كان “الربيع العربي” الذي بدأ الموسم الأول له في نسخة تونسية ثم انتقلت العدوى وتعددت الفصول بين مصر وليبيا وسوريا، مدخلاً لتسييس قطاعات وأجيال من الشباب وقد انخرطوا في حوادثه وتفاصيله، بداية من التظاهرات والاحتجاجات المليونية التي طالبت بـ”العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية”، بينما أفضت بسقوط ثلاثة أنظمة عربية، مروراً بكافة التحولات وصعود الإسلام السياسي وحتى انحساره ثم تداعيات ذلك كافة. وهذا التسييس شكّل هوية وربما هويات للجيل الذي شهد الانتفاضات عام 2011 وكان فاعلاً في الفضاء العام.

هوية أو هويات يعني أن ما أعقب “الربيع العربي” له تباينات فكرية وسياسية تسببت في نشوء ممارسات عديدة، وهذه الممارسات لها أكثر من طبيعة ومرجعية، وبما إنّنا نطرح الدور الذي شكله تيار الإسلام السياسي الذي حكم في “عشرية سوداء” بتونس، فإن الامتدادات ربما لا تبدو منقطعة بين الأجيال حيث أن هناك ذاكرة مشتركة راكمها حضور هذا التيار وبالأخص “حركة النهضة” (فرع إخوان تونس) وذلك من خلال ما قد شهده أبناء قادة هذا التيار من صدامات جيل الأباء مع السلطة والتي أفضت لاعتقالات وشتات في الخارج، كما أن الجماعات الراديكالية المسلحة والتي تنتمي لفكر تأسيس “الخلافة” فهو انعكاس لانحرافٍ في الوعي وتخريب مفاهيمي في ظل الاستلاب الذاتي وحالة الاغتراب.

الانخراط في الجماعات الإسلاموية

هنا يجب أن نشير إلى أن أبناء المنتمين لحركة الإسلام السياسي ينقسمون إلى مجموعتين: المجموعة الأولى، هي امتداد جيلي لأبناء حركة الاتجاه الإسلامي، بمعنى أن هويتهم الدينية والسياسية مبنية أساساً بل مقترنة بهوية آبائهم، فهذا الانتماء ليس مبني على التعاطف أو التبعية  فقط بقدر ما هو مرتبط بالاشتراك في نفس المصير التاريخي والاجتماعي، وما نقصده أن أغلب أبناء الإسلاميين الذين انخرطوا في حركة الاتجاه الإسلامي في الثمانينات القرن الماضي عايشوا كل التجاوزات الأمنية بحق آبائهم، كما عايشوا كل أشكال النبذ والوصم الاجتماعي في كل مكونات الفضاء العام (في الحي، في المدرسة…) ناهيك عن المداهمات الأمنية والتّتبعات البوليسية.

إن هوية أبناء الإسلاميين لها وظيفة المحافظة على استمرار موروث الجماعة، كما أنها تقوم أيضاً بالوظيفة الدفاعية مما يجعلها أكثر صموداً في المجتمع.

لذلك كانت الثورة التونسية نقطة انطلاق فعلية لهم داخل الفضاء العام خاصة مع كم التعاطف الاجتماعي الذي لقوه في الأوساط الاجتماعية التي رأت في الحركة التي ينتمون إليها بديل سياسي لنظام بن علي، وهو ما مثّل لهم نوعاً من الاعتراف بهم بعد حالات النبذ التي عايشوها، وهنا يمكن القول، إن هوية أبناء الإسلاميين لها وظيفة المحافظة على استمرار موروث الجماعة، كما أنها تقوم أيضاً بالوظيفة الدفاعية مما يجعلها أكثر صموداً في المجتمع.

وفي هذا السياق تقول (ن.ر) “أنا فخورة بانتماء والدي لحركة الاتجاه الإسلامي سابقاً وحركة النهضة اليوم، فانتمائنا للحركة روحي فكري عقائدي، وأنا سأورث هذا الانتماء لأبنائي، فخورة بنضال والدي وتمسّكه بما آمن به رغم التعذيب، كما أنني أرى أن الحركة فوق كل مستوى الشبهات والانتقادات”، فهوية هؤلاء الأبناء هي هوية مستندة إلى الذاكرة الجمعية الموجوعة والتي ترى في هذا الألم مصدراً لتفرّدها وتميّزها لكنها في المقابل تكون مصدراً للتعصب لجماعة الانتماء وبالتالي، فإن الولاء يصبح للجماعة لا للدولة حسب ما ذهب إليه العالم الشهير أمارتيا صن، فجلّ المنتمين للحركة من الشباب يرونها فوق مستوى النقد، وبالتالي فإن تعصبهم الهوياتي يكمن في النظر إلى الآخر المختلف ثقافياً واجتماعياً وفكرياً وبالأخص سياسياً خصماً أو مصدر تهديد لوحدة الجماعة أو حتى لموقعها في المنظومة السياسية للبلاد التونسية، كما يعزون استمرار الحركة وثباتها في المشهد السياسي منذ الثورة إلى غاية 25 تموز/ يوليو على غرار الأحزاب الأخرى، هو ثباتها على مبادئها ومصداقيتها واعتدالها الفكري والديني بدليل أن الكثيرات من المنخرطات في الحركة لسن محجبات.

أما بالنسبة للحركة فإنها اعتمدت على هذه القاعدة الشبابية في عمليات الاستقطاب الطلابي داخل الجامعات، ناهيك على أنهم فاعلينَ ميدانيينَ في الحملات الانتخابية، والأهم أنهم جنودٌ افتراضيينَ على شبكات التواصل الاجتماعي يمجّدون المواقف السياسية للحركة أو يذودون عنها كل الهجمات الإعلامية أو من بعض الأحزاب الأخرى.

وبالنسبة للمشاركة السياسية فقط أعطيت بعض المناصب القيادية لبعض الشباب سواء كنوّاب في البرلمان أو وزراء في الحكومات المتعاقبة، أما الباقية فإنهم يرون أن القيادات الكبرى في الحركة تقوض طموحاتهم ورغباتهم في الممارسة السياسية.

أما المجموعة الثانية، هم الأبناء الذين لا يملكون الانتماء لا لآبائهم ولا للحركة، فهؤلاء يرون أن آباءهم تخلّوا عنهم في الأوقات التي يجب أن يكونوا فيها مصدراً لحمايتهم واحتوائهم لكن ما حصل هو العكس، لأنهم كانوا مصدراً لهرسلتهم (ارتدادهم) ونبذهم واقصائهم من كل مؤسسات الفضاء العام. 

أما بالنسبة للبعد العلائقي بينهم فأكد بعض المستجوبين أنهم لا يعرفون آباءهم الذين بدورهم لا يعرفون ميولهم أو ماهية أحلامهم، وهو ما خلق صراعا قائما بينهم خاصة في الناحية السياسية، فهم يرفضون الانتماء لحركة النهضة أو مسايرة آباءهم في هذا الانتماء، حتى في الجانب الديني فقد أكد لنا بعض المستجوبين أنهم لا يقومون بأداء الصلوات، وأكدت بعض الشابات أنهن رفضن ارتداء الحجاب، تقول (س.ر) “أمضى أبي أكثر من 15 عشرة سنة في سجن، وقد تم إطلاق سراحه قبل الثورة بأشهر، إلا أنني لم أشعر تجاهه بمعنى الأبوة، إنه أمر صعب لدرجة أنني خلعت الحجاب الذي اقتنعت به في مرحلة ما من حياتي، لأنني رأيت فيه عائقاً نفسي يذكرني بـ الإرهاصات التي تعرّضنا لها وبألم أمي، و عذاباتنا فأنا لن أرتديه  مرة أخرى لأنني أراه انعكاس لوجعي ناهيك أنني لن أحاول أن أرضي والدي أو أن أعوض له محنته بحجابي”.

وهؤلاء المستجوبين يعانون اغتراباً نفسياً تجاه آبائهم لا يستطيعون من خلاله التعاطف معهم أو حتى مشاركاتهم انتماءاتهم السياسية والدينية، كما أن الكثير منهم يرون أنهم يردون بناء حياتهم الخاصة وخالية من وفاض عبء نضالات آباءهم.

تونس تحتل صدارة ترتيب البلدان بأكبر عدد من الشباب الذين غادروا بلادهم للالتحاق ببؤر التوتر- “إنترنت”

وهو ما يحيلنا إلى محاولة بناء هوية تلازم الأنا منسلخة على هوية الـ”نحن”، بمعنى أن مسألة الأنا ترتبط بالبحث عن الكينونة الذاتية وسط الزخم المتنامي والمختلف، وترتبط الهوية بالشعور بحركة الذات المستقلة عن الآخر، والوعي بدرجة الاختلاف والتباعد التي تحكم الثنائية المتقابلة، فالهوية تساعد الفرد وتحفّزه على الرجوع إلى ذاته، ومواجهة الاغتراب، والنبذ من جانب آخر، كما أنها تساعده على مواجهة الكثير من المهيمنات خاصة انتماءات آبائهم، وهو ما يمكنه من التعبير عن كينونته ووجوده وتحولاته. لدرجة أن الكثير منهم انخرطوا في أحزاب مناهضة لحركة النهضة لأنهم يرون أن الدين عند هذه الحركة هو قابل للتوظيف كأيديولوجيا يستخدم من أجل الحفاظ على تموقعها الاجتماعي والسياسي.

الجماعات الراديكالية

تُعد الراديكالية ظاهرة اجتماعية، لها بُعدٌ ديني عقائدي سلوكي سياسي بالمعنى الأنثروبولوجي، فهذه الحركات وجدت في الثورة التونسية فرصة ولوجها للفضاء العام بعد أن كان هذا الفضاء تحت سيطرة النظم السياسية ناهيك أنه فضاء منوط بالمؤسسات التدين الرسمي، فانفجار الحركات الدينية في الساحة الاجتماعية جاء نتيجة لارتفاع سقف الحريات لذلك كل الأطياف الفكرية والدينية والسياسية وجدت مجالاً للتعبير عن كينونتها وأفكارها وأطروحاتها لكن في المقابل كانت مجالاً لخلق صراع الهويات المتعددة ومختلفة الروافد. 

فالسلفية وطبعاً نقصد السلفية المتشددة التي كان أغلب أتباعها من الشباب مضطرب الهوية الدينية في ظل ما عايشه من تفقير ديني ممنهج للنظم السابقة، دفعته للبحث عن روافد دينية أخرى يغذي به احتياجاته العقائدية والروحية ولهذا وفي ظل الحراك الديني مع بداية الثورة سهل جذبه واستقطابه لهذه الحركات، في البداية مثل هؤلاء قاعدة انتخابية هامة داعمة لحركة “النهضة”، لكن مع انسياق الحركة في النظام المدني للدولة خيبت آمالهم لأنهم اعتقدوا أن الحركة ستؤسس لنظام خلافة باعتبارها حتمية إسلامية، وهذا ما يحيلنا إلى رأي روي أوليفير Olivier Roy والقائل بأن حركات الإسلام السياسي أخفقت في بناء دولة إسلامية رغم تأكيدها خلال تعبئتها السياسية بأنه هدفها الأساسي ويعود ذلك لسببين:

أولاً، الإخفاق الفكري للمشروع السياسي لهذه الحركات، فتشبّثها بالقيم الأصيلة للمجتمع الإسلامي بدون مسايرة التطورات المجتمعية المعاصرة، أفقدها أحد أهم محركاتها الأساسية في التعبئة.

تونس تحتل صدارة ترتيب البلدان بأكبر عدد من الشباب الذين غادروا بلادهم للالتحاق ببؤر التوتر حسب الأرقام التي قدمتها وزارة الداخلية التونسية لسنة 2016.

ثانياً، الإخفاق التاريخي حيث لم تستطع حركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم تأسيس نظام حكم بقيم إسلامية، فعلى غرار الخطاب الأخلاقي السائد فإن جلّ ميكانيزمات العمل السياسي والاقتصادي لهذه الحركة تخضع في جزء كبير منها للعلمنة، وهذا لا يتماشى مع متطلّعات السلفيين الذين انسلخوا عن دعم “حركة النهضة” وتوجّهوا نحو بناء مشروع سياسي قائم على نظام الخلافة باعتباره يجسّم الهوية الإسلامية وذلك من خلال إلقاء محاضرات والندوات الفكرية والحلقات الدعوية في المساجد التي سيطروا عليها و التي قاربت على 6000 مسجد و فيها يتم تذكير الشباب “بأمجاد السلف” ووجوب العودة إلى الإسلام الأولي، متصادمين مع كل مظاهر التدين الرسمي ومؤسساته في المقابل عجز الدولة عن احتواء هذا الفضاء الديني المتمرد في المرحلة الأولى.

ووفقاً للتقرير الذي أعدّه فريق العمل التّابع للجنة الأمن الداخلي لمجلس النّواب الأميركي، أكد “أن تونس تحتل صدارة ترتيب البلدان بأكبر عدد من الشباب الذين غادروا بلادهم للالتحاق ببؤر التوتر حسب الأرقام التي قدمتها وزارة الداخلية التونسية لسنة 2016 فقد ذهب أكثر من 3000 شاب للقتال في سوريا؛ وقتل من بينهم 800 بينما رجع 600 إلى تونس.

وبناء على أرقام عدد الجهاديين والمتعاطفين معهم من أنصار الشريعة نجد حوالي 10 ألاف تونسي متأثرين بالأطروحات الجهادية و مستعدين للجهاد خارج البلاد. والملفت للانتباه أن أغلب الشباب الذين جُنّدوا أو التحقوا بكتائب إرهابية هم من أصحاب الشهائد العليا أو لهم مستوى جامعي، وذلك حسب دراسة قدمها “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ” حول الإرهاب من خلال الملفات القضائية وجدوا في 1000 عيّنة أن 40 بالمئة، هم من حاملي شهادة علمية أو لديهم مستوى جامعي في حين أن 33 بالمئة لديهم مستوى تعليمي ثانوي، و13 بالمئة متحصّلين على شهادة في التكوين المهني، و 4 بالمئة حاملين لشهادة البكالوريا، و10 بالمئة تعليم ابتدائي كما مثّل العنصر النسائي 3.5 بالمئة.

وهذا ما يدل على أن هذا الشباب الإسلامي يعاني أزمة هوية وانتماء، ارتبطت أساساً بالأحداث العالمية ابتداء بحرب البوسنة والهرسك وحرب الشيشان وأفغانستان والعراق، والتي رأوا فيها حرباً على الإسلام وهو ما وجب مواجهته كضرورة جهادية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات