهي تمثّل أرضاً تخصب فيها المشاريع المهدوية.

وهنا يأتي دور الفاعل (الديني) ليكون ناطقاً باسم حاجة الناس لمنقذ يمزج الفكر بالأيديولوجيا، والأيديولوجيا بالتنظيم العسكري والسياسي. يحاول هذا “المنقذ المهدوي” أن يظهر في هيئة الطبيب مكتشف العلاج لما يعانيه المجتمع من أزمات تسبب له الألم والخوف والشعور بالذنب. ولكن سرعان ما تكشف لنا الأيام أن هذا الطبيب لا يحمل في يده سوى جرعة (أفيون)، وأن هؤلاء الناس مجرد مدمنين.

مما تقدم يمكن أن نستنتج أن نمو وتشكّل الحركة المهدوية يمر عبر ثلاثة حقول أو سياقات لا تكفّ عن التفاعل فيما بينها. وتمثل هذه السياقات المحددات أو الآليات التي تحكم نسق تحوّل المهدوية من مجرد فكرة اعتقادية إلى حركة سياسية ذات طابع عسكري مسلح، وهي كالتالي:

أولاً، التراث الفكري النصوصي وبدرجة أقل التراث الشفاهي -وبعض التقاليد- الذي تحتفظ به الذاكرة الجمعية Collective Memory للشيعة، وهي تمثّل أرضاً تخصب فيها المشاريع المهدوية. أن هذا التراث النصوصي هو خزان لا ينضب من السرديات، وحين نتحدث عن الجانب الشيعي، نرى أن التاريخ الشيعي شهد ظهور العديد من الحركات المهدوية لخصوصية هذا المكون الديني الذي يولي موضوع المهدي عناية تفوق عناية المكونات الإسلامية الأخرى، فتاريخ هذه الجماعة الدينية لا يكاد يخلو في أي حقبة من (المهدويين) أو كما يُطلق عليهم (أدعياء المهدوية).

ونرى كذلك أن دولاً عديدة أُقيمت حول هذه العقيدة أو بوحي منها، وكان آخرها الدولة الخمينية في إيران 1979م، والتي انطلقت من فكرة (نيابة) المهدي بواسطة “الولي الفقيه”، لتكون بذلك الجمهورية الإيرانية الإسلامية هي دولة “التمهيد” الديني والعقائدي والاجتماعي والثقافي والسياسي والعسكري لـ”ظهور” المهدي، وليس مجرد “انتظار” المهدي.

ثانياً، سيكولوجية الفاعل أو زعيم الحركة فعادة ما نلحظ أن هذا الزعيم ذو تكوين نفسي خاص ونمط شخصية معين، وتخبرنا القراءة التاريخية للحركات المهدوية أن هذا الفاعل الديني بحكم دوره يقوم بتنظيم شؤون الجماعة المهدوية ليصبح هو زعيمها، فبحسب ما يتعرض له الزعيم أو جماعته من ظروف يتحدد الشكل الاجتماعي- السياسي للعقيدة المهدوية. 

فمثلاً إذا ما تعرّض الزعيم أو أتباعه للاعتقال والسجن سيختلف شكل التعليمات السياسية – الاجتماعية المهدوية التي تصدر للجماعة، كأن تدخل الجماعة في صراعات أو اقتتال مع القوات النظامية، وهذا سيؤثر في تاريخ الجماعة ويطبع الجماعة بطابع عنفي. وهو ما حدث مع أغلب الحركات المهدوية في العراق بعد عام 2003م. فبحكم الطبيعة العقائدية لفكرة المهدوية يكون التصادم مع الحكومات شبه حتمي، فالعقيدة المهدوية مهما اختلف نوعها من جماعة إلى أخرى تؤمن بأن الشكل السياسي للدولة شعباً وحكومة غير صحيح، لأنه ببساطة يجب أن يكون بيد المهدي مباشرة أو من ينوب عنه وهو زعيم الحركة نفسه.

وتأتي الأهمية الاستثنائية لشخصية الفاعل الزعاماتي أو القيادي في تشكل العقيدة المهدوية داخل النوع الديني نفسه، فهو بحكم تاريخ الحركات المهدوية عادة ما يكون الزعيم المنظّم والقائد الموجّه للمجموعة المهدوية، وزعامته مبنية من مدى قربه من المهدي فقد يكون كالخميني (نائب الإمام) المهدي نيابة سياسية (ثيوقراطية)، أو من ينوب نيابة لاهوتية (ميثولوجيا) – ثم تتحول إلى سياسية- الذي يصطلح عليه (الباب) للمهدي. 

اللافت للنظر أن جميع هؤلاء المهدويين الذين ظهورا في العراق بعد سقوط النظام 2003، هم خريجو المدرسة الدينية (الحوزة الناطقة)- “أ ب”

وهذا (الباب) بمرور الوقت يصبح هو المهدي نفسه أو نسخة عنه، فيختار اسما من داخل السردية المهدوية يطابق دوره الذي قرره لنفسه، ويتماهى معه. وهذا ما قام به أغلب مهدويو العراق بعد 2003م – في بداية ظهور حركتهم- كحيدر مشتت (أبو عبد الله الحسين القحطاني)، ومحمود عبد الرضا لفتة الصرخي (محمود الحسني الصرخي)، وعبد الزهرة الكرعاوي (قاضي السماء)، وأحمد إسماعيل كاطع (أحمد الحسن اليماني)، وفاضل عبد الحسين المرسومي (الإمام الرباني)، وأبو علي المختار (حبيب الله)، والحركة (المولوية) وهي جماعة مهدوية غامضة وسرية. 

وآخر تلك الحركات هم ما يسمون (أصحاب القضية) والذين ينقسمون إلى قسمين: الأول وهم (حركة روح الله) التي تعتبر الخميني هو المهدي، وهو لم يمت، بل غاب ليعود مرة ثانية عندما تسوء أمور الشيعة، أما القسم الثاني فهم (حركة النبأ العظيم) والتي تعتبر مقتدى الصدر هو المهدي، وقد تم اعتقال عدد منهم قبل حوالي الشهرين. كذلك يتفرع (أصحاب القضية) إلى مجمعات صغيرة تتنوع حسب اختلافات تأويلية فيما بينهم، فمثلاً يؤمن عدد منهم أن مقتدى، هو المهدي الذي ظهر بعد استشهاد أبيه الذي هو لديهم ما يصطلح عليه تاريخياً (النفس الزكية)، ومنهم من يعتقد أن مقتدى قد استشهد أيام معركة النجف ضد الأميركان والقوات العراقية، وأن هذا الموجود الآن هو المهدي نفسه.

ثالثاً، السياق الاجتماعي، وهو مجموع الظروف التي تحوّل الفكرة العقائدية أو الإيمانية إلى فكرة اجتماعية وعقيدة سياسية عَبر وسيط بشري هو الزعيم. أن هذا السياق من الأهمية، فهو الذي يعمل على تحويل العقيدة الدينية من إطارها الإيماني الاعتقادي إلى حركة اجتماعية سياسية ناجزة.

مثال تطبيقي

مصداقاً لما تقدّم من تقسيمٍ منهجي لنأخذ (حركة السيد الصرخي) كمثال تطبيقي. وحركة الصرخي، هي تنظيم لا يزال فاعلاً في المشهد السياسي والديني العراقي، وقد حصلوا قبل سنوات على تمثيل سياسي في انتخابات مجالس المحافظات العراقية. ومن ناحية أخرى هي حركة مهدوية، كما أنها مثال للحركات التي طبعت – لا أقول بالطابع- بالسياق النفسي والاجتماعي والثقافي…إلخ لمؤسسها (محمود عبد الرضا لفتة الحسني). 

عدد من المهدويين مرّ بتجربة السجن السياسي، ومنهم الصرخي، الذي مرّ بفترة اعتقال طويلة، فقد اعتقل بعد اغتيال محمد الصدر في العام 1999م، ومن ثم بدأ بنشاط ديني محموم، متخذاً من الفكرة المهدوية نافذة لهذا النشاط.

لذا فهي تجمع السياقات الثلاث متفاعلة مع بعضها، وأن مسيرتها السياسية والأمنية تكشف كيف يتم طغيان سياق على السياقين الآخرين. ففي وقت الأزمات يطغى السياق الخاص بزعيمها، لتلتف حوله، ويبدأ بدوره بتوجيه الحركة. ومن جهة أخرى أن الحركة لا تزال مثالاً واضحاً لشدة هذا التفاعل، وهذا ما تكشفه التغيرات – بل الانقلابات- الفكرية والمواقف العقائدية والاتجاهات السياسية التي وصلت إليها الحركة.

ولد محمود الصرخي في مدينة الكاظمية (الشيعية) سنة 1963م، وأخذ دروسه الدينية في (حوزة النجف) على يد السيد (محمد محمد صادق الصدر) في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهذه المدرسة الدينية التي أطلق عليها مؤسسها السيد محمد الصدر (والد مقتدى الصدر) اسم (الحوزة الناطقة) تمييزاً لها عن المدرسة الدينية التقليدية للشيعة والتي تعود – بحسب الشيعة- إلى قرون ماضية. 

واللافت للنظر أن جميع هؤلاء المهدويين الذين ظهورا في العراق بعد سقوط النظام 2003، هم خريجو هذه المدرسة، ويمكن أن يعزى السبب إلى اهتمام المؤسس نفسه بالقضية المهدوية، فقد ألف موسوعة (الإمام المهدي) وهي بأربعة مجلدات، كما أن لشخصيته الكاريزمية – بنظر اتباعه- تأثيراً ضاعف من الميول المهدوية في نفوس هؤلاء التلاميذ، حتى اعتقد العديد من اتباعه بانه المهدي، أو (النفس الزكية) أو (اليماني الموعود). ومن هؤلاء الاتباع ظهرت الحركات المهدوية التي اجتاحت العراق بعد أن وجدت الفرصة سانحة لتعلن عن عقائدها وتوجّهاتها بعد سقوط نظام صدام في العراق.

عدد من هؤلاء المهدويين مرّ بتجربة السجن السياسي، ومنهم الصرخي، الذي مرّ بفترة اعتقال طويلة، فقد اعتقل بعد اغتيال محمد الصدر في العام 1999م، وبحسب ما منشور في المواقع الإلكترونية الرسمية للحركة فإنه لم يغادر المعتقل حتى سقوط النظام في 9/4/2003، حيث أُطلق سراحه، ليبدأ بعدها بنشاط ديني محموم، متخذاً من الفكرة المهدوية نافذة لهذا النشاط.

الامتزاج مع المواقف السياسية

لقد امتزجت التوجهات المهدوية مع المواقف السياسية لدى السيد الصرخي، وانعكست هذه على سيرة الحركة وعلاقتها المتوترة بالحكومة العراقية، حتى حدثت مواجهات مسلحة دامية في عدد من محافظات وسط وجنوب العراق، أدت إلى مقتل العديد من الأشخاص من اتباعه ومن القوات الأمنية العراقية، وفي أحد تلك المعارك الضارية تدخّل سلاح الجو بالطائرات، بمشاركةٍ من القوات الأميركية، لتبدأ بعدها موجة من الاعتقالات التي طالت المنتمين للحركة، وتم حظر نشاطهم وملاحقتهم وهدم مقراتهم، وما يزال الأمر سارياً، ولا يزال السيد الصرخي في طور (الاختفاء) كما اختفى المهدي.

سياسياً رفض السيد الصرخي الأميركان، كما رفض الحكومة العراقية، كذلك دخل في عِداء فكري مع رجال الدين الشيعة على اختلاف توجهاتهم. لهذا ظلت علاقة الحركة بمحيطها الاجتماعي والديني والسياسي متوترة أغلب الأحيان. فبعد سنة واحدة من دخول الأميركان واسقاطهم نظام الحكم في العراق، بدأت أول عمليات المواجهة، ودارت حرباً مبكّراً في 2004 في محافظة كربلاء مع القوات العراقية ومع الأميركان، كما دارت حرباً عقائدية مع بقية الحركات الشيعية المهدوية وغير المهدوية. 

ثم وبتوجيه منه تحولت الحركة من أقصى درجات رفض العملية السياسية إلى قبولها والاشتراك في الانتخابات في العام 2005. فأعلنت الحركة عن تأسيس حزب سياسي أُطلق عليه (حزب الولاء الإسلامي)، وخاض الانتخابات في ذلك العام.

عقائدياً تستند حركة السيد الحسني الصرخي، إلى ما اصطلح عليه شيعياً (التمهيد) لظهور الإمام المهدي، وتعني تهيئة الأرضية الفكرية والنفسية والعقائدية (والتي تجر بالضرورة إلى الجوانب العسكرية)، وهذا ما يجعله مثال للحركة المهدوية وهي تعكس بوضوح تداخل السياقات (العقائدية- النفسية- الاجتماعية) وصراعها، لهذا نجده أحياناً يلجأ إلى أساليب سياسية واقعية، وأحياناً ينتهج الأساليب التقليدية للحركات المهدوية في مناوئة الحكومات، كما تبيّن لنا دراسة حالة هذه الحركة مدى تأثير شخصية الزعيم على مسيرتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات