تتكيف حالة الترهّل التي تبدو عليها حركة “النهضة” في تونس حاليا مع تتابع الأزمات التي ضربتها خلال السنوات الأخيرة فضلا عن ما تعرّضت له كرقم في المعادلة السياسية خلال انخراطها في السلطة، وتقلّد زعيمها التاريخي راشد الغنوشي رئاسة البرلمان، وما نتج عنه من تداعيات سلبية كأثر مباشر للصورة المهترئة التي بدا عليها شكل البرلمان ومسؤولية الحركة وقياداتها في ذلك وصولا لمساحات الصراع المفتوحة مع الرئيس التونسي قيس سعيّد، مرورا بإجراءات الخامس والعشرين من تموز/ يوليو من العام 2021 وحل البرلمان والاستقالات الجماعية وقرارات التوقيف، الأمر الذي وضعها خارج حسابات المواطنين وداخل حيّز الفشل الذي عرفته تجربة حكم جماعات الإسلام السياسي في الدول التي عُرفت ما أُطلق عليه ثورات “الربيع العربي”.

فيما بين استقبال راشد الغنوشي بمطار قرطاج الدولي بالأهازيج في نهاية كانون الثاني/ يناير العام 2011، وقرار توقيفه قضائيا كان الحد الفاصل سنواتٍ شهدت فيها تونس تعقّد الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على نحو دفعت المواطنين للتظاهر ضد الحركة وقياداتها ونمط الحكم الذي اتبعته طيلة عقد كامل، مما مهّد الطريق كاملا أمام الرئيس قيس سعيّد، لترحيب المجتمع التونسي بقرار حلّ البرلمان والدخول في جملة إجراءات لوضع دستور جديد للبلاد وتنظيم انتخابات برلمانية جديدة ومحاصرة الحركة ومقراتها والتحضير لانتخابات بلدية نحو صياغة مقاربة خاصة في ذهن الرئيس كفلت له الانفراد بحكم البلاد وإحكام قبضته على كل مفردات السلطة.

تحولات “النهضة” عبر التاريخ

عرفت “النهضة” على مدار تاريخها عدّة تحولات إذ كانت تُعرف بحركة “الاتجاه الإسلامي” في فترة الرؤساء السابقين “الحبيب بورقيبة” و”زين العابدين بن علي”، ثم تحولت إلى حركة “النهضة” في شهر شباط/ فبراير من العام 1989، ومن ثم تماهت مع متغيرات العَقد الفائت واكتسبت نمط الحزب السياسي خلال العام 2011، ودخلت في مواجهات مع السلطة إبّان نهاية حكم الرئيس بورقيبة.

وواجهت “النهضة” حملات قمعٍ كبيرة، إذ تعرّض راشد الغنوشي للنفي وقادة آخرون لمدة عقدَين من الزمن قبل أن يعودوا إلى تونس بعد الثورة التونسية، ثم شاركت بعد سقوط نظام “زين العابدين بن علي” في الحكومة الائتلافية وفي صياغة دستور العام 2014، ورئاسة البرلمان في انتخابات العام 2019، والتأثير في تسمية رؤساء الحكومة الذين تعاقبوا طيلة عقِد كامل.

حكم “العشرية السوداء”

كان منع راشد الغنوشي أمام مدخل قصر باردو منتصف ليلة 25 تموز/ يوليو 2021، من قبل أفراد من الجيش دخول مقر “مجلس النواب التونسي” الذي يرأسه عقب إعلان الرئيس قيس سعيّد تجميد المجلس، نقطة فاصلة بين مرحلتين وجداراً سميكا يعزل حقبة تمكين “النهضة” التي هيمنت خلال سنوات فاتت على الشأن السياسي في تونس.

ضابط أمن تونسي يسير أمام المقر المغلق لحزب النهضة في تونس العاصمة، في 18 أبريل/ نيسان 2023. -قال مسؤول كبير في الحزب إن السلطات التونسية أغلقت مكاتب الحزب الذي يستلهم توجهات إسلامية في 18 أبريل/نيسان، بعد يوم من اعتقال زعيمه. (تصوير فتحي بلعيد / وكالة فرانس برس).

تبع ذلك بشهورٍ قليلة ضربة جديدة ثقيلة في بنيان الحركة وهيكلها التنظيمي من خلال إعلان الاستقالة الجماعية يوم 25 أيلول/ سبتمبر لأكثر من مائة عضو في الحركة من بينهم اثنان من أبرز الكوادر التاريخية، عبد اللطيف مكي وسمير ديلو، تعبيرا عن معارضتهم العلنية لراشد الغنوشي، لتشكّل هي الأخرى دلالة على خريف زعامة القائد التاريخي ونكوصاً لحركةٍ شهدت تصاعدا ورفضا لما آلت إليه أوضاع البلاد خاصة وأنه أضحى رئيسا للبرلمان في شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2020، مما وضعه حيّز المنصب الأبرز في تاريخه وواجه من خلال ذلك ثمن وكلفة المنصب عبر غضب المواطنين ورفضهم لكافة ممارسات “النهضة” فضلا عن تنامي تيار داخل الحركة ينقب ويحفر لما بعد ولاية الغنوشي.

من خلال الانتصار الذي حققته “النهضة” في الاستحقاق الانتخابي خلال 23 تشرين الأول/ أكتوبر التالي والذي منح “النهضة” أغلبية (89 مقعدا) من أصل 217 في “المجلس الوطني التأسيسي”، شعرت الأخيرة بما حققته من إنجاز على مستوى المجتمع التونسي وعلى الصعيد الدولي والإقليمي.

وكان ذلك في ذروة تصاعدٍ لمنظماتٍ مقرّبة من جماعة “الإخوان المسلمين” بعد ثورات “الربيع العربي” والمسار الذي فتحه ودعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكذا بدعم مباشر من دولة قطر، بيد أن ذلك كله لم يسمح للنهضة وقياداتها بفرض كامل الهيمنة في ذلك الوقت. وأدركوا حينها أن الملاذ الآمن يكمن في التفاوض مع نُخب الحزب الدستوري المتجمعة خلف الباجي قائد السبسي في إطار “حزب نداء تونس”، خلال النصف الثاني من العام 2013.

وجاءت انتخابات 2014 التي فاز بها “حزب نداء تونس” لتعكس التوافق الذي حدث بين الرجلَين في العاصمة الفرنسية وعلى إثر ذلك انضم حزب “النهضة” إلى الأغلبية واكتفى حين ذلك بهامش التأثير في المشهد السياسي وفي جهاز الدولة كخطوة تكتيكية في مسار التمكين والهيمنة على المشهد التونسي.

صاغ مؤتمر 2016 قمة التحركات التكتيكية لـ”النهضة” ولراشد الغنوشي بحضور الباجي قائد السبسي، وأعلن الأول بهذه المناسبة “مصالحة كاملة” لـ”النهضة” مع الدولة وقد صادق المؤتمر على “تخصص” الحزب بالنشاط السياسي وتركه العمل الدعوي والنشاط “الثقافي” للحركة الموازية. واختتم المؤتمر أشغاله بطرح تصوّرٍ لإصلاح الحركة لكي تتكيف مع طموحها كحزب حاكم رئيسي من خلال تبسيط إجراءات العضوية لجذب نُخب جديدة ومراجعة الهياكل الداخلية لتعزيز النقاش داخل هياكل الحزب وإطلاق عملية إصلاح شامل تمسّ البرامج، خاصة حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية.

غير أن أثناء المؤتمر هدد راشد الغنوشي بالاستقالة عندما وافق غالبية المشاركين في المؤتمر (بعد الاقتراحات التي قدمها عبد اللطيف مكي وعبد الحميد الجلاصي) على مناقشة إمكانية تكليف مجلس الشورى للحركة بتعيين جزء من المكتب التنفيذي الذي يصرّ الغنوشي على السيطرة عليه بالكامل، مبرّرا ذلك بعدم خروج الحزب بعد من منطقة الخطر والترقّب، الأمر الذي دفع عدد من قيادات الحركة للخروج والانشقاق، وكان أبرزهم حين ذلك عبد الحميد الجلاصي.

إلى ذلك اعتمدت حركة “النهضة” وأنصارها على الشرعية التي اكتسبوها من خلال انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011 ودخلوا في صراع ممتد مع من يخالفهم الرأي والانتماء، إذ اعتبروا ذلك مناهضة لحكمهم الذي تأسس عبر إرادة الصندوق.

وشهد شتاء العام 2012 اعتصاما أمام مقر مؤسسة التلفزة التونسية، بتهمة أن الشاشة التونسية الرسمية لا تعكس إرادة الشعب وقد أنشأ قادة هذا الاعتصام، لاحقا ما أطلق عليه روابط حماية الثورة، وهي في حقيقتها ميليشيات تتهجم على المعارضين وتعتدي عليهم كما حدث مع “حزب نداء تونس” بعد صعوده في أبحاث سبر الآراء (بحوث الرأي العام)، إذ بات وقتها المنافس الرئيس لحركة “النهضة”.

حين ذلك لم تقم الحكومة بالرّد على أعمال العنف، بل تساهلت مع التعبيرات الأكثر تطرّفا للإسلاموية بدعوى حرية الاعتقاد وعلى خلفية ذلك رحّبت قياداتٌ من “النهضة” في استقبال دعاةٍ متطرفين مثل، المصري وجدي غنيم، وأصبح لـ”حزب التحرير” السلفي الذي يدعو إلى إقامة دولة الخلافة، وجود قانوني وباتت مجموعة “أنصار الشريعة” التابعة لتنظيم “القاعدة” حاضرة على الساحة العمومية.

تحرك الإسلامويون في تونس نحو مساندة مشاريع قانونية مثيرة للجدل، مثل قانون “المصالحة” الذي يهدف إلى العفو على الموظفين المطلوبين لدى العدالة لإسهامهم في الفساد خلال فترة حكم الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي.

تيقّنت لاحقا قيادات “النهضة” أن الشرعية الانتخابية لن تجعلهم بعيدا عن مخاطر المعارضة والإطاحة بهم، خاصة مع التحولات الجذرية التي شهدتها الجماعة في القاهرة وتحرّك ملايين المصريين ضدهم في نهاية حزيران/ يونيو من العام 2013.

عبر ذلك سعت “النهضة” للاستفادة القصوى أثناء تلك المرحلة من خلال كونها طرفا في الحكم دون أن تتحمل أعباء المواجهة، كما أنها تمكّنت من توسيع دائرة تأثيرها. ودعما لذات التوجه والهدف، تحرك الإسلامويون في تونس نحو مساندة مشاريع قانونية مثيرة للجدل، مثل قانون “المصالحة” الذي يهدف إلى العفو على الموظفين المطلوبين لدى العدالة لإسهامهم في الفساد خلال فترة حكم الرئيس الراحل “زين العابدين بن علي”.

تزامن ذلك كله مع سياقٍ من الهجمات الإرهابية التي كانت تستهدف القوات المسلحة، فضلا عن سحل مسؤول لـ”حزب نداء تونس” حتى الموت في الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2012 في مدينة تطاوين جنوب البلاد. وتواصلت أعمال العنف مع اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي من الجبهة الشعبية (ائتلاف مكوّن من أحزاب اليسار وأقصى اليسار) في العام 2013.

تجميد أموال حركة “النهضة”

فتح القضاء التونسي بعد انتهاء فترة “العشرية السوداء”، ملف “الفساد المالي”، خاصة بعد بروز قضايا تلاحق قياداتٍ من حركة “النهضة” متعلقة بعمليات “غسيل الأموال”. وبالفعل منذ 2021 صدرت أحكام عدّة متعلقة بتجميد أموال بعض قيادات “النهضة” جاء على رأسهم رئيس الحركة، راشد الغنوشي، وأفراد من عائلته. ومطلع تموز/ يوليو 2022 أصدرت محكمة تونسية إذنا بتجميد الحسابات البنكية والأرصدة المالية لـ”الغنوشي وابنه معاذ وصهره، رفيق عبد السلام”.

وكان آخر عمليات تجميد أموالٍ لقيادات “النهضة”، منتصف كانون الثاني/ يناير 2023، إذ كشفت وسائل إعلام تونسية عن إصدار النيابة العامة بالقطب الاقتصادي والمالي بالبلاد إذنا يقضي بـ”تجميد حسابات بنكية وأرصدة مالية” لـ 101 شخص وشركة بينهم قيادات إخوانية ذات صلة بـ”النهضة” ضمن قضية غسيل الأموال التي تلاحق، جمعية “نماء تونس” الخيرية وتتهم “النهضة” بأنها تقف وراء أنشطة هذه الجمعية.

وأكدت إذاعة “موزاييك” المحلية نقلا عن مصادر قضائية لم تسمها أن “التحقيقات في هذا الملف ستشمل شخصيات أخرى تعلّقت بها شبهات غسل الأموال دون أن تستبعد صدور قرار بوضع القضاة المباشرين لهذا الملف وعائلاتهم تحت الحماية الأمنية مع تقدم التحقيقات”، مضيفة أنه “مع تقدم التحقيقات في الملف صدر قرار من القطب القضائي المالي بإصدار مذكرة جلب جديدة بحق معاذ الغنوشي نجل رئيس حركة النهضة بتهمة غسيل الأموال”.

ويأتي هذا القرار القضائي في سياق قطع الطريق أمام هؤلاء المتّهمين لاستخدام أرصدتهم البنكية للفرار خارج حدود البلاد أو حتى من قِبل ممن يقيم في الخارج، مثلما هو الحال مع نجل الغنوشي الموجود في العاصمة البريطانية، لندن.

التورط في قضايا أمنية.. “الجهاز السري” نموذجا

تورّط عدد من أعضاء حركة “النهضة” وقياداتها في قضايا أمنية ومنها اتهام الحركة بتأسيس “جهاز سري” يشرف على قضايا الاغتيالات لشخصيات سياسية، منها شكري بلعيد ومحمد البراهمي، حيث أوضحت لجنة الدفاع عنهما تورّط “النهضة” عبر تنظيم سري في اغتيالهما، بالإضافة إلى اتهام أعضاء الحركة بتسفير الشباب التونسيين إلى بؤر التوتر في كل من: (ليبيا، والعراق، وسوريا) وقد بلغ عددهم حوالى ثلاثة آلاف في عام 2019، وفقا للجنة التونسية لمكافحة الإرهاب، وتم إيقاف رئيس الحكومة الأسبق “علي العريض” ووزير العدل الأسبق ”نور الدين البحيري” نتيجة تورّطهم في منح جوازات سفر للمقاتلين.

أحد موظفي الخطوط الجوية الوطنية التونسية يرفع لافتة أمام مقر الشركة بالعاصمة تونس، في 19 فبراير 2021، احتجاجاً على حجز شركة طيران تركية لحسابات الخطوط التونسية لعدم سداد مستحقاتها ديونها. مكتوب على اللافتة باللغة العربية: “ليست قطرية ولا تركية، الخطوط التونسية هي شركة وطنية”. (تصوير فتحي بلعيد/ وكالة الصحافة الفرنسية).

يتيقّن محلّلون ومدققون في الشأن التونسي، أن قضية “الجهاز السري” لحركة “النهضة” في تونس من أكثر القضايا تعقيدا، كما يُنظر إلى أن التحقيقات في هذا الملف باعتبارها خطوة أولى في مسار الكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسية وقضايا الفساد المالي والسياسي التي تتهم حركة “النهضة” بالتورّط فيها طيلة العشرية الماضية.

وأصدر القضاء التونسي سابقا خلال شهر أيار/ مايو من العام الماضي قراراً بحظر السفر على أربعة وثلاثين شخصا في قضية ما يُعرف بـ”الجهاز السري” لـ “النهضة”، الذي يواجه اتهامات بينها التورّط في اغتيال السياسي اليساري، شكري بلعيد والنائب البرلماني السابق محمد البراهمي في العام  2013. ويشمل القرار رئيس الحركة ورئيس البرلمان المنحل، راشد الغنوشي، وفق تأكيد المتحدثة باسم محكمة أريانة القريبة، من العاصمة.

يمثل قرار حظر السفر على الغنوشي و توقيفه على ذمّة قضايا عديدة تأكيدا على أن “الجهاز السري” الذي عمل على تخريب مؤسسات الدولة موجود وينبغي كشف جميع جرائمه أمام المجتمع التونسي وفضح جميع التحركات التي أدت إلى تسفير الشباب إلى بؤر التوتر كسوريا والعراق وليبيا.

مصادر خاصة، أشارت إلى أن بداية نشأة هذا الجهاز جاءت من خلال شخص يُدعى، فتحي بوصيدة، وشخص آخر يُدعى، عبد الكريم العبيدي، المتهم في قضية الراحل محمد البراهمي وكان نائب رئيس حركة “النهضة”، علي العريض، وهو من يشغل منصب وزير الداخلية في تلك الفترة وهي فترة يقول محلّلون إنها شهدت تفكّكا واضحا لهياكل الوزارة التي ضعُف أداؤها بفعل الاختراقات الأمنية، التي أدت إلى الاغتيالات السياسية والأمنية ونشط خلالها الإرهابيون في الجبال الغربية التونسية وعلى الحدود التونسية الليبية بشكل لافت.

وأضافت المصادر ذاتها، أن الأبحاث أشارت إلى ملاحظة تحركات لافتة في مطار تونس “قرطاج”، حين ذلك من خلال عبد الكريم العبيدي الذي كان يُشرف على حماية الطائرات وقد اتُّهم لاحقا في قضية اغتيال محمد البراهمي.

إلى ذلك يُتّهم وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري، وهو قيادي بارز في حركة “النهضة” الإسلامية بمحاولة “تدجين القضاء التونسي والتلاعب بالملفات”، التي تدين إرهابيين وتورّطهم في قضايا تمسّ الأمن القومي التونسي حسب اتهامات وجهتها له وزارة الداخلية وهيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي وناشطون حقوقيون وسياسيون.

وخضع البحيري في كانون الأول/ ديسمبر الماضي للإقامة الجبرية على خلفية “تقديم وثائق هوية ووثائق الجنسية بشكل غير قانوني وشبهة إرهاب جدية”، بحسب بلاغ رسمي لـ”وزارة الداخلية التونسية”.

توالت سلسلة الاعتقالات منذ نيسان/ أبريل 2023، وقرار سجن الغنوشي لتورّطه بعدد من القضايا التي تمسّ الأمن القومي للدولة والتآمر عليها، فضلا عن التخطيط لقلب نظام الحكم وإنشائه “جهاز أمن سري” واتهامه في قضايا أخرى تتعلق بغسيل الأموال والفساد. وعقب سجنه تم إغلاق مقر حركة “النهضة” مع منع عقد اجتماعات في مقرها وكذلك مقر “جبهة الخلاص الوطني” المعارضة لسياسات الرئيس قيس سعيد. وتم القبض على القيادي بالحركة “محمد القوماني” ونائب رئيس المكتب السياسي “بلقاسم حسن”، ومسؤول العمل الطلابي في الحركة “محمد شنيبة”.

حركة “النهضة” هدّدت بنشوب حرب أهلية في حال استبعادها من الحكم ووصفت القوى المساندة للرئيس قيس سعيّد بالإرهابيين.

ويأتي ذلك على خلفية مشاركتهم في ندوة عقدتها “جبهة الخلاص” في الخامس عشر من شهر نيسان/ أبريل العام الجاري والتي هدّدت بنشوب حرب أهلية في حال استبعاد “النهضة” من الحكم ووصف القوى المساندة للرئيس سعيّد بالإرهابيين حيث قال الغنوشي: “تونس دون إسلام سياسي أو اليسار أو أي مكون آخر يهدد بحرب أهلية”.

حُكم على الغنوشي بالسجن لمدة عام خلال شهر أيار/ مايو الماضي. ومن بين القيادات الأخرى التي تم سجنهم، غازي الشواشي، وقياديين بـ”جبهة الخلاص”، جوهر بن مبارك، وعصام الشابي، وعضو مجلس شورى الحركة، عبد الفتاح التاغوتي، وذلك على خلفية التآمر على أمن الدولة. كما وتم القبض على عدد من قيادات الصف الأول على غرار القيادي، السيد الفرجاني، (المدير السابق لمكتب الغنوشي، فوزي كمون، ومدير مكتب الغنوشي، أحمد المشرقي، وعضو القيادة المركزية في حركة النهضة، يوسف النوري).

هذا فضلا عن القبض على عدد من القيادات في الحركة، منهم، رئيس الحكومة الأسبق علي العريض، ووزير العدل الأسبق نور الدين البحيري، والناشط السياسي والقيادي السابق بالحركة عبد الحميد الجلاصي، والقيادي الصحبي عتيق، والقيادي المستقيل محمد بن سالم، والقيادي سيد الفرجاني، والقيادي حبيب اللوز، ووزير الاستثمار الأسبق رياض بالطيب، ومدير محطة “موزاييك”، نور الدين بوطار في قضايا التآمر على أمن الدولة وأخرى خاصة بالإرهاب.

بالإضافة إلى اعتقال كلٍّ من القاضي، بشير العكرمي والقياديين في “جبهة الخلاص”، جوهر بن مبارك ورضا بلحاج ورجل الأعمال السابق، خيام التركي، والناشطين السياسيين، علي اللافي وسعد البوعزيزي وأعضاء برلمان سابقين مثل: راشد الخياري وأحمد العماري والناشط محمد المزوغي والكاتب العام الجهوي محمد صالح بوعلاقي والقيادي يوسف النوري ورئيس مجلس شورى الحركة عبد الكريم الهاروني وهو قيد الإقامة الجبرية على خلفية قضايا الفساد والإرهاب. وآخر هذه الاعتقالات إيقاف رئيس الحركة المؤقت “منذر الونيسي” وجاء إيقافه على إثر تسريب صوتي يتضمن هجوما على الحركة واتهام أعضائها بتلقي أموالا من الخارج.

كما تم إيقاف بعض قيادات المكاتب المحلية لـ”النهضة”، منهم: الكاتب العام الجهوي في بنزرت وعضو مجلس شورى حركة “النهضة”، علي النفاتي، والكاتب العام المحلي لرأس الجبل، هيثم البنزرتي، وعضو المكتب المحلي بأوتيك، حمزة العكاري، كذلك تم إصدار مذكرة جلب دولية تجاه عدد من الشخصيات عددهم اثنى عشر شخصا، منهم نجل الغنوشي ورئيس الوزراء السابق، يوسف الشاهد، ومديرة الديوان الرئاسي السابقة، نادية عكاشة.

مباركة البراهمي و”الجهاز السري”

في حديث خاص قالت السيدة مباركة البراهمي القيادية بـ”حزب التيار الشعبي” وأرملة الشهيد محمد البراهمي، “لقد مرت على بلادنا سنوات قاسية جدا انتُهكت فيها كرامة التونسي واستبيحت دماؤه الزكية بغير وجه حق”.

من المظاهرات المعارضة لجماعة “الإخوان المسلمين” وحركة “النهضة” في تونس- “إنترنت”

ولفتت البراهمي في إطار حديثها الخاص، لقد رافق صعود جماعة “الإخوان المسلمين” في تونس ظهور بارز لظاهرة التطرف الديني وإشاعة الفكر المتشدد العنيف بعد أن أصبحت تونس مزارا لشيوخ الفتنة مثل العريفي ومحمد حسان وعايض القرني وحسن بن عبد الله القعود وغيرهم كُثر، مضيفة، “هؤلاء الذين تم استقبالهم بالقاعة الشرفية بمطار تونس قرطاج الدولي وفُرش لهم السجاد الأحمر وجُمع لهم شباب تونس ليلقّنوه أبجديات التكفير والعنف والقتل، فأضحى حز الرؤوس وبقر البطون وذبح الأبرياء جهادا في سبيل الله وأصبح حماة الوطن من أمنيين وعسكريين طواغيت يجب ذبحهم والتنكيل بهم”.

مكّنت حركة “النهضة” لهذا الشباب الذي غرسوا فيه العنف والكراهية من كل التسهيلات للتدريب على السلاح وأُعدت لهم معسكراتٍ للغرض، كما مكّنتهم من المساجد لنشر فكرهم لدى البسطاء الذين انطلت عليهم حيلة كون الإخوان هم حماة الدين. وانتشرت الخيم الدعوية لهذا “الفكر الإجرامي” في كل المدن والقرى والأحياء.

وبدؤوا مسلسل الدم في تونس عبر استهداف الأبرياء، ناهيك عن شبكات التسفير إلى سوريا وليبيا بالأساس بعد أن نظموا “مؤتمر أصدقاء سوريا”، سيء الذكر وطُرد السفير السوري، كما و”حولوا تونس الخضراء من بلد التسامح والتآخي العربي والإسلامي إلى منصة متقدمة ينطلق منها العدوان على أشقائنا”.

لقد انفردوا بالحكم مع مجموعة صغيرة من الوصوليين والعملاء وأشاعوا أجواء العنف ودعت قياداتهم السياسية -علنا- إلى سحل المعارضة والتنكيل بها، فقتلوا الشهيد لطفي نقض سنة 2012، ضربا وركلا ودوسا بأقدامهم وانتشرت فيديوهات عملية قتله على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن القضاء الذي كان تحت ولايتهم حكم على المتهمين بالبراءة واعتبر أن الشهيد قد قضى بسبب “سكتة قلبية”.

الأمن التونسي لم يوفّر لمحمد البراهمي الحماية ولم يخبره بالمخطط الذي يستهدف حياته وتركوه حتى اغتالوه.

مباركة البراهمي، أرملة محمد البراهمي لـ”الحل نت”

كذلك الشهيد شكري بلعيد، المعارض الشرس لهذا “التنظيم الإرهابي”، الذي أعلم الأجهزة الأمنية بكونه ملاحقاً ومستهدفاً بالتصفية من هذه الجماعة، لكن وزير الداخلية حين ذلك، علي العريض، القيادي في حركة “النهضة”، استهزأ به ولم يمضِ وقت طويل على ترصّده حتى اغتالوه غيلة أمام منزله يوم 6 شباط/ فبراير من العام 2013، وبعد أقل من ستة أشهر تم اغتيال الشهيد محمد البراهمي أمام منزله أيضا بأربعة عشر رصاصة يوم 25 تموز/ يوليو من نفس السنة خلال آذان صلاة الظهر في يوم رمضاني قائظ.

تضيف مباركة البراهمي، أن شرفاء وزارة الداخلية التونسية اكتشفوا بعد فترة قصيرة أن إحدى الأجهزة الاستخباراتية الأميركية قد وجّهت مراسلة إلى الوزارة، قبل اغتيال البراهمي، باثني عشر يوما، تعلم فيها الجهات الأمنية بأن محمد البراهمي في خطر الاغتيال وبالتالي يجب حمايته، غير أن الأمن التونسي لم يوفّر له الحماية ولم يخبره بالمخطط الذي يستهدف حياته وتركوه حتى قتلوه.

اغتيالات أخرى

في ذات السياق قال الناشط السياسي التونسي عدنان البراهمي نجل محمد البراهمي في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2018، إنه تم الكشف رسميا عن “التنظيم السري” لحركة “النهضة” من قبل هيئة الدفاع عن الشهيدين التي أظهرت للرأي العام مدى تغلغل الإخوان في مفاصل وهياكل الدولة التونسية ومدى تهاون الأمن والقضاء في التعاطي مع ملف بهذه الخطورة وهذا الحجم.

وأردف عدنان البراهمي في مقابلة خاصة، الآن انتهى عهد سطوة “الإخوان المسلمين” وانتهى معه حجم السيطرة على مفاصل الدولة وأصبحت توقعاتنا كمتضررين من الإرهاب والاغتيالات عالية والرئيس نفسه اعترف بالفساد المستشري في القضاء وبالتلاعب الكبير في الملفات القضائية والطمس الممنهج لأدلة وقرائن كانت تشير رأسا إلى حركة “النهضة” كجهة ضالعة بشكل رئيسي في الاغتيالات والعنف والتكفير والتزوير والابتزاز وتبييض الأموال والتآمر على أمن الدولة.

كما أن اليوم انتهت “النهضة” كحزب متمكن في الساحة السياسية وأصبحت تحت طائلة القانون مع تناول مسألة تطهير القضاء والإدارة ومكافحة الفساد والتهريب ووضع حد لتسيب أغلب مكونات الطبقة السياسية.

ويلفت البراهمي الابن في ختام حديثه الخاص، أن هيئة الدفاع عن الشهيدين رفعت دعاوى أمام القضاء في حق كوادر بوزارة الداخلية التونسية، لتقصيرهم المتعمد في التنسيق بين مختلف الفروع المختصة للداخلية بعد وصول تحذير أميركي من إمكانية اغتيال محمد البراهمي، بالإضافة إلى جهات استخباراتية أخرى أرسلت ما يفيد وقوع عملية الاغتيال.

جبهة الخلاص.. الوجه الآخر 

في المقابل سعت الحركة لتموضع جديد عبر “جبهة الخلاص الوطني” التي تمثل حركة “النهضة” أحد أهم مكوناتها، بيد أن ذلك لم يبدل الوضع لدى المواطن التونسي الذي لم يلتفت كثيرا لأي تحرك لـ”جبهة الخلاص” ولم يتفاعل مع تحركاتها في الشارع الذي اتخذ مظهر الدفاع عن الموقوفين والمتهمين على ذمة قضايا تتعلق بأمن الدولة والحفاظ على هيبتها، فضلا عن قضايا تختص باتهامات تبييض الأموال و”الجهاز السري” لـ”النهضة”.

تتحرك “جبهة الخلاص” التي تتكون من قوى سياسية وشخصيات مستقلة معارضة للرئيس التونسي قيس سعيد ويقدرها سياسيون وخبراء تونسيون رديفا لحركة “النهضة” الذراع السياسية لجماعة “الإخوان المسلمون” في تونس نحو إطلاق حملة مساندة للموقوفين وبعض من قيادتها على ذمة تحقيقات في شبهات تتعلق بالتآمر على أمن الدولة تشمل إجراء اتصالات مع منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان في خطوة تكشف خبيئة “النهضة” نحو التستر داخل حركات سياسية بغية الاستقواء بالخارج من خلال الجماعات الحقوقية الدولية.

تسعى الجبهة إلى ممارسة ضغوط على الرئيس قيس سعيد بعد أن فشلت في السابق في تأليب الشارع على مسار 25 تموز/ يوليو 2021، الذي عزلت بموجبه منظومة الحكم السابقة بقيادة حركة “النهضة” وذلك عبر الحشد مجددا لمظاهرات محلية والاستعانة بمنظمات دولية بينما يتعرض الرئيس التونسي لضغوط وتدخلات خارجية سبق أن أعلن رفضه لها بوصفها تدخلا في شؤون بلاده.

من المظاهرات المعارضة لحكم الإخوان في تونس- “إنترنت”

نحو ذلك، يشير الأكاديمي التونسي مراد الحاجي إلى أن “جبهة الخلاص” لا يمكن اعتبارها واجهة لحركة “النهضة” لوجود أطياف سياسية مختلفة داخلها، ربما كان بعضها في تناقض مع “النهضة”، بيد أن موازين القوى داخل “جبهة الخلاص” تجعل “النهضة” الطرف الأقوى داخلها والأكثر حضورا، ذلك لأن بقية مكونات الجبهة وإن كان بعضها له وزن من زمن الرئيس السابق زين العابدين بن علي، إلا أنها من حيث الشعبية والثقل لا تمثل وزنا كبيرا في الشارع التونسي.

ويلفت مراد الحاجي في حديثه الخاص أن “جبهة الخلاص تذكرنا بجبهة 18 تشرين الأول/ أكتوبر، التي تشكلت في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، لمقاومة تعديل الدستور والتمديد له ومواجهة الاستبداد، غير أن طرفا واحدا لا نجده في جبهة الخلاص من مكونات 18 تشرين الأول/ أكتوبر، هو حزب العمال الشيوعي التونسي الذي كان من أشد معارضي مسار 25 تموز/ يوليو، لكنه نأى بنفسه عن التحالف مع النهضة”.

من جانبه يذهب الكاتب التونسي ناصر التليلي إلى التأكيد على أنه من الواضح للعيان كون حركة “النهضة” أتمت مهمتها في بث الفوضى والخراب في تونس. ولا يخفى على أحد أنها تحالفت مع بعض المتسلقين من الشخصيات الانتهازية والذين تم تضخيمهم في وسائل الإعلام التي استطاعت “النهضة” تطويعه والسيطرة عليه خلال عشر سنوات من حكمها وهي تستغل أسمائهم تحت مسمى “جبهة الخلاص” كمتاريس في محاولة أخيرة للنجاة والمراوغة للبقاء في المشهد.

وتأسيسا على ذلك والحديث متصل للكاتب التونسي ناصر التليلي، علينا إدراك أن “جبهة الخلاص” هي ذاتها حركة “النهضة” وتلك المناورة تشبه تغيير اسم اليافطة مع الحفاظ على البنية الكاملة للتنظيم حيث لا يتورع عن استعمال المراوحة من أقصى التطرف الديني إلى أقصى الانفتاح، وبالتالي فإن “جبهة الخلاص هي النهضة والنهضة هي جبهة الخلاص”.

“جبهة الخلاص” في جميع توجهاتها تتحرك بالتشاور مع “النهضة”، التي هي جزء منها وتعبر عنها بشكل كامل وذلك لم يعد خافيا على أحد في سياق تأكيد كل قيادات “النهضة” وبياناتها.

المحامية التونسية نادية قيراط لـ”الحل نت”

من جانبها تذهب المحامية والناشطة السياسية التونسية نادية قيراط، إلى التأكيد على أن “جبهة الخلاص هي واجهة لحركة النهضة بل للمنظومة الكاملة التي حكمت طيلة العقد الفائت والمنظومة كاملة بما فيها حركة النهضة تخدم مصالحها الشخصية ومصالح تحالفات أجنبية معينة”.

وتستطرد قيراط في إطار حديثها الخاص، لتؤكد أن الجبهة في جميع توجهاتها تتحرك بالتشاور مع “النهضة” التي هي جزء منها وتعبر عنها بشكل كامل وذلك لم يعد خافيا على أحد في سياق تأكيد كل قيادات “النهضة” وبياناتها أن العمل مستمر من داخل الجبهة وعبر كل تحركاتها.

وترى قيراط أنه في إطار خارطة الطريق التي انتهجها الرئيس التونسي قيس سعيد، نحو انتخاب المجلس النيابي الجديد وانتظام جلساته أضحى آخر مسمار في نعش كامل المنظومة وتمركز فعلي لأهم مؤسسة ديمقراطية في تونس رغم مؤشرات المشاركة الضعيفة للمواطن التونسي في تلك الانتخابات، لكنها تستطرد قائلة، إن ذلك في حقيقة الأمر يعود لانشغال المواطنين بالوضع الاقتصادي وتأزمه وكذا تململهم من الانسداد السياسي الذي شهدته البلاد خلال “عشرية حركة النهضة السوداء”.

بالعودة إلى الأكاديمي التونسي مراد الحاجي نجده يشرع في تفسير لجوء “النهضة” إلى جبهات رديفة كـ”جبهة الخلاص” بالتزامن مع تهم الفساد التي تلاحق رموزها ورموز المعارضة، ما زاد من تشويهها في الشارع ولذلك، فإن تحركات “النهضة” عبر ذلك تحاول مغازلة الرأي العام الخارجي وهو ما يجعل الأمور معقدة ولن تعرف المآلات سوى من خلال ما ستؤول إليه حملة الايقافات وما يثبت من التهم أو ينفيها من خلال القضاء.

غير أن الثابت أن الوضع السياسي ليس في صالح “النهضة” التي اهترأت بفعل أخطاء الحكم ثم جاء مسار 25 تموز/ يوليو، ليزيد من تعريتها وفضحها أمام الرأي العام ما يجعل وضعها أكثر تأزما، إلا أنه في نفس الوقت سيجد سعيد أيضا نفسه أمام امتحان مصداقية، فتهم الاستبداد والتفرد التي يطلقها عليه خصومه هي اختبار حقيقي، فهو إن لم يفلح في تحسين الوضع الاقتصادي، فإنه سيجد نفسه في مأزق يخدم خصومه كما أن سياسة الإيقافات التي يتبعها سلاح ذو حدين.

من المظاهرات المعارضة لحركة “النهضة” الإسلاموية في تونس- “إنترنت”

يتابع الدكتور مراد الحاجي، مؤكدا أن لجوء “النهضة” إلى الحركات الرديفة هو نوع من الاحتماء بها للإيحاء بكونها ليست الوحيدة في مواجهة مسار قيس سعيد والإيحاء للرأي العام العالمي، أن البلد يعيش استبدادا يقر به الكثيرون وأنها ليست الوحيدة التي تناضل ضده. هذا فضلا عن كون “النهضة” تلجأ إلى هذا التكتيك حتى لا يقال إن خصومتها مع سعيد تأتي على خلفية العداء بداعي إسقاطه حكمها وبذلك تتجنب مزيدا من الكراهية في الشارع وتوحي بأنها جزء من حراك واسع مناهض للرئيس.

وحول مآلات لجوء “النهضة” للجبهات الرديفة يذهب الكاتب التونسي ناصر التليلي إلى أن المآلات تبدو قاتمة، فقد عاثت “النهضة” فسادا وتخريبا في المشهد التونسي، بحسب وصفه، ما ألحق أضرارا جسيمة من الصعب التغاضي عنها فلن تنفعها جميع أنواع الأقنعة والمكياج للنجاة من الاندثار والخروج من المشهد السياسي برمته.

بينما يرى الدكتور مراد الحاجي أن الحديث عن المآلات يبدو محفوفا بالمجازفة في ظل تعقد الوضع السياسي في تونس فالملاحقات القضائية طالت قيادات مهمة في “النهضة” بتُهم الفساد. كما أن العديد من مكونات “جبهة الخلاص” المتحالفة مع “النهضة”، تمّ إيقاف بعض المنتمين إليها وهو أمر يُضعف حركة “النهضة” ويشوّهها بعد أن فقدت الكثير من مصداقيتها زمن حكمها للبلاد.

ارتدادات مهزومة لـ”النهضة”

فتح قرار فرض الإقامة الجبرية على رئيس مجلس شورى حركة “النهضة” عبد الكريم الهاروني، قوس التأويلات السياسية بين الحركة والرئيس قيس سعيّد، وخصوصا أن توقيت القرار حظي بدلالات كبيرة؛ مرّة بتوقيته قبل موعد اجتماع مجلس شورى الحركة بيوم واحد، الأمر الذي دفع كبار القيادات في بيان الحركة و”جبهة الخلاص” بربط ذلك القرار بشروحات تراها تستقر صوب استهداف القيادات التاريخية والعمل على إحداث فراغ داخلي في الحركة وشل قدراتها على تنظيم المؤتمر الذي كان مزمع عقده خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

وأخرى بأن القرار يأتي في سياق نهج يتّسق مع رؤى الرئيس التونسي والذي دأب عليه منذ لحظة قرارات 25 تموز/ يوليو 2021.  كما أنه يتفق مع مضمون حديث قيس سعيّد الذي حذر فيه مرارا من تنفيذ القانون بحق من أضرّ بتونس وشعبها وفرّط في حقوقه خلال عقدٍ كامل وسمي بـ “العشرية السوداء”.

يدعم ذلك الاتجاه قرار الأجهزة الأمنية التونسية مع منتصف ليل 5 أيلول/ سبتمبر الماضي بتوقيف نائب رئيس الحركة منذر الونيسي، ونقله إلى ثكنة أمنية غير معلومة بحسب بيان رسمي نشرته الحركة عبر حسابها الرسمي على منصة “الفيسبوك” وكذلك توقيف رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام الأسبق حمادي الجبالي، في ثكنة العوينة.

حقيقة الواقع الذي تعيشه “النهضة” على مستوى الاتصال الجماهيري يبدو في أزمة عميقة نتيجة مباشرة لتأزم الأوضاع السياسية التونسية خلال السنوات الأخيرة، ومدى الاضطراب والتعقّد الذي طال كافة القوى الفاعلة وعنف الصدام المباشر الذي حدث مع العديد من الأطراف داخل البرلمان، وفشل حوكمتها للبلاد.

ثمة مسارٌ في ذهن الرئيس التونسي قيس سعيّد، لتفعيل المحاسبة القانونية بحق عدد كبير من قيادات “النهضة” التاريخيين وتوقيفهم على ذمّة قضايا تتعلق بأمن الدولة و تسفير الشباب لبؤر التوتر ومناطق الإرهاب وأخرى تتعلق بقضية “انستالينغو”، الأمر الذي من خلاله تراقب الأجهزة الأمنية والقانونية مدى توافر المعلومات والاعترافات اللازمة لإصدار بطاقات إيداع بحق المتّهمين في تلك القضايا على غرار ما حدث مع راشد الغنوشي وآخرين.

في المقابل يرتاح كبار قيادات “النهضة”، سيما مَن يقيمون خارج تونس إلى استخدام وتوظيف خطاب مقاومة الديكتاتورية والانقلاب والعمل على فرض ممارسة الحركة نشاطها ودورها بمعزل عن السلطة السياسية واتصالاً بالشعب التونسي مباشرة. بيد أن حقيقة الواقع الذي تعيشه الحركة على مستوى الاتصال الجماهيري يبدو في أزمة عميقة نتيجة مباشرة لتأزم الأوضاع السياسية خلال السنوات الأخيرة، ومدى الاضطراب والتعقّد الذي طال كافة القوى الفاعلة وعنف الصدام المباشر الذي حدث مع العديد من الأطراف داخل البرلمان، وفشل الحكومات المتعاقبة في تسيير أحوال المواطنين.

كما أن ذلك يشير أيضا إلى مدى الأزمة التي تعاني منها “النهضة” نتيجة الاستقالات التي قدّمتها أسماء ثقيلة في البنية التنظيمية للحركة وتوقيف زعيمها التاريخي، راشد الغنوشي، وعدد من القيادات، الأمر الذي تسبّب نحو ارتباك تصوراتها وإدراكها لمكونات المشهد السياسي وكيفية التفاعل معه والتعاطي الواقعي مع كافة عناصره.

وقد ظهر ذلك عبر التخبط مع تشكل “جبهة الخلاص” برئاسة أحمد نجيب الشابي، وتقديمها كخط مواز للحركة وجدار يمكن الاستناد إليه في حال قامت السلطة السياسية بتجميد الحركة نهائيا. كما بدا ذلك مع إبراز قرار تكليف السيد منذر الونيسي، بمباشرة مهام رئيس الحركة عبر تكليف خاص جاء من راشد الغنوشي. الأمر الذي لم يحجب حجم الفجوة التي تعاني منها الحركة وتراكم الانشقاقات بين الأجيال المتعاقبة، وهذا ظهر واضحا مع صياغة التّوجه نحو تنظيم مؤتمر عام للحركة وما نتج عن ذلك من تباينات وتناقضات بين صفوف قيادات الحركة وما ينبغي أن ينتج عن المؤتمر في نسخته الحادية عشر على المستوى التنظيمي واستمرار القيادات التاريخية التي تتعرض لمحاسبات قانونية في السجون في مناصبها. فضلا عن شكل ومنسوب العلاقة مع السلطة السياسية خلال الفترة المقبلة، وخصوصا أن ثمة موعد للانتخابات الرئاسية ينبغي أن يكون بعد شهور قليلة خلال العام المقبل.

وتتحرك جبهة راشد الغنوشي داخل حركة “النهضة” نحو العمل على إحكام قبضتها على القيادات الحالية ولا سيما نائب رئيس الحركة  منذر الونيسي. وفي تقدير البعض أن التسريب الأخير الذي ظهر فيه منذر الونيسي وهو يتحدث إلى إعلامية تونسية بشأن بعض الأمور المتعلقة بالحركة ومدى الأزمة التي تعاني منها، جرّاء راشد الغنوشي وعائلته، فضلا عن حديثه عن المال والفساد المتعلق به كان مدبرا من خلال جناح راشد الغنوشي، الذي يرى عدم جدوى تنظيم المؤتمر من دون حضور القيادات التاريخية. بينما الونيسي ورفاقه يذهبون نحو ضرورة عقد المؤتمر وتجديد هياكله التنظيمية ووضع الأنساق الضرورية لصياغة مقاربة مع الدولة تتيح له العمل وفق قواعد السياسة الجديدة.

تشير مصادر متطابقة إلى أن جناح راشد الغنوشي يرفض كلّيا عقد المؤتمر ويخشى من خروج الحركة بعيدا عن حساباته وتصوراته، مما دفع أبناء هذا الجناح لوضع شروط محددة لتنظيم المؤتمر كانت كالتالي:

أولا، التأكيد على مضمون  الخطاب السياسي لـ”النهضة”، والذي جاء على لسان قياداتها منذ لحظة قرارات 25 تموز/ يوليو 2021، واستمرت من خلاله خطابات جبهة الخلاص الوطني. وثانيا، ينبغي أن تؤكد الحركة والقائمون عليها حاليا على رفض السلطة القائمة واعتبار أن كل ما حدث انقلابا على الدستور والشرعية.

أما ثالثا، التحرك من خلال العمل الميداني ضمن قيادة “جبهة الخلاص” وبذل التحركات المطلوبة بصدد ضم كيانات جديدة لمناهضة “الانقلاب”. ورابعا، تجديد الثقة في القيادات الموجودة داخل السجون لمرحلة انتقالية أخرى عرفانا بجهودها وقدراتها وما قدّمته للحركة والبلاد من تضحيات. وأخيرا، الاتفاق على البنود التنظيمية والإجرائية التي سيتم الاعتماد عليها في المؤتمر اتساقا مع ما سيقرّه مجلس الشورى.

مآلات محتومة أم فرضيات مرجحة

في سياق كافة الاعتبارات التي مرّت من خلالها “النهضة” خلال السنوات الأخيرة، خاصة مع قرارات تموز/ يوليو من العام 2021 وتراكم الغضب داخل الأجنحة غير الموالية لرئيس الحركة راشد الغنوشي، ينبغي الإشارة إلى نتائج محددة ستفضي إليها الحركة في الأفق المنظور على خلفية الأحكام القضائية المتوقعة في عدة قضايا تتعلق بأمن الدولة وقضايا تبييض أموال واغتيالات وكذلك عبر المتغيرات السياسية التي تمر بها تونس وفقا لرؤية وذهنية الرئيس قيس سعيد.

قد تتجه “النهضة” إلى التموضع من جديد عبر قيادات جديدة وأسماء أخرى بعيدا عن راشد الغنوشي ورجاله، وبالتالي يمكن النظر إلى تلك الخطوة بوصفها مناورة تكتيكية جديدة للحركة الإسلاموية.

إذن ثمّة مآلات يمكننا عرضها كنتائج مباشرة على النحو التالي: فرضية تحلّل بنية حركة “النهضة”، نتيجة الأزمات التي عرفتها على مدار السنوات الماضية ومواصلة الرئيس وأجهزة الدولة التحقيق القضائي في القضايا التي يتورّط فيها أعضاء وقيادات “النهضة”، مما يدفع الدولة والبرلمان التونسي بصيغته الجديدة إلى قرار حلّ الحركة وتفكّكها على خلفية تحرك نواب البرلمان منذ شهر تموز/ يوليو الماضي نحو ذلك، خاصة مع تصريحات النائبة، فاطمة المسدي، عن توقيع لائحة سياسية وتصنيف الحركة بالإرهابية على خلفية القضايا المتورطة بها والتي تمس الأمن القومي للدولة التونسية ومنها إنشاء “جهاز سري” والتآمر على أمن الدولة والاغتيالات السياسية وتسفير الشباب لبؤر التوتر وقد تضمنت اللائحة تأكيد ضرورة محاسبة كل من أجرم في حق الشعب التونسي طيلة العشرية الأخيرة والعمل على تحقيق المفهوم الصحيح للسيادة باسترجاع المؤسسات الوطنية من الاختراقات التي دأبت عليها حركة “النهضة”. يضاف إلى ذلك قرار منع الاجتماعات في مقرّ “النهضة”.

فرضية أخرى تذهب نحو اتجاه “النهضة” إلى التموضع من جديد عبر قيادات جديدة وأسماء أخرى بعيدا عن راشد الغنوشي ورجاله، وهو الأمر الذي يناهضه رفيق عبد السلام، صهر الغنوشي، ويعمل عبر بعض وكلائه في الداخل لتثبيت قيادة الغنوشي للحركة، وهو التّحرك الذي بدأ مع تعيين العجمي الوريمي كأمين عام للحركة، وهو المنصب الذي كان شاغرا منذ العام 2019، على خلفية استقالة الأمين السابق زياد العزاري. كما أنها تهدف من وراء ذلك محاولة تهدئة الأجواء مع الرئيس ومدّ جسور من الحوار مع الدولة، سيما وأن الوريمي لم يلحظ عليه انتقاد الرئيس أو مهاجمته، وبالتالي يمكن النظر إلى تلك الخطوة بوصفها مناورة تكتيكية جديدة لحركة “النهضة” الإسلاموية، إزاء التموضع من جديد في المشهد السياسي وبعث رسالة مفادها كونهم يلامسون الأرض ويتنفسون كأحياء.

قائمة المراجع:

– كتاب “السلفية التكفيرية في تونس” للباحث والمؤرخ عبد اللطيف الحناشي.

– مقابلات وأحاديث خاصة مع مصادر سياسية وأكاديمية تونسية منهم:

– مباركة البراهمي قيادية في “حزب التيار الشعبي” وأرملة الشهيد محمد البراهمي.

– عدنان البراهمي: ناشط سياسي وحقوقي ونجل محمد البراهمي.

– الأكاديمي التونسي، الدكتور مراد الحاجي.

– نادية قيراط: ناشطة سياسية ومحامية تونسية.

– ناصر تليلي: كاتب سياسي تونسي.

– حديث سابق مع القيادي في حركة “النهضة” عبد الحميد الجلاصي قبل قرار توقيفه.

ما ورد عن هذه المصادر الأكاديمية والسياسية التونسية، هو نتاج حوار وأسئلة طرحها الكاتب عليهم أثناء إعداد المادة، ولم يسبق نشرها، وبالتالي فهي خاصة وحصرية بالنص المقدّم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات