بعثت الهجمات العسكرية المباغتة التي شنّتها فصائل “عز الدين القسام”، الجناح العسكرية لحركة “حماس”، ضد إسرائيل، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بإعادة تموضع جديد لتنظيمات الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي، وهي التنظيمات التي تحاول الاستفادة من أثر وتداعيات الأحداث الجارية وتتبّع تطور أحداثها للعمل على توظيف ثقل القضية الفلسطينية في ذهنية شعوب المنطقة ثم تمريرها بشكل أو بآخر لصالح معالجة وتعديل واقع تلك التنظيمات المأزوم، وقد تعرضت للانحسار في العشرية الأخيرة كما هو الحال في مصر وتونس. وتستفيد بشكل كبير التنظيمات الإسلاموية من المشهد العسكري القائم والمحتدم حيث توظّف الاستهدافات الإسرائيلية لصناعة رأي عام مؤدلج لصالحها من ناحية كسب الانحياز الإنساني.

عززت “جبهة الخلاص” الوطني التي تُعد حركة “النهضة” الذراع السياسية لتنظيم “الإخوان المسلمين” في تونس أحد أكبر مكوناتها من ذلك الأمر، وتساهم بخطاباتها السياسية الدعاية في رفع وتيرة الحالة التعبوية من الناحية الإنسانية والأيدولوجية لأغراض براغماتية تخصّ واقعها المعقّد بعد انحسار دورها السياسي في تونس، وكذا وجود قادتها وعناصرها تحت طائلة القضاء والتحقيق على خلفية اتهامات طالتهم بشأن الإرهاب وتسفير الأفراد لمناطق النزاع في سوريا وليبيا.

هذا فضلا عن الفساد وتبديد وثائق متعلقة بما تورّط فيه بعضهم من اغتيالات بتونس كما هو الحال مع القياديَين اليساريَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وهنا، تتسيّد الحركة الإسلاموية المشهد عبر دعوتها غير مرة للمشاركة في المسيرات والتظاهرات التي تنظّمها تحت شعار “دعم المقاومة ومساندة غزة” جراء القصف الإسرائيلي.

إخوان تونس والاستثمار في الأزمات

ثمة ملاحظة منهجية من الصعوبة بمكان تجاوزها، عند النظر نحو تحرّك “جبهة الخلاص” صوب العودة، مرة جديدة، إلى الشارع التونسي، والعمل حيّز العثور على بيئة تمنح حركة “النهضة” فرصة التفاعل مع المواطنين، وقد أدار هؤلاء ظهرهم لكافة عناصرها وقضاياها طيلة الشهور الأخيرة. الأمر الذي دفعها نحو استثمار تلك اللحظة الوظيفية بغية أهداف تكتيكية تأمل في تحقيقها مرة على مستوى التفاعل المجتمعي ومرات أخرى عبر المساحات المشتركة مع القوى والأحزاب السياسية. وأخيرا رفع مؤشرات التقارب مع مؤسسة الرئاسة التي رفعت منسوب خطابها السياسي جراء الأحداث الجارية.

مسيرات في شارع الثورة بتونس العاصمة دعما لفلسطين- “صفحة حركة النهضة التونسية على الفيسبوك”

حركة “النهضة” تلقّت ضربات متلاحقة من نظام الرئيس التونسي، قيس سعيّد، منذ إجراءات الخامس والعشرين من تموز/ يوليو عام 2021، وقرارات القبض على عدد من قيادات الحركة الإسلاموية، منهم رئيس الحركة بالنيابة منذر الونيسي والقائد التاريخي راشد الغنوشي، مما دفع الأخير مطلع الشهر الجاري إعلانه الدخول في إضراب عن الطعام لمساندة عدد من المقبوض عليهم في قضية التآمر على أمن الدولة، والذين اتخذوا ذات القرار بهدف العمل على طرح القضية مرة جديدة للرأي العام واستثارة عواطف المواطنين. بيد أن تحرك منسوب الأحداث على مسار القضية الفلسطينية والصراع الميداني الذي تفجر من خلال عملية “طوفان الأقصى” والرد الإسرائيلي عبر عملية “السيوف الحديدية”، منح المعارضة التونسية المتمثلة في تنظيمات الإسلام السياسي قدرة جديدة على توظيف الحدث لصالحهم والنزول نحو الشارع دون التعرض لأي ضغوط من مؤسسات الدولة الأمنية وتمرير مقولاتهم وتصوراتهم نحو آذان وعيون المواطنين دون أي مضايقات.

فضلا عن كون ذلك، قد يضع موقفهم السياسي بجانب موقف الرئيس قيس سعيّد في رسالة غير مباشرة للتوافق على الحدود الدنيا التي تسمح بالجلوس مرة جديدة للتفاوض على مقاربة التصور السياسي في ما بينهما خلال الأفق المنظور، مع الأخذ في الاعتبار صعوبة حدوث ذلك ولاعتبار أن ذهنية وقرارات الرئيس التونسي تجاوزت ذلك الطرح.

العودة إلى الفضاء السياسي

ثمة ضرورة مُلحّة لفهم السيولة على مسرح الأحداث في قطاع غزة، وسيناريوهات التصعيد التي تحتمل تعدد مسارح الأحداث على هامش المستوى الإقليمي المتوتر، وكذا عبر النظام الدولي المرتبك، وما يستتبع ذلك من مخاطر ومآلات جسيمة على شكل النظام الإقليمي الراهن، ثم المحددات الآمنة اللازمة لاستقراره خاصة مع ذلك التداخل المباشر الذي تضطلع به طهران، النسخة الشيعية من الإسلام السياسي، عبر جملة التصريحات الرسمية التي جاءت من خلال وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، والذي يتحرك وفق أجندة الملالي البراغماتية والتوسعية، وهي تستفيد من تعدد وضعيات حالة السيولة السياسية والميدانية، مما يخفف الضغط المباشر على طهران.

ومن ناحية أخرى يسمح لحليفها روسيا فرصة التقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق في صراعها العسكري مع أوكرانيا والغرب والولايات المتحدة. فمن المهم أيضا النظر نحو تحرك “جبهة الخلاص” في تونس نحو التفاعل مع الأحداث بعيدا عن روتين ردّ الفعل المعتاد في المنطقة العربية والتي دوما تذهب نحو التعاطف التلقائي ومساندة الفلسطينيين.

غير أن دعوات التظاهر هذه المرة صادفت التوافق الشعبي والرسمي ضد “النهضة” وقياداتها. ولذا؛ تأمل “جبهة الخلاص” الرديف الرسمي للحركة الإسلاموية ورئيسها أحمد نجيب الشابي، في التقاط أي تواصل شعبوي يعيدهم نحو فضاء السياسة التونسية، لا سيما أن الجبهة تحرص على دمج الشعارات الخاصة بالوضع الداخلي في تونس مع مسيرات التظاهر. فيما بدا ذلك مع تكرار رفع لافتات أن “الثورة مستمرة من تونس لفلسطين” وأخرى تقول “من تونس لفلسطين أوفياء لدماء الشهداء”.

كما يمكن تتبّع ذلك الطرح الأيديولوجي الانتهازي عبر التدقيق في ذلك البيان الذي صُدر باسم رئيس “جبهة الخلاص” الوطني أحمد نجيب الشابي، بينما نشرته الحركة عبر صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، إبان انطلاق العمليات التي شنّتها “حماس”، والذي راكم عبارات الدعم والتأييد والمساندة. فضلا عن إشارات الهجوم الصريحة ضد مقاربات التطبيع العربي الإسرائيلي غافلا عمدا وقصدا على طريقة المراوغات التاريخية للإسلامويين أن كافة تنظيمات الإخوان في الشرق الأوسط قد تعاهدت مع الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر في العام 2001، على إقامة علاقات طبيعية مع الجانب الإسرائيلي مما يضع كافة التصريحات والبيانات التي تصدر مع ارتفاع منسوب الأحداث حيز جانب الوظيفية الانتهازية، والمناورة التكتيكية لصالح أهداف مرحلية مؤقتة قد يتم الانقلاب عليها والوصول لنقيضها في أي لحظة. وربما ذلك يبدو ماثلا مع مطالعة ما جاء في البيان:

“تتابع جبهة الخلاص الوطني ببالغ الفخر والاعتزاز ما تسطّره المقاومة الفلسطينية البطلة من ملاحم بطولية إعجازية على أرض فلسطين المحتلة دفاعا عن الأقصى ودعما للأسرى الفلسطينيين الصامدين الأبطال. إن ما تشهده الأراضي المحتلة في هذه السّاعات الخالدة هو صفحة مشرقة من سجل الصّمود الفلسطيني ومعاركه البطولية طيلة أكثر من سبعين سنة دفع فيها البشر والشجر والحجر ثمن تخاذل الكثير من الأنظمة العربيّة وتواطؤ بعضها والهرولة نحو التطبيع مقابل فتات المساعدات أو ضمانات واهية لتأبيد البقاء في السلطة …”.

تأييدا لذات الطرح، عملت ما يطلق عليه “تنسيقية عائلات المعتقلين السياسيين” في ما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، تنظيم أمسية تضامنية مع القضية الفلسطينية منتصف الشهر الجاري، واتخذت لذلك عنوان دال جاء كالتالي “ما لا يتحقق بالمقاومة.. يتحقق بمزيد من المقاومة”. في صياغة تعبوية تميل بشكل حاد للعنف.

عدم تفويت حركة “النهضة”، عبر “جبهة الخلاص” الوطني ورئيسها أحمد نجيب الشابي، الاستثمار في القضية الفلسطينية ورمزيتها الدينية ومتابعة عملية تديّين الصراع، ثم توظيف حالة التعبئة التي تمتلئ بها الجماهير العربية في الجهة التي تجعلها تعاود مكانتها السياسية في الفضاء العام المحلي والإقليمي، يكاد لا يختلف عن كافة مواقفها التقليدية خلال العقود الماضية. لكن من الصعوبة، في الأفق المنظور، ترجيح أي سيناريو يدفع نحو تمظهر حركة “النهضة” مرة جديدة في واقع السياسة التونسية من دون المرور بعدة خطوات ومراحل تتجاوز الحركة في نسختها الأولى كما ينبغي أن تتجاوز أيضا القيادة الأولى والتاريخية للحركة ممثلة في راشد الغنوشي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات