“إقامة حكومة إسلامية نقية”. لم تكن هذه العبارة التي وردت على لسان قيادات حركة “طالبان” فور وصولهم للحكم في أفغانستان، مجدداً، سوى صناعة دعائية مقصودة ومتكررة لما ينبغي أن تكون عليه ممارسات الإسلام السياسي في نسخته الراديكالية وتحديداً مع مرحلة التمكين.

فحكّام كابل الجُدد بهذه العبارة الطوباوية وكأنهم “فرسان الحق الإلهي” يتجاوزون السياسي والعملي إلى الدور الديني التبشيري والأخلاقي. وهي مهمة لا علاقة لها بالدولة ومبادئها الحداثية والقانونية. لكن النموذج الإسلاموي لـ”طالبان” ومثيلاتها المتشددة تسعى إلى تبني مقاربة أخلاقوية تجاه العالم، وهي مقاربة خلاصية تطهيرية تكون فيها الحريات وقيم المواطنة وحقوق النساء والأقليات تحت وطأة التّعسف والنظرة البدائية المتخلفة.

الإسلامويون و”تطبيق الشريعة”

ربما، الخطاب الأيدولوجي لجماعات الإسلام السياسي، ومنها “طالبان”، أو جماعة “الإخوان المسلمين” (تحديداً في فترة الحكم بمصر)، أو حركة “النهضة” الإخوانية في تونس، أو “حزب العدالة والتنمية” الإسلاموي في المغرب، وجميعهم وصل للحكم في مرحلة “الربيع العربي”، غلب عليه الطابع الأخلاقوي والديني بما يكشف عن ضعف بل وإخفاق إمكاناتهم ومقارباتها السياسية والعملية.

ففي ظل الأعباء الاقتصادية في البلدان السابقة والتحديات الاجتماعية والطبقية وضرورة إيجاد حلول لها علاقة بالإنتاج ووضع خطة للضرائب (مثلا مبدأ الضرائب التصاعدية) لحل تآكل الطبقة الوسطى وأزمة البطالة فضلا عن التضخم والفساد البنيوي في هياكل ومؤسسات عديدة، فإن هذه الجماعات لا تسعى إلى حلول نظرية سياسية أو حتى تملك آليات عملية للخروج من تلك المعضلات، وبالتالي، باشرت مهامها في التعبئة والصدامات القصوى على أساس قضايا الهوية وتهييج المشاعر الطائفية والقومية باعتبارها البدائل الجاهزة للتعمية عن إخفاقاتها التاريخية.

يبدو أن عودة “طالبان” للحكم، كانت فرصة لجماعات الإسلام السياسي التي انحسر دورها بعد إخفاقها في الحكم بعد “الربيع العربي”- “الصورة من الإنترنت”

ومن ثم، لا يبدو الإعلان عن “تطبيق الشريعة” أو تدشين قانون “عقوبات إسلامية” أو “تنفيذ حدود الله” بدلا من تطبيق القوانين المَدنية بل واعتبار أن “تعطيل” مبادئ الشريعة في مقابل “القوانين الوضعية” هي “كف يد الله عن التشريع” كما في أدبيات الإسلاميين، أمرا عفويا بل استراتيجية الجماعات الإسلاموية لبعث الجدل والتوترات الاجتماعية. فتتسيّد خطاباتها التعبوية على الأزمات الواقعية. وتحت وطأة العنف البربري والدموي من خلال تنفيذ جرائم عنف “مقدس” بدعوى تطبيق “القانون الإلهي” يتم تعميم ونشر الرعب والخوف بين الخصوم السياسيين.

ومثلما تنفذ “طالبان” ضد خصومها ومعارضيها عمليات “الإعدام العلني” لم تتورع النسخة الشيعية من الإسلام السياسي في طهران عن تنفيذ الأمر ذاته بحجج مماثلة ومنها “محاربة الله” و”الإفساد في الأرض”. وهي أيّ ممارساتها العدوانية تهدف إلى نقل عدوى الخوف وشل الأجساد عن الفعالية والثورة أو حتى التفكير في التمرد بحيث تضحى منضبطة وفي مجال رؤية السلطة الدينية المتوحشة والراديكالية وضمن إدارتها ومراقبتها.

وفي ما يبدو أن عودة “طالبان” للحكم، كانت فرصة لجماعات الإسلام السياسي التي انحسر دورها بعد إخفاقها في الحكم بعد “الربيع العربي”. فوجدت في هذا الصعود الجديد سياسيا مِنحة بعد محنة مريرة لإعادة التموضع بالمنطقة. لذا، ثمّنت جماعات عديدة إسلاموية بهذه العودة، كما جاء في بيان أو بالأحرى رسالة “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” على لسان رئيسها أحمد الريسوني وقال فيها: “الاتحاد يتابع هذا الموضوع ليقدّم اقتراحاته، وليكون رهن إشارة إخوانه في أفغانستان ليتعاون مع علماء أفغانستان، وهي والحمد لله مليئة بالعلماء، نحن مستعدون لاستقبال علماء أفغانستان، ومستعدون للذهاب إليهم، ومستعدون للقاء معهم في أي مكان لنتحاور حول قضايا الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية بأفضل ما يمكن…”.

وهنا، لم تتوان حركة “طالبان” في أفغانستان عن تنفيذها الفوري لأحكام “الشريعة الإسلامية” وذلك على المتّهمين بالجرائم، وقال زعيم “طالبان” الملا “هبة الله آخند زاده” إن القُضاة في أفغانستان سيعملون على تنفيذ العقوبات في عدة جرائم محددة بناء على ما تقرّ به الشريعة الإسلامية. فيما ذكر الناطق بلسان الحركة، أن من بين تلك التّهم “السرقة، والاختطاف وإثارة الفتن (والتي) يجب أن يعاقب مرتكبوها طبقا لتفسير الجماعة لقانون الشريعة الإسلامية”.

فيما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في نسختها العربية عن زعيم ديني أفغاني قوله، إن “العقوبات طبقا للشريعة الإسلامية قد تشتمل على حالات القصاص والجلد العلني، فضلا عن عقوبة الرجم حتى الموت”.

دان تقرير صادر عن الأمم المتحدة حركة “طالبان” على خلفية ارتكابها عقوبات الإعدام والجلد والرجم بشكل علني منذ وصولها للحكم. ووفق التقرير الصادر عن بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان “يوناما”، فإن “حركة طالبان جلدت 274 رجلا و58 سيدة وصبيين اثنين علنا في الأشهر السّتة الماضية وحدها”. وقالت فيونا فريزر، رئيسة قسم حقوق الإنسان في البعثة، إن “العقوبة البدنية انتهاك لاتفاقية مناهضة التعذيب، ويجب أن تتوقف. أدعو إلى وقف فوري لتنفيذ أحكام الإعدام”.

مواقف براغماتية مرنة

ورغم زعم الحركة الإسلاموية المتشددة إثر عودتها للسلطة بأنها ستكون “معتدلة” ولن تعاود أنشطتها المتشددة السابقة، وستراجع كثيرا من مواقفها، إلا أنها كما هي عادة الإسلامويين تكون عباراتهم المهادنة في مرحلة ما قبل التمكين السياسي بمثابة مواقف براغماتية مرنة، ومن ثم تكون الاستدارة للتخلص من بعض الحلفاء والخصوم من خارج النطاق الإسلاموي، كما حدث في ثورة الملالي في إيران التي اندلعت بتحالف مع قوى مدنية مختلفة، منهم “حزب توده” الشيوعي ومجموعات نسوية وليبرالية فضلا عن رجال الحوزة والمعمّمين و”مجاهدي خلق” والحركة الطلابية في مقدمة هؤلاء وأكاديميين.

إن معضلة النصوص الدينية لكافة الأديان أنها كتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسسات، والسلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللغة بلا قواعد.

لكن بمجرد الوصول للحكم نفّذ الخميني مذابحه وجرائمه بالإعدامات العلانية كما حدث في الإعدامات الجماعية في ثمانينات القرن الماضي. ورغم انفتاح الملالي المؤقت والمرحلي بل والانتهازي على الحركة النسوية في مرحلة ما قبل عودة الخميني لطهران، إلا أنه بمجرد وصوله للسلطة بدأ الانقلاب على المرأة بترسانة قوانين متخلّفة ورجعية تقلّص من حقوقها وامتيازاتها بداية من فرض الحجاب قسرا مرورا بإتاحة الرجل التعدد (ومن دون إخبار الزوجة) وحتى القيود على المناصب السياسية. ويكاد لا يختلف هذا الموقف الانقلابي عن ما أعلنته وزارة خارجية حكومة “طالبان”، بأنه “في حالة التعارض بين القانون الدولي لحقوق الإنسان والشريعة الإسلامية، فالحكومة ملزمة باتباع الشريعة الإسلامية”.

في كتاب: “القرآن والحداثة” يقول المفكر المغربي سعيد ناشيد، إن “معضلة النصوص الدينية لكافة الأديان أنها كتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسسات، والسلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللغة بلا قواعد. بالتالي طبيعي أن تبدو تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أي نظام قيمي أو معرفي فعّال، بقدر ما تبدو للبعض أنها قابلة لكل التأويلات والتفسيرات مهما بدت متناقضة”.

هذا بالتحديد حجر الزاوية أو النقطة المركزية والمفصلية في قضية العلاقة بين العقوبات الدينية التي تصرّ عليها الجماعات والتنظيمات الإسلاموية والقوانين المدنية. فالحدود والعقوبات الدينية المرتبطة بوضع تاريخي قديم وبدائي، وشروط اجتماعية لم تكن منظّمة أو تضمن لها مؤسسات قانونية مدنية حقوقها، وترقى بها لمستوى التّقدم الحضاري المعاصر تبدو في واقعنا المعاصر غليظة متوحشة وبعيدة كل البُعد عن الإنسانية والتطور.

جماعة “الحسبة” في تنظيم “داعش” الإرهابي-” سي إن إن”

لذا فالقانون المدني شمل ضمن ما شمل الجانب الحقوقي والقانوني للإنسان وسمح بوجود فواصل بين ما هو مرتبط بالمجال العام الذي يتّسع للجميع بغض النظر عن الهوية الدينية والعِرقية والمجال الخاص الذي يكون محميا بالقانون وليس بأعراف جماعة مهما كانت مرجعيتها.

لكن الأديان قد ظهرت في إطار العالم القديم، أي مرحلة ما قبل نشوء الدولة وتشكل القانون وبزوغ الحداثة بقيمِها وأفكارها. وعليه، حكمت هذه الفترة مفاهيم وقيم تقليدية تناسب مرحلتها الزمنية المحدودة بأحكامها البدوية والبدائية كالقصاص والسّبي (جريمة حرب الآن) والرجم والجلد والجزية وهي عقوبات في غالبيتها أمست منبوذة ومُدانة حقوقيا. وهناك مطالبات أممية بالعدول عنها مثل “الإعدام”. ووفق المفكر المغربي سعيد ناشيد، فإن الإلحاح على تطبيق الأحكام العقابية من قِبل الأصوليين هي لارتباطها بـ”المزاج السلطوي” لهم.

إذاً، يمكن القول إن الجانب التاريخي الذي حكم ظهور أنماط معينة من الأشكال العقابية هو العامل المشترك، بما قد يجعل التشابهات قائمة بين الأديان وبعضها ومنها الإسلام والمسيحية واليهودية، مثلا سواء في بعض الأحكام المتطابقة أو في التشدد واللجوء إلى العنف البدني. فأحكام القتل على خلفية الرّدة الدينية جرى تطبيقها في الإسلام (رغم الآيات التي تنص على حرية العقيدة: “لا إكراه في الدين”). بل إن هناك ما يُعرف بـ”حروب الرّدة” في الإسلام جرت في عهد أبي بكر الصديق. وفي المسيحية، هناك عمليات قتل وحرق وصلب عديدة لمن حكمت عليهم “المحاكم الدينية (التفتيش) بـ”الهرطقة”.

الخلط الغامض بين الشريعة والتشريع

في كتابه: “أصول الشريعة”، يسعى الباحث المصري المستشار محمد سعيد العشماوي إلى فض التباسات عديدة بخصوص الخلط الغامض بين الشريعة والتشريع، ويرى وجود تمايزات بينهما من الناحية اللغوية والتاريخية. لكن التيارات الأصولية تخلط عمدا بينهما في إطار الدمج الانتهازي بين الدين والسياسة.

ويقول سعيد العشماوي: “القرآن كتاب محكم وتنزيل جامع، لذلك فقد جاء على ثراء لفظي شديد، فانطوى بناؤه على كثير من الألفاظ ذات الأصول المتباينة، أو ذات المعاني البعيدة، أو ذات الأغراض المتنوعة. ففي ألفاظه ألفاظ كانت قد دخلت العربية من لغات أخرى، وفي ألفاظه ألفاظ أُدخلت إلى العربية – من هذه اللغات – على آياته وبنصوصه… وفي تلك الألفاظ ألفاظ قريبة المأخذ سهلة التناول، وفيها ألفاظ تغوص معانيها إلى أعماق التاريخ، وتضرب فيه إلى مطاو (معاني ودلالات) بعيدة، إلى حيث تظهر في لغات أخرى باللفظ نفسه، أو بلفظ مشاكل، وفي المعنى ذاته، أو بمعنى قريب. وتبادل الألفاظ بين اللغات، أو اقتباس لغة لمعاني لغة أخرى، واقع تاريخي، وضرورة لغوية وحضارية، تنشأ من التعامل البشري، والتداخل الإنساني، وتؤدي إلى ثراء اللغات بالألفاظ الجديدة، وتعميقها بالمعاني المقتبسة”.

فيما يوضح المفكر المصري أن الشريعة في التوراة، (وعلى وجه الخصوص الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم)، وردت نحو مئتي مرة، وكانت تعني “يرشد، يعلم، ينظم، يهدي”.

إذ ورد في سفر الخروج: “وقال الرب لموسى وهارون هذه فريضة الفصح… تكون شريعة واحدة لمولود الأرض والنزيل النازل”. كما جاء في سفر اللاويين: “وهذه شريعة التقدمة يقدمها بنو هارون أمام الرب قدام المذبح”. بالتالي ومن ناحية مبدأية تبدو كلمة شريعة على هذا النطاق اللغوي لا تعني قانون أو تشريع إنما الهداية والطريقة والمسار والمنهج.

والشريعة بالإنجيل، كان التعبير عنها بكلمة “الناموس”. إذ قال السيد المسيح: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل: فإنّي الحقّ أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض، ولا يزول حرف واحد، أو نقطة واحدة من الناموس حتّى يكون الكل” (4: 17).

الشريعة لا ينبغي لها أن تصطدم بالتطور فهي روح الدين بما يعنيه ذلك من عدل وإيمان واستقامة وحق ورحمة.

وهذا يعني وفق تفسير سعيد العشماوي أن السيد المسيح جاء ليغيّر ويعدل ما انحرف عن الإطار التوجيهي العام ونجم عنه هيمنة خطاب كهنوتي متشدد فأعطى الأولوية مرة أخرى للإنسان وليس “حكم الكهانة”. بالتالي كانت رسالته توجيها جديدا إلى “النية والقصد لا إلى الشكل والمراسم، وجعل معناها الحب والعطاء، لا المبادلة، ولا الجزاء، ووضع الإنسان أساسا لها بعد أن كان الأساس حكم الكهانة أو ملامة الناس”. وهذا يوافق تماما ما ورد بإنجيل متى: “تركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان” (33: 33).

يؤسس على هذا المعنى أن الشريعة لا ينبغي لها أن تصطدم بالتطور فهي روح الدين بما يعنيه ذلك من عدل وإيمان واستقامة وحق ورحمة. ثم إن الجزاءات والتشريعات المرتبطة بها تُعد نسبية ومرتبطة بالزمن المتغير ومرتبطة بالجهود الإنسانية التي تحتاج إلى تطوير يلائم العصر.

أما الشريعة بالقرآن والتي تكاد لا تختلف عن المعاني السابقة فقد وقعت تحت وطأة الخطابات الأصولية التي جعلتها تقترن بألفاظ أخرى منها الحدود، والتعزير، والقصاص، الأمر الذي تسبب في خلط شديد والتباس في المعنى. فالحد وفق ما جاء في كتب الفقهاء يعني “العقوبة التي قدّرها الشارع على فعل أثم”.

اللافت أن التيارات الأصولية تلحّ على هذا الخلط وتمضي في جعل هذه الحدود والعقوبات البدنية أحكاما وشريعة إلهية تحت وطأة عملية أدلجة وتسييس الدين. فلا يمكن مراجعتها بما يتلائم مع الواقع والعصر وتغييرها لتكون أكثر عدلا وإنسانية.

الشريعة والقوانين

وكان عبد القادر عودة وكيل جماعة “الإخوان المسلمين” في خمسينات القرن الماضي قال في كتابه: “التشريع الجنائي الإسلامي” إن القوانين الوضعية تتفق مع الشريعة في حفظ مصالح الجماعة أو المجتمع لكن وعلى حد تعبيره، الشريعة والأحكام الإلهية تُعتبر “حماية الأخلاق الفاضلة التي يقوم عليها المجتمع هو الغرض من تقرير الجرائم، بينما تكاد القوانين الوضعية تهمل المسائل الأخلاقية إهمالا تاما، ولا تعنى بها إلا إذا أصاب ضررها المباشر الأفراد أو الأمن أو النظام العام”. ويتابع: “فلا تعاقب القوانين الوضعية مثلا على الزنا إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر، لأن الزنا في هذه الحالة يمس ضرره المباشر الأفراد كما يمسّ الأمن العام، بينما الشريعة الإسلامية تعاقب على الزنا في كل الأحوال، لأنها تعتبر الزنا جريمة تمس الأخلاق”.

صورة من الإنترنت

كما يتفق القيادي الإخواني مع الداعية السعودي محمد بن عبد الوهاب في أن “مصدر الشريعة الإسلامية هو الله، أما مصدر القوانين الوضعية فهو فهم البشر الذين يقومون بوضع هذه القوانين، وبالتالي فإن تقدير العقوبة في الشريعة الإسلامية مقيدة بقواعد الشريعة العامة وروحها، فليس للإنسان أن يحرّم ما أحلّ الله ولا أن يحل ما حرم الله”.

وعزا المفكر المصري خليل عبد الكريم هذا الرأي الذي تبناه كثيرون إلى القراءة المبتسرة والضيقة أو المتعسفة للآية: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، وذلك من دون وضع اعتبار لأسباب النزول، والملابسات التي تزامنت ونزول الوحي، فضلا عن البيئة الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي حكمت التشريع وقتذاك ناهيك عن محدودية الجرائم والعقوبات التي فرضت بناء عليها في ظل حدود الزمن ومعطياته.

وهنا نجد عملية التجاهل المقصودة لتعاطي النص الديني مع الوقائع و السيرورة التاريخية بما يؤدي إلى الجمود والتعصب والانسداد وعدم الفهم أو الرؤية بما فيها من ديمومة واستمرارية. وفي حال فهمنا أسباب النزول فسوف نستبدل هذا الجمود بالاجتهاد والمرونة. إذ لا يمكن أن تكون هناك قوانين أبدية و متعالية على الواقع ومتطلباته ومستجداته. بل إن القوانين التي تعبّر عن لحظة التشريع من الناحية التاريخية والحضارية والتطور الثقافي والاجتماعي من المؤكد أنها تحتاج لقفزات لمسايرة الواقع الجديد.

ومثلما تطلب في العصر الحديث وجود قانون لتنظيم عملية امتلاك السلاح النووي، أو عمليات الإجهاض، فمن المؤكد أننا بحاجة لمراجعة الأشكال العقابية التي يطالب بها البعض ويرى أنها لا تحتاج إلى اجتهاد أو تعديل. فقطع يد السارق وحد الحرابة لا يناسب المستوى الحضاري الذي بلغ الإنسانية حدا يجعلها تنبذ وحشية الأزمان البدائية القديمة وفي ظل تطور وصل إلى إمكانية توظيف الروبوت في غرف الصحافة. ولم يعد هاجس الفرد داخل القبيلة تأمين تجارته في قوافل بالجمال بين الصحراء والكثبان الرملية.

ويمكن القول، إن الإسلام عندما استند إلى أحكامه العقابية فهي كانت عقوبات قائمة في البيئة الاجتماعية والثقافية ولم يقم بتشريعها إنما أقر ببعضها كما كانت. وهذا ما ينفي مزاعم التيارات الأصولية المتشدد التي ترى فيها مجموعة أحكام إلهية لتبرير وحشيتهم وعدوانهم على الإنسانية. فبتر يد السارق كان موجودا وفق ما يروي ابن الكلبي في كتابه المثالب في الفصل المعنون بـ”باب السراق”. ويسرد مجموعة قصص عن الأشخاص والحوادث التي تسببت في تطبيق هذا الحكم.

عقوبات متعددة

في الفترة الجاهلية بشبه الجزيرة العربية كانت عقوبة الزنا تشمل المرأة الحرة التي لا تقع تحت وطأة العبودية. فيما يوثق المفكر والمؤرخ العراقي جواد علي في كتابه: “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” ذلك حيث يقول: “الزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها، وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء فلا يُعد عيباً إذا كان بعلم مالكهنّ وبأمره”.

وفي المحصلة، يمكن القول إن التراث التشريعي للعرب بالجاهلية كان بمثابة الجذور المؤسسة لأحكام الإسلام مع تعديلات طفيفة في بعضها، حيث كان يتم جلد من تثبت عليه تهمة السّب. فضلا عن عقوبة أو حدّ الحرابة في الإسلام للمتهمين يقطع الطريق، وقد صلب في الجاهلية النعمان رجلا من بني عبد مناف، كان يقطع الطريق، وفق جواد علي في كتابه: “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”. بل كان التصور العقابي في الإسلام كما في غيره مرتبطا بطبيعة المجتمعات القديمة وقيمها ومستواها الثقافي والحضاري وأنماط إنتاجها.

ليس ثمة شك أن المنظومة العقابية تحولت تاريخيا وفي الفترة المعاصرة بيد الإسلامويين إلى وسيلة لإرهاب الخصوم والمعارضين للسلطة المركزية، كما حدث في السابق في مقتل ابن المقفع، أو صلب الحلاج.

وكانت هناك نظرة سائدة لا تقيم وزناً للفرد إنما للجماعة والطاعة المطلقة التي تبدأ من رأس القبيلة مرورا بالحاكم وحتى تنتهي عند المقدس. وهو الأمر الذي يسعى الأصوليون والجماعات المتشددة لتحقيقه، فتكون الطاعة لـ”الأمير” أو “المرشد” ومن ثم الجماعة والتي هي طاعة مطلقة لله والإيمان به من دون تمييز، ويكون الخروج أو التمرد على الجماعة هو تمردا على الله. والنتيجة هي ذبح أو قتل المعارضين والخصوم السياسيين بدعوى مزيفة تستند إلى الدين.

وفي كتابه أيضا: الدين والسلطة” يقول المفكر السوري محمد شحرور إن مفهوم الحاكمية الإلهية كما طرحته حركات الإسلام السياسي، سواء المعتدلة أم المتطرفة، فيه تجاوز خطير على مفهوم الحاكمية الإلهية الوارد في التنزيل الحكيم، فقد اعتمد الأول على استعمال الأحاديث السياسية كدليل لتبرير أي سلوك سياسي مسلّط كالسيف على رقاب الناس، وأعطى القرارات التي اتخذها النبي (ص) لتسيير دولته وعلاقاته في السلم والحرب بُعداً مقدساً، علماً أن كل هذه القرارات ليست دين أصلاً، واتخذها النبي كقائد من مقام النبوة وليس من مقام الرسالة، وبالتالي هي ليست حجة على أحد، كذلك قرارات الخلفاء الأربعة أو الصحابة، كلها قرارات اتخذت بناءً على اجتهادات إنسانية لرجال كانوا في مناصب قيادية تتطلب منهم الاجتهاد في أمور ملزمين بها.

ليس ثمة شك أن المنظومة العقابية تحولت تاريخيا وفي الفترة المعاصرة بيد الإسلامويين إلى وسيلة لإرهاب الخصوم والمعارضين للسلطة المركزية، كما حدث في السابق في مقتل ابن المقفع، أو صلب الحلاج. والأمر ذاته كما يحدث مع باقي التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي قتل بوحشية علماء آثار رفضوا الإفصاح عن الأماكن الآثرية لنهبها وتخريبها في سوريا والعراق، كما مع نساء قاومن بجسارة محاولاتهم البربرية لإخضاعهنّ وقمعهن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات