قد يكون من النافع التذكير أو بالأحرى إعادة التذكير أن “داعش” حركة دينية بالأساس مهما كان حجم تدخل العوامل السياسية بدءا بالوضع الاستثنائي لبلد كالعراق وليس انتهاء بالعامل الدولي كضربات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ومجيء قوات من كافة دول العالم إلى المنطقة. 

وبالنسبة لتصنيف “داعش” كحركة دينية يجب أن لا يتوقف عند هذا الحد، بل هي حركة دينية بامتياز، فقد ثبت لي من خلال التعامل مع هذه الحركة نظرياً وعملياً أنها حركة تسعى لتحقيق (الخلافة) من أجل انتظار نهاية العالم، وأن خطواتها مرسومة وفق سيناريو يمكن العثور عليه في عدد من النصوص الدينية -وخاصة المنسوبة للنبي محمد- والتي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. لكن، ومع كل هذا الثقل النصي لـ”داعش”، فإن ظهوره كتنظيم كان وثيق الصلة بتاريخ طويل من التنظيمات الدينية المتطرفة التي تتبنى العقيدة السلفية.

السلفية والأصول العقائدية

تجمع أدبيات الفكر السلفي بكل أنواعه، الجهادي وغير الجهادي (كالسلفية الإصلاحية عند محمد عبده ورشيد رضا، والسلفية العلمية أو المدرسية عند ناصر الدين الألباني) على فكرة أساسية هي بمثابة مبدأ أولي تدور جميع أفكار هذه المدرسة في فلكها، وهي فكرة التوحيد. 

ستتحول هذه الفكرة إلى عقيدة دينية ونظام فكري شامل للحياة الاجتماعية برمتها، ناسخ لمعنى كلمة (الإسلام)، في ذهن من سيسمون بـ(السلفيين)، وإذا ما أردنا تحديد الحقل الدلالي لمفهوم السلفية يجب المضي في رحلة حفر جينيولوجي لمفهوم السلفية تبدأ من المعنى الأصولي أو الفقهي حتى المعنى السياسي والحركي، ثم يجب الانتباه إلى أن هذه التغيرات المفاهيمية جاءت استجابة للعامل الاجتماعي السياسي، فمثلاً تأثر ظهور السلفية بمعناها الحديث بفترة الاستعمار الكولونيالي، وحركات التحرر القومي وخطابات دولة الأمة الحديثة، ومن ثم تأثير الأنظمة العربية خاصة النظام الناصري، والحواضن السياسية للسلفية في أفغانستان. وفي تلك الفترة ظهر مصطلح (السلفية الجهادية) – ذات البعد العالمي- الذي قطع تماماً مع السلفية السابقة. 

وسيبقى الاختلاف بين الأطياف الواسعة للسلفية في أن كل طيف لا يحدد في تعريف التوحيد، بل في رسم حدود هذا التعريف بحسب الظروف السياسية التي يعيشونها.

وتوضيحاً لذلك، فإن داخل هذا الإطار الفكري العام للتوحيد يتراكم تراث طويل يبدأ بمؤلفات أحمد بن حنبل (الحنبلية المبكر)، والتراث القروسطي لابن تيمية، ثم مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (الوهابية) وعلماء الدعوة النجدية، وبداية تشكل السلفية الحديثة في بداية القرن العشرين (محمد رشيد رضا في مرحلته الوهابية وعدد من تلامذته الذين كانوا متشددين أكثر منه) في ظل محاربة “الاستعمار الغربي” وإعلان الشريف حسين -المتهم بالتعاون مع الغرب- قيادة العالم الإسلامي خلفا للسلطان العثماني المنهار، ثم (أنصار الدعوة المحمدية) والسرورية والتنظيمات المصرية الجهادية، ثم مؤلفات أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، حتى الوصول الى كتابات منظري تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.

نوعين من التوحيد

ومن هذه الفكرة سيتفرع نوعان من التوحيد المسماتين (توحيد الربوبية) و(توحيد الألوهية)، ومنهما ستشتق عدة أفكار، مثل فكرة الإيمان والولاء والبراء، ومقابلاتها الكفر، والشرك. وسيعتبر السلفيون أن منح أي صلاحية لحاكم، “هي أخذ لحق شخصي من حقوق الله”، وإن مفهوم التوحيد من السعة بحيث يمكن أن يجمع السلفية بحركات الإسلام السياسي الأصولية “كالإخوان المسلمين” الذين اختصوا بتطور واحد من مباني التوحيد الفكرية ليصبح مع أبي الأعلى المودودي نظرية “الحاكمية الإلهية”، وسيتم “مفاصلة” المجتمع وفقا لها، حيث سيصبح كل ما دونها “جاهلية وكفر وشرك”. 

وعلى هذا الخط الفكري سيواصل سيد قطب اشتقاقاته في متوالية تكفيرية، كما سيواصل بعد عقود أبو محمد المقدسي تطوير الحاكمية باتجاه “الولاء والبراء”، رافضاً أي نظام حكم سياسي وأي قانون وضعي. 

التكفير كما هو معروف يحتاج إلى أقوى أنواع الجهاد وهو الجهاد باليد، استخدام القوة والعنف لمنع الناس من كفرهم وإرجاعهم إلى الإيمان والمعنى الصحيح للدين، وهنا بدأ الاجتماع الديني السياسي يتبلور حركياً باتجاه حمل السلاح، وتم استبعاد السلفية العلمية أو المدرسة نهائياً والإبقاء على السلفية الجهادية أو المسلحة. وقد وجد هذا الاجتماع أن أول عائق أو الموانع يواجه إقامة حكم الله أو الخلافة هو الحاكم أو ولي الأمر، الذي سيصبح – مع مرور الوقت – هو “الطاغوت”. 

وهكذا سيجتمع تحت مظلة السلف اتجاهان يكادان أن يكونا في الظاهر متباعدين: هما السلفية الوهابية باتجاهها الفقهي، والسلفية المصرية باتجاهها السياسي، وسينتج عنهما السلفية الجهادية. 

مر هذين الاتجاهين السلفيين الرأسيين “العقائدي والسياسي” بتحولات كبرى أنتجت كل هذه الحركات والتنظيمات والتيارات.

وإذا ما جعلنا من مفهوم السلفية الجهادية نموذجاً معرفياً ومقياساً تطبيقياً نقيس به الحركات المتطرفة التي ظهرت وتظهر على الساحة، يجب علينا أن ننتبه إلى أن حركات كـ”داعش” مثلاً كانت أقرب من التنظيمات القطبية “سيد قطب” إلى النموذج الوهابي، خاصة بنسخته الجهيمانية “جهيمان العتيبي”، وهكذا مع اتجاهات وحركات تبدو متباعدة كالفنية العسكرية والسرورية “محمد سرور”، وتيارات ظلت تتراوح بحسب الظروف السياسية كتيار الصحوة السعودي، الذي التحق جزء مهم منه بالجهاد الأفغاني. 

من جهة أخرى ستختلف التيارات التكفيرية فيما بينها حول مفهوم الحاكمية/ الولاء والبراء، فمثلاً من ينحاز إلى الاتجاه الوهابي سيكفر “الإخوان المسلمين” أو “حزب النور المصري” باسم الانتخابات، باعتبارها فكرة تخالف عقيدة الحاكمية/ الولاء والبراء، وأبرز من مثل هذه القضية هو أبو محمد المقدسي “عصام البرقاوي” بتكفيره جماعة الإخوان، وهو نفس رأي أحد أهم آباء الأفغان العرب عبد القادر بن عبد العزيز، قبل تحوله.

وقد مر هذين الاتجاهين السلفيين الرأسيين “العقائدي والسياسي” بتحولات كبرى أنتجت كل هذه الحركات والتنظيمات والتيارات، ولكن مثلما كان هناك بوتقة فكرية، كانت هي السبب وراء هذه الطفرات أو التحولات التنظيمية الكبرى.

وهناك أيضاً بوتقة جغرافية، فكانت -على سبيل المثال- المملكة السعودية فترة الستينات والسبعينات بوتقة صهرت السلفيين الآتين من جهات مختلفة كمصر وباكستان واليمن وغيرها. كذلك مثلت أفغانستان المختبر الذي خرج منه “القاعدة”، وهكذا أيضاً أخرج مختبر العراق الجهادي “داعش”.

الأصول التاريخية لمفهوم “السلف الصالح”

وبما أن التوحيد مفهوم مجرد، يخص الذات الإلهية، لذا فيمكن تحقيقه أو الوصول إليه بعدة طرق، اختارت السلفية طريق واحد إليه وهو طريق السلف، ويعرّف المتخصصون مفهوم السلف بأنه يشمل الأجيال الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام، والذين يمثلون النسخة الصحيحة والوحيدة من الإسلام. ولم يكتفي السلفيون بعد هذه الفترة أصلا عقائدياً لهم فقط، بل يمكن أن نعده أصلا مخيالياً لتصوراتهم عن الفرقة الناجية”، و”الطائفة المنصورة”. 

لذا فإن التأصيل العقائدي للسلفية يقوم على فرضية – سوف تستحيل قاعدة تأسيسية- ذات رأسين: الأول هو النص، والثاني هو السلف الصالح. وهذه الفرضية وقبل العمل عليها تعني استبعاد تام للرأي، والعقل، والاجتهاد، والتأويل، والمجاز، وهي أفكار كانت وستصبح مباني فكرية لمدارس ومذاهب “المذاهب السنية الأربعة المعروفة، بالإضافة إلى الشيعة، المتصوفة، الإسماعيلية … إلخ”، وتخوض السلفية صراعاً واحتراباً طويلاً معها، مستمراً إلى يومنا هذا باسم “السلف الصالح”.

مع بداية عمل السلفية العقائدية والتأسيس الفكري لها ستخلق قواعد فكرية جديدة غير تلك المستبعدة كـ”الإجماع”، والأخير باعتباره أحد مصادر التشريع هو فكرة مختلقة تلف وتدور ولكنها في النهاية تعود إلى نفس المصدر وهو فكرة السلف المتخيل. 

وقام أحمد بن حنبل ثم تبعه الآخرون باشتقاقها من مبنى فكري هو عدالة الصحابة أو “السلف الصالح”، وكل ما دون هذه الفكرة سيصبح قوالب كلامية وكليشيهات جاهزة، والفرق بين جميع هؤلاء الحنبليون هو في الدرجة وليس النوع، والدرجة الراديكالية هنا قد تكون التكفير، فمثلاً سيزيد علماء الدعوة النجدية درجة تكفيرهم لفئات المجتمع وتصبح أبسط مخالفة لأحكامهم “ناقضة من نواقض الإسلام”. وستدشن الوهابية عصرها بحرب تطهيرية مقدسة تستهدف “من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم”، وإزالة كافة مظاهر الجاهلية والوثنية والشرك كالقبور والأضرحة “القبوريون كالصوفية والشيعة بكل تفرعاتهم، وهم نفس الأعداء التقليديين لابن حنبل وابن تيمية ولكن تم تمييزهم بدرجة أكبر ليسهل تصويب سهام التكفير لهم”. 

وهنا يمكن تلمس الخطوة التي ابتعدت بها عن درجة تكفير ابن حنبل وابن تيمية، كما وسترتفع الدرجة مع شكري مصطفى، الذي يمثل حالة استثنائية في تاريخ التكفير، وتنظيم الجهاد المصري، وجهيمان العتيبي، وستضاف عدة درجات من التكفير تشمل المزيد من فئات المجتمع مع علماء “القاعدة”، وهكذا حتى نصل مع “داعش” إلى جعل التكفير هو القاعدة، وما عداه هو الاستثناء، وسيخرج من داخل “داعش” تيار الحازميون وأبو جعفر حطاب. فمن الممكن وببساطة أن نجر خطاً فكرياً بين ابن حنبل من القرن التاسع (855 ت) وبين ابن عبد الوهاب من القرن الثامن عشر (1792 ت).

لقد تمسك ابن حنبل بحرفية النص، فأمسى النص مقابلا “الرأي”، وهو بذلك استبعد آراء المذاهب الأربعة آلياً، هذه المقابلة الرئيسية ستتفرع إلى ثنائيات متقابلة لتختم بالإعلان تاريخياً عن ولادة مذهب سيسمى “الحنبلية”. وكما هو معروف فإن فكرة المذاهب الفكرية، الأيديولوجيات، تقوم على وضع مجموعة من الأفكار المنظمة التي يحيل بعضها إلى بعض، وخلق قواعد استنباط خاصة بها. 

الأدبيات الجهادي تستبعد القرآن

إن كلا مفهومي النص والسلف مصاغين صياغة أو مصنوعين وفقا لنفس مبادئ النموذج المعرفي (Paradigm) الذي أنتج السلفية، مما جعل تلك القواعد والمبادئ الفكرية أعلى من التاريخ نفسه، وبالتالي بمنأى عن النقد التاريخي. فالنص كما سنرى يقصد به الحديث حصراُ أو كما يسمى أحياناً الرواية، و”السلف الصالح” هم مجموعة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ممن تم تخيلهم وفقا لقاعدة “خير القرون”. 

التنظيمات الجهادية لا يلتزمون بالآيات القرآنية- “إنترنت”

وأن النموذج الأعلى لهذه الخيرية هي “المدينة” زمن النبي محمد. وتبقى فترة المدينة هي اليوتوبيا السياسية التي يطمح لتحقيقها الإسلام السياسي بالإجماع، فهي تمثل نموذج المدينة الفاضلة في الإسلام. وعلى الرغم مما شاب الفترة الذهبية من حروب وصراعات واحتراب أغلب هؤلاء السلف، ومقتل أبرزهم، إلا أن الفكر السلفي طور قاعدة أو افترض فرضية عدالة الصحابة والتي عرفها ابن صلاح في علوم الحديث، “إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة”. وشملت العدالة حتى من “لابس الفتن منهم” ويبرر ذلك تبريراً ميتافيزيقاً “وكأن الله أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة”. ويقول ابن حجر “اتفق أهل السنة على أن الجميع –أي الصحابة- عدول. ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة”. وهم المقصودون بمفهوم “خير القرون”، و”خير أمة”، كما جاء عند ابن عبد ربه في “الاستيعاب في معرفة الأصحاب”.

ولفرضية، قاعدة العدول هذه وجهين، من الناحية السياسية منحت الكثير من الاختلافات فيما بينهم وكأنها برنامج فوتوشوب غير جزء كبير من ملامح الغضب في وجوههم، حتى تبدو امارات المحبة عليها. أما من الناحية الفكرية فكانت فرضية العدول أكثر خطراً، فصارت “تقبل رواية الصحابي ولو كان مجهولاً”، وصاروا مرجعية فكرية وكما جاء في تعريفها “أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق…”.

وبالنتيجة فإنهم معصومون من المعاصي والغلط، على الرغم من أن الأدبيات السلفية تقول إن عدالة الصحابة لا تعني أنهم معصومون من المعاصي، ولكن مدى الاعتماد عليهم كقاعدة رئيسية لاستنباط الأحكام والتشريعات، بل وللتفكير يكشف أنهم بالنسبة للتيار السلفي لم يكونوا “غير معصومين من المعاصي”، بل معصومون ومعصومون ومعصومون.

حين كان القرآن لا يحتوي إلا على نصوص قليلة تدور حول القتال، وأغلب تلك الآيات يمزج بين الجهاد الحربي وجهاد النفس، وكذلك اختلاف تفاسير الآية الواحدة، ناهيك عن تأويلاتها، لهذا ترك المتطرفون القرآن، وراحوا يبحثون عن ضالتهم في مدونة الأحاديث.

وحين كان القرآن لا يحتوي إلا على نصوص قليلة تدور حول القتال، وأغلب تلك الآيات يمزج بين الجهاد الحربي وجهاد النفس، وكذلك اختلاف تفاسير الآية الواحدة، ناهيك عن تأويلاتها، لهذا ترك المتطرفون القرآن، وراحوا يبحثون عن ضالتهم في مدونة الأحاديث، وكما هو معروف فهي أوسع من القرآن عشرات المرات، وتأخر تدوينها، وباعتراف كبار العلماء فإن التزييف نال منها، كذلك يحفظ لنا التاريخ عشرات الروايات التي تثبيت وضع العديد من الأحاديث، وتدخل العامل السياسي بشقيه الأموي والعباسي في عمليات الوضع تلك. وهذه العوامل وغيرها الكثير كانت السبب وراء ظهور ما اصطلح عليه “علم الجرح والتعديل”، على عكس النص القرآني الذي لم يكن يملك مثل هذا العلم الذي يقوم على قاعدة وجود الأحاديث المزيفة.

لهذا نجد أن الأدبيات الجهادي تستبعد القرآن، ولا توليه إلا أهمية ثانوية مقارنة بالأحاديث وفتاوى ونصوص بعض الشيوخ، والتي تجيء بما يتلاءم ومجمل اطروحاتهم ويتناسق مع المنطق الداخلي لها، كفتاوى وتفسيرات أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن الجوزية حتى الوصول إلى محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة النجدية، ليبدأ بعدها وفي سبعينات القرن العشرين التأسيس الرسمي لتيار السلفية الجهادية، والانتقال من طور العقيدة والفكرة إلى طور المؤسسة والتنظيم والحركة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات