قد يكون من المفيد، في معرض الاشتباك مع ما يحدث من هرولة إخوانية صوب إيران، طرح “معضلة القنفذ” التي نحتها الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، وإسقاطها على واقع التقارب بين إيران والأذرع الإخوانية المختلفة. ففي توصيفه النظري لتجمّع القنافذ معا في فصل الشتاء بحثا عن الدفء، يقول شوبنهاور، إن كل واحد منهم قد يقوم بوخز الآخر بأشواكه، ما يدفعهم إلى الابتعاد عن بعضهم البعض، الأمر الذي يُشعرهم بالبرد، وهنا تصبح القنافذ حائرة بين وخز الأشواك وقسوة البرودة.

في نهاية الأمر، سوف تضطر القنافذ إلى البقاء على مسافة قريبة من بعضها البعض، بحيث لا تفقد الدفء كلّه، وتتجنب في الوقت نفسه أذى الأشواك.

لعل هذا المدخل يفسّر طبيعة العلاقة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والأذرع والكيانات “الإخوانية” في الشرق الأوسط وأواسط آسيا، فعلى الرغم من اتساع المسافات البينية بين الإسلام السياسي السُّني، ونظيره الشيعي، والصراع الأيديولوجي القائم بين الفكرتَين، منذ القِدم؛ إلا أن جملة التحولات الدولية والإقليمية، ووحدة الخطر المشترك، وفضاءات الأهداف المتخيلة، ربما دفعت جميعا القنافذ إلى اعتناق نظرية ذكاء المسافات، ومحاكاة معضلة شوبنهاور الشهيرة.

تجلّيات الانتهازية السياسية

يمكن القول إن الفصل الحاد بين الحقيقة أو الصدق، وفق المنطق الديني المفارق، وبين الممارسة السياسية التي تجري في انتهازية مطلقة، كل تحوّلات البُنى الجيوسياسية لتيار الإسلام السياسي (سني/ شيعي)؛ تجلت بوضوح في العلاقات التي ربطت حركة “حماس” الفلسطينية، بـ”فيلق القدس” الإيراني.

ظل الذراع الإخواني السوري معاديا لطهران؛ لعدة اعتبارات أبرزها الدور الإيراني في سوريا، وارتباط المراقب العام لجماعة “الإخوان” السورية، عامر البوسلامة، بالأجندة التركية في الإقليم.

إلا أن هذا الأمر يمكن استيعابه في ضوء الطابع التاريخي للصراع العسكري مع إسرائيل، والزخم المكثّف لطبيعة الارتباطات السياسية والعسكرية للجمهورية الإسلامية في سوريا ولبنان؛ الأمر الذي ترتّب عليه انضواء ذراعي الإخوان في قطاع غزة ولبنان تحت إمرة “فيلق القدس”، بينما ظل الذراع الإخواني السوري معاديا لطهران؛ لعدة اعتبارات أبرزها الدور الإيراني في سوريا، وارتباط المراقب العام لجماعة “الإخوان” السورية، عامر البوسلامة، بالأجندة التركية في الإقليم.

لكن الأمر اللافت هنا، هو ذلك التقارب المباغت بين “الجماعة الإسلامية” في باكستان، ونظام الملالي في إيران، ذلك أن الجماعة السياسية الباكستانية، تُعد أكثر الأذرع الإخوانية تشددا في آسيا، فهي ترتكز على الفكر القطبي، ولديها صلات قوية بحركة “طالبان” الأفغانية، وكذا الجماعة الإسلامية البنغالية، ويعتنق أميرها سراج الحق، جملة من التصورات الدينية الراديكالية، القائمة على أفضلية المذهب السُّني وربانيته، وينادي بقيام دولة إسلامية سُنية في باكستان، على الشريعة الإسلامية كما عرّفها أهل السُّنة والجماعة.

وكثيرا ما يطرح سراج الحق مفردات ومفاهيم غريبة على واقع الدولة المدنية الحديثة، حيث يحرّم النظام الاقتصادي البنكي، وسفور النساء، وينادي بتعميم التعليم الديني السُّني، وإعلان الجهاد في كشمير، بل وضد الحكومة الخارجة عن تعاليم الإسلام. كما كان أبرز المعارضين للأنشطة الإيرانية في باكستان، والمتعلقة بتجنيد الشيعة، وإرسالهم إلى بؤر القتال في سوريا، ضمن فيلق “زينبيون”.

آليات الصعود السياسي

من جهة أخرى، ونتيجة لاستخدام خطاب ثوري أقرب إلى الفكر اليساري، ازدادت شعبية سراج الحق في باكستان، خاصة بين طبقات الفقراء والمعدومين، وهو الأمر الذي ارتفعت وتيرته، في أعقاب المحاولة الانتحارية التي استهدفت سراج الحق منذ عدة أشهر.

لا تكاد تخلو ساحة من اعتصام هنا، أو تظاهرة هناك، يرفع فيها سراج الحق مطالب الفقراء، من أجل توفير الطحين والماء النظيف، وتخفيض أسعار الخدمات وخاصة الكهرباء، كما ظهر وهو يقود أكثر من مظاهرة ضخمة للعاطلين عن العمل، أضف إلى ذلك امتلاك الجماعة الإسلامية موارد مالية كبيرة، حيث يمتلك قسم الخدمة بالجماعة، خبرات طويلة، وموارد تمكّنه من التعامل مع الكوارث الطبيعية.

كما أن القِسم به إدارات مختلفة تختص بالتعليم، والصحة، وسداد القروض، والحِرف اليدوية، وتوفير مياه الشرب النظيفة، وتقديم المساعدة القانونية المجانية، ومراكز حماية أطفال الشوارع، بالإضافة إلى شبكة كبيرة من دور الأيتام، وأنشطة رعاية نزلاء السجون، وحفلات الزواج الجماعي، وتوفير المهور. وما إلى ذلك، ما أدى إلى تحقيق صعود سياسي، تجلى بشكل ملموس في الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث كادت الجماعة الإسلامية أن تقتنص حُكم كراتشي في باكستان.

لم تفوّت “الجماعة الإسلامية الباكستانية” الفرصة، ومنذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، نظّمت الجماعة تظاهرات مليونية حاشدة في أنحاء باكستان، كما نظّمت مؤتمرا وطنيا خاصا بالقضية الفلسطينية، واستطاعت الجماعة منذ اليوم التالي للرد الإسرائيلي على قطاع غزة، في جمع تبرعات إغاثية هائلة، مكّنتها في أقل من شهر من تسليم حمولة طائرة كاملة؛ مليئة بالمواد الغذائية والأدوية والملابس، وأعلنت الجماعة أنها بصدد إعداد خمس طائرات أخرى.

لقاء سابق لأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، حميد شهرياري مع زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان سراج الحق- “وكالة أنباء تقريب”

الجماعة الإسلامية أعلنت صراحة أنها تحمّل واشنطن مسؤولية “المذابح الإسرائيلية” في قطاع غزة، ودعت إلى تظاهرة مليونية، استهدفت السفارة الأميركية، حيث جرت احتكاكات بين أنصار الجماعة والشرطة الباكستانية على طريق سريناجار السريع، استخدمت فيها الشرطة قنابل الغاز والخرطوش، كما اعتقلت الشرطة أمير الجماعة في إسلام آباد، وبعد مفاوضات مع الحكومة، أعلنت الجماعة الإسلامية عن تسيير مليونية يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري في لاهور؛ من أجل التضامن مع غزة.

ظهور مفاجئ في إيران

بعد عشرات التظاهرات والتصريحات والتحركات الميدانية، ظهر أمير الجماعة الإسلامية، سراج الحق، في إيران، في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، في زيارة تستغرق أربعة أيام، بحسب تصريحات قيصر شريف، المتحدث باسم “الجماعة الإسلامية الباكستانية”، والذي قال إن سراج الحق ذهب إلى طهران ليناقش قضية فلسطين مع المسؤولين الإيرانيين.

وفي اليوم التالي لزيارته، التقى أمير الجماعة الإسلامية، بالدكتور حميد شهرياري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران. وقال سراج الحق، إن “فلسطين قرّبت قلوب المسلمين من بعضها البعض، وهي الآن قادرة على توحيد الأمة الإسلامية، كما أثنى سراج الحق على الجمهورية الإسلامية، التي تناضل من أجل فلسطين، ومن أجل وحدة المسلمين”، داعيا الأمة الإسلامية إلى الاقتداء بنهج طهران. بحسب تصريحات نقلتها وكالات الأنباء.

وفي كلمة ألقاها في حفلٍ أُقيم على شرفه في العاصمة الإيرانية طهران، قال سراج الحق إن الأهداف واحدة، وكذلك فإن الألم المشترك واحد بين إيران وباكستان، وفي رسالة كاشفة، قال سراج الحق إن رسالة أبو الأعلى المودودي (منظر الحاكمية)، والإمام الخميني (مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية)؛ هي توحيد العالم الإسلامي من أجل معركة واحدة.

كما غازل سراج الحق طهران، لافتا إلى أن الجماعة الإسلامية عندما أعلنت عن تنظيم احتجاج أمام السفارة الأميركية، أعربت الولايات المتحدة عن تخوّفها من “احتلال الإخوان للسفارة”، على غرار ما حدث في إيران، في مطلع الثمانينيات.

إن فروض الولاء السياسي التي قدّمها زعيم الإخوان في باكستان، لنظام الملالي في إيران، تضعنا أمام متغير جديد؛ يضاف إلى الصورة الكلية لطبيعة التحالفات الإيرانية في المنطقة، ما يسمح بتصوّر عدة سيناريوهات، تشي بتمدد الإسلام السياسي بشقّيه السُّني والشيعي، من خلال تحالف مركزي، نقطة الثقل فيه في طهران، التي أصبحت رأس أخطبوط تمتد أذرعه من باكستان شرقا، إلى لبنان وغزة غربا، وصولا إلى اليمن جنوبا، حيث جرت هذه التحولات بالتزامن مع إعلان “حزب الإصلاح اليمني”، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، دعمه للضربات الحوثية لإسرائيل، واستعداده للاشتراك في الحكومة الحوثية في صنعاء.

قضية القدس أداة وظيفية

مقابل كل ذلك، فإن إيران التي تدرك جيدا عمق الخلافات المذهبية والدينية بينها وبين جماعة “الإخوان المسلمين”، قررت أيضا استخدام نظرية القنافذ، في خضمّ صراعها الوجودي مع واشنطن، والعِداء التاريخي بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل من أجل بناء تحالف إقليمي؛ يضم القوى “الممانعة” لإسرائيل في المنطقة.

أسّست إيران “فيلق القدس”، كأداة وظيفية لاجتذاب حركات الإسلام السياسي السّني إليها، والدعاية السياسية لنفسها بين الشعوب العربية، في نهج براغماتي يطرح مفرداته البنيوية على واقع الصراع في المنطقة، بهدف توحيد المذاهب “سياسيا”، سعيا تجاه خلق ذاتٍ مقدّسة في مواجهة العالم.

وفي إطار ذلك هيمنت على دمشق، وكرّست هيمنتها في لبنان من خلال “حزب الله”، وكذا بضم الجماعة الإسلامية الإخوانية إلى “محور المقاومة”، بالإضافة إلى “الحوثي” في اليمن، وتحالفات الحزام الإفريقي الواصل حتى منطقة الساحل والصحراء.

يؤمن الشيعة بمقولة الإمام جعفر بن محمد، بأن المسجد الأقصى في السماء، وأن مسجد الكوفة أفضل من بيت المقدس (القدس)، وهو ما يتّسق مع الميراث التاريخي، الذي يقوم على عِداء الشيعة لعمر بن الخطاب (فاتح القدس)، وعبد الملك بن مروان (صاحب مسجد قبة الصخرة)، ومع ذلك أسّست إيران “فيلق القدس”، كأداة وظيفية لاجتذاب حركات الإسلام السياسي السّني إليها، والدعاية السياسية لنفسها بين الشعوب العربية، في نهج براغماتي يطرح مفرداته البنيوية على واقع الصراع في المنطقة، بهدف توحيد المذاهب “سياسيا”، سعيا تجاه خلق ذاتٍ مقدّسة في مواجهة العالم.

وعليه، انحلّت الخصومة العقائدية إلى مجرد نسق مذهبي موروث، يمكن إرجاء البت في معطياته لاحقا؛ من أجل بناء جهاز مفاهيمي جديد للعلاقات بين طرفي الإسلام السياسي، تتصدره معطيات التّحدي الواحد، وآليات الاستجابة الجماعية، مما يؤدي بالضرورة إلى فصل الحضور المركزي لنظرية المعرفة الدينية، عن جملة المصالح السياسية، وهو وضع لا يعكس الواقع بصدق، ذلك أن حدود كلا الفكرتَين المهيمنتَين على الفريقين هي العالم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات