العلاقات بين تنظيم “القاعدة” المصنف على قوائم الإرهاب وإيران مرّت بظروف ومحطات عديدة. لكن الثابت أنها لم تكن صِدامية رغم الخلاف الظاهري عقائديا. فمن جهة، النظام في طهران تاريخيا هو قريب الصلة بالإسلام السياسي السني ممثلا بـ”الإخوان المسلمين” مرورا بـ”القاعدة” وحتى تنظيم “داعش” الإرهابي المماثل للأولى في تطرّفها السني المسلح.

كما أن الصراع المؤقت مع حركة “طالبان” كان له حسابات جيوسياسية ومخاوف قومية طائفية تتصل بأقلية “الهزارة” الشيعية في أفغانستان وكذا الكتل السّنية في إقليم بلوشستان والبلوش المسلّحين على الحدود الإيرانية الأفغانية. ثم إن النظام الإيراني تمكّن من توظيف اللاجئين الأفغان لديه في تشكيل فصائل ميليشياوية من الأطفال كما هو الحال مع “فيلق فاطميون” بإغراءات حول توفيق أوضاعهم القانونية ومنحهم الجنسية، فضلا عن امتيازات أخرى والأفغان متواجدون منذ الثمانينات منذ الحرب مع “الاتحاد السوفيتي”.

إذاً، تؤدي إيران دورا براغماتيا في إدارة الصراع بناء على حسابات عملية، ففي علاقاتها بـ”القاعدة” فقد وفّرت لهم ملاذات آمنة بعد 2011 خاصة لقيادة الصف الأول وأسرة أسامة بن لادن، وكانت هذه ورقة تفاوض أحيانا ثم ابتزاز وضغط أحيانا أخرى مع الولايات المتحدة الأميركية، حققت بها جملة مصالح، وتكشف وثائق منها مراسلات بين قادة التنظيم وبن لادن، أن الملالي تورّطوا في تسليم البعض وتصفية آخرين بعد تسريب معلومات لواشنطن.

كما أن ثمة تنسيق متبادل حدث بين “القاعدة” وإيران في ملفات مشتركة، حيث تُعد “القاعدة” ورقة وظيفية لدى الملالي راهنا في إطار مزايدات عديدة قد تجري مع “طالبان” التي تهدد حدود طهران الشرقية، فضلا عن الرغبة في كبح طرف جهادي من تسيّد هذا الفضاء المتشدد.

موقف “القاعدة” الانتهازي

أولا موقف “القاعدة” تجاه الأحداث في قطاع غزة ودعم “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس” ضمن خطابها الدعائي، يكشف عن تموضع الإسلام السياسي في الفضاء السياسي كما تعمل على هندسته إيران. وهذا الاصطفاف السياسي والتنظيمي بين قوى إسلامية متشددة مسلّحة سنّية وشيعية كما في حالة “القاعدة” وإيران، لا يختلف عن اصطفاف مماثل بقيادة “الحرس الثوري الإيراني” بين “حماس والجماعة الإسلامية” وجناحها العسكري المتمثل بـ”قوات فجر”، فضلا عن “حزب الله” وفصائل شيعية.

حركة “حماس”- “إنترنت”

وجاء بيان القيادة العامة لـ “القاعدة” بعنوان “ألا نصر الله قريب”، وأشاد فيه بدور “المجاهدين في فلسطين في معركة طوفان الأقصى”، مؤكدا أن “الطوفان القادم من أبطال الإسلام سيُنسي الصهيوصليبيين أهوال أيلول/ سبتمبر”، مبينا أن “العملية كشفت بشكل مباشر عن حجم الفشل الاستراتيجي الإسرائيلي”، داعيا “الأمة الإسلامية إلى تقديم الدعم المعنوي والمادي للأبطال في فلسطين”، وحثّ على استهداف كل ما هو “صليبي وصهيوني وإسرائيلي في حرب مفتوحة”.

هذا فضلا عن إصدار فروع تنظيم “القاعدة” في العديد من المناطق بالعالم، مثل الفرع  الموجود في شبه القارة الهندية وفرع التنظيم باليمن، وتنظيم “حرّاس الدين” فرع “القاعدة” في سوريا، وأخيرا حركة “الشباب الصومالية”، وتنظيم “قاعدة الجهاد ببلاد المغرب الإسلامي” وجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، وكل بيانات هؤلاء الأفرع المنتمية للتنظيم الإرهابي كانت تتمحور حول الإشادة بهجوم “حماس” على إسرائيل، واعتبار ذلك حرب كل الأمة الإسلامية ومن ثم تحريض ودعوة كلّ الإسلاميين والمتعاطفين معه إلى شنّ حرب شاملة ضد “اليهود والأجانب” وكل من يدعم إسرائيل، أي دعوة مفتوحة لجميع الجماعات الإسلاموية في الولوج في حروب وهجمات ضد الغرب، فضلا عن التأكيد على أن “السبيل الوحيد لتحرير الأمة الإسلامية من براثن أنظمة الكفر هو الجهاد في سبيل الله”.

حركة “حماس” لا تختلف أيديولوجيا وحركيا وتبعية إلى نهج وفكر تلك التنظيمات الجهادية، وبالتالي لا يمكن غض الطرف عن موقف “القاعدة” وتوحد بيانات جميع فروعها في العالم، إذ يمثل زاوية لافتة، يمكن تفسيرها أن التنظيم المتطرف مثل غيره من التنظيمات الجهادية تستغل الأزمات لاستقطاب الأنصار عبر الترويج لخطابات تحريضية، وهذه ليست المرة الأولى التي توظّف “القاعدة” القضية الفلسطينية في خطاباتها الدعائية والانتهازية، بغية تصدير نفسها الواجهة الأساسية للدفاع عن الأمة الإسلامية وفي مقدمتهم فلسطين.

هندسة إيران للفضاء السياسي

اللافت هنا أن تنظيم “القاعدة” ليس الوحيد الذي يهدد باستهداف القواعد الأميركية. بل إن الميليشيات الإيرانية في المنطقة تبثّ التهديد نفسه، وسبق أن نفّذ وكلاء طهران عدّة هجمات بطائرات مسيّرة على قواعد أميركية في كلّ من العراق وسوريا، خلال الأيام القليلة الماضية.

مطلع العام الجاري تداولت عدة فرضيات متناقلة حول مصير أيمن الظواهري وخليفته، محمد صلاح الدين زيدان الذي يحمل الاسم الحركي “سيف العدل”. فمنذ إعلان الولايات المتحدة الأميركية العام الفائت عن العملية التي قالت إنها أدت إلى مقتل زعيم “القاعدة” الظواهري، والتنظيم لا يعترف بفقدان خليفة مؤسسه أسامة بن لادن. وبناءً على ذلك لم يتم الإعلان بعد عن المتزعم الجديد للتنظيم حتى الآن.

ثم سادت تكهناتٌ بأن زعيم التنظيم الجديد هو سيف العدل، لكن لم يتم الإعلان عنه رسميا، بسبب حساسية “القاعدة” تجاه مخاوف “طالبان” الأفغانية من عدم الاعتراف بمقتل الظواهري في كابل وحقيقة وجود سيف العدل في إيران، وفق تقارير أممية خاصة.

علي خامنئي وأيمن الظواهري- “العربية”

التقرير الأممي أشار إلى أن سيف العدل مختبئ في إيران، وهو ما أكدته “وزارة الخارجية الأميركية” قبل أشهر عديدة، وصرّحت أن سيف العدل يقيم في إيران وصار زعيما لـ”القاعدة” بعد مقتل الظواهري. وهذا يعني أن طهران أصبحت مقر إقامة الزعيم الجديد، وبالتالي هذا برهان على وجود علاقة وطيدة بينهما، خاصة وأن العديد من مساعي وأهداف الطرفَين مشتركة، ولعل عداء كل منهما لواشنطن أحد أهم تلك الأهداف.

كما أن العديد من الدراسات، تؤكد أن سيف العدل بقي يتنقل بين أفغانستان وإيران في أواخر التسعينات، وهو ما مكّنه من توطيد علاقاته مع كبار المسؤولين الأمنيين بإيران، لكنه في الوقت ذاته يخضع للإقامة الجبرية، وذلك لعدة أسباب واعتبارات.

العلاقة بين “القاعدة” وإيران ليست بجديدة، فقد كانت واشنطن قد أعلنت في السابق عن وجود محطتين لـ”القاعدة” داخل طهران ومدينة مشهد الواقعة شمال شرقي البلاد المحاذية للحدود الأفغانية، وذلك لتسهيل سفر عناصرها من وإلى أفغانستان.

وسيف العدل الذي يعتقد أنه يبارح 62 عاما، هو ضابط سابق في القوات الخاصة المصرية وشخصية بارزة في الحرس القديم لـ”القاعدة”، ساعد في بناء القدرة العملياتية للتنظيم ودرّب بعض الخاطفين الذين شاركوا في هجمات 11 أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة، وفق المنظمة الأميركية “مشروع مكافحة التطرف”.

في سياق الأحداث الجارية في غزة، ودعم تنظيم “القاعدة” المزعوم لـ”حماس”، وبثّ دعوات تحريضية ضد الغرب، يقول عبد السلام القصاص، الباحث والمحلل في شؤون الجماعات الإسلامية، إن هذه البيانات والدعوات التعبوية التي تبثّها “القاعدة” وأفرعها، يبدو أنها مدروسة بعناية. وثمة عدّة تكتيكات وراء ذلك، خاصة وأن هذه الجماعات لم تقدم دعما حقيقيا على الأرض لـ”حماس” أو حتى للفلسطينيين أو أي ضربات انتقامية كبرى في الدول الغربية أو أمام سفاراتهم في أي دولة بالعالم، بل اكتفت بترويج الخطاب المتطرف.

ثمة عدّة تكتيكات وراء خطاب “القاعدة” الدعائي لـ”حماس”، خاصة وأن هذا التنظيم المتطرف لم يقدم دعما حقيقيا على الأرض للحركة أو حتى للفلسطينيين أو تنفيذ أي ضربات انتقامية كبرى في الدول الغربية.

الباحث في شؤون الجماعات الجهادية، عبدالسلام القصاص لموقع “الحل نت”

الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، أردف لموقع “الحل نت”، أن هذا الخطاب الدعائي من قبل التنظيم يبدو جليا أنه يأتي في إطار استغلال الظروف فيما يجري في غزة، وخاصة التركيز على مشاهد قتل المدنيين من الأطفال والنساء ومن ثم حجم الدمار بما يؤدي في النهاية إلى تعميم أفكاره المتطرفة وحشد الرأي في العالم الإسلامي والعربي من جهة، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الشارع العربي الغاضب للانضمام إلى الجماعات المتطرفة من جهة أخرى، وهو ما يصبّ في مصلحة إيران بجميع الأحوال.

وهذا التكتيك، استخدمته “القاعدة” في أحداث تموز/ يوليو عام 2006 في لبنان، حين حصل نزاع بين إسرائيل و”حزب الله”، وكان أيمن الظواهري يبث خطابات تحريضية مماثلة للحالية، وكان به قدر كبير من النفاق بأن التنظيم الإسلاموي “البطل” المدافع عن الأمة الإسلامية، مع العلم أن جميع أفرع التنظيم المتشدد، ووكلاء إيران، نفذوا عمليات وهجمات دموية كثيرة ضد المسلمين في أنحاء العالم، بمعنى أن هذا التنظيم ليس بيده سوى استغلال وسائل الإعلام في سبيل إثارة الكراهية والتحريض على العنف، وهو ما يتوافق مع أهداف إيران تماما، التي تستفاد بشكل أو بآخر من أي فوضى تحصل في المنطقة، طبقا لما يضيف الباحث في شؤون الجماعات الجهادية.

أهداف تكتيكية لإيران

بالتالي يمكن الاستنتاج من هذا الأمر أن ثمة تنسيق واضح ما بين طهران وتنظيم “القاعدة”، حول الاكتفاء بالخطاب الدعائي في مساندة “حماس” والفلسطينيين، الأمر الذي سوف يفجّر الوضع المعقّد الراهن في غزة، فحتى الآن لم يتدخل أي حليف أو وكيل لإيران في الحرب بمواجهة إسرائيل، وهو ما يعني أن طهران لا تريد توسيع دائرة الصراع وانهاك قوة ميليشياتها وحلفاؤها، بل تسعى لهندسة وترتيب أوضاع إقليمية جديدة، وفق تحليل الباحث في شؤون الجماعات الجهادية.

أي أن الدور الإيراني الخفي في الأحداث بغزة وإسرائيل لا يتجاوز مسألة “وحدة الساحات”، والتي تبدو مجرد دعاية وبروباغندا سياسية لحلفائها ووكلائها، بدءا من “القاعدة” وليس انتهاء بـ”حزب الله”، أي عدم فتح جبهات جديدة مع إسرائيل وواشنطن، والاكتفاء بالمناوشات والاشتباكات التكتيكية لكن دون أي تصعيد، وهو ما يحدث بالفعل حاليا، سواء على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، أو داخل سوريا والعراق. 

لذلك يمكن القول هنا إن إيران في تورّطها مع هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر على إسرائيل، كانت تهدف لجملة من المصالح، أولا عدم توسيع دائرة الصراع، بحيث أن تقوم إسرائيل بتدمير أجزاء كبيرة من قطاع غزة وإضعاف “حماس” لمستويات كبيرة، وبالتالي هنا تحقق طهران مبتغاها، وهو إضعاف الخطر الجهادي السّني وإعادة توجيهه ضد الغرب، وفق حسابات جيوسياسية ومخاوف قومية طائفية لديها، أي توظيف اللاجئين الفلسطينيين من حرب غزة وأنصار ما يعرف بـ”المقاومة” من أجل تشكيل فصائل ميليشياوية جديدة، كما فعلت في سوريا والعراق وأفغانستان، بإغراءات عديدة.

خاصة وأن إيران لا تنفك عن استخدام جميع الأوراق المتاحة للضغط على الولايات المتحدة، خاصة في ظل ما كان يحدث من تطورات ومتغيرات في الإقليم ولعل أبرزها قرب إبرام اتفاق سلام بين إسرائيل والسعودية، وبالتالي وفق الباحث في شؤون الجماعات الأصولية، يرجّح أن تستخدم جميع الأدوات وتوظيف “القاعدة” وعموم الجماعات السّنية والشيعية الموالية لها كورقة ضد واشنطن.

إيران لا تنفك عن استخدام جميع الأوراق المتاحة (بما فيهم الجماعات الإسلاموية) للضغط على الولايات المتحدة.

وهذا ما يقودنا، في النهاية، إلى نتيجة واحدة، وهي أن كل الجماعات المتطرفة التي تدّعي أنها “مناصرة للأمة الإسلامية” أو تعتبر نفسها جزءا من “محور المقاومة”، وأن الصراعات التي تخوضها ضد الغرب، مثل هجمات أيلول/ سبتمبر وعملية “طوفان الأقصى” الأخيرة، ليست سوى صراعات محصلتها صفر، بل تخدم أجندات إيران فقط، الأخيرة التي توظفها لحساباتها الجيوسياسية والاستراتيجية، وكل ذلك على حساب أشلاء شعوب المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة