مع دخول عملية “طوفان الأقصى” يومها العشرين، تظهر مفارقة مثيرة للدهشة، حينما نجد إيران، البلد الذي اعتاد على الجلجلة والجلبة وهرج وهتاف بشعارات “المقاومة” ومواجهة إسرائيل، ينكشف موقف نظامه الحقيقي، فبعد أيام من الوعيد عادت وسائل الإعلام الإيرانية لتؤكد أن طهران لا تنوي الدخول في الحرب، وأن مهمتها لا تتمثل في دعم “محور المقاومة” عسكريا، وإنما ينحصر دعمها على الجانب الإعلامي أو الحقوقي والسياسي.

في مشهد لافت، لم تقم الصحف الإيرانية، سواء كانت الأصولية أو الإصلاحية، بنشر أي صور أو تقارير تتعلق بدمار غزة والهجوم الإسرائيلي عليها منذ بداية المعارك، ويبدو وكأن هذا القرار جاء على طلب أو إشارة من الجهات العليا في الدولة، وبدلا من ذلك، ركّزت الصحف على نشر صورة للمرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، وهو يُلقي خطبةً أمام حشد من العسكريين على الصفحات الأولى، وهنا يرى العديد من مراقبي الشأن الإيراني أن تصريحات خامنئي وخطاباته تُعتبر محاولة صريحة للابتعاد عن مخاطر الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة.

وعلى الرغم من تحذيراتها لإسرائيل، يبدو أن إيران متردّدة في اتباع طريق الدخول المباشر في الصراع خوفًا من المخاطرة بردّ إسرائيلي قاسٍ، ونتيجة لذلك، ظلت إيران تحافظ على توازن صعب بين خطابها الإيديولوجي والنفعية السياسية، لكن إيران تلعب بالنار، فالتوازن الذي تسعى إلى الحفاظ عليه يمكن أن يتعطّل بسهولة في ضباب الحرب الذي لا يمكن التنبؤ به.

هذا التحول ليس مفاجئا تماما، فيبدو أن إيران التي لم ينخرط جيشها في حرب مباشرة مع أي دولة منذ انتهاء “حرب الخليج” عام 1988، باتت تريد السلام كدولة بدلا من أن تكون كبش الفداء للقضية الفلسطينية، يعني فعليا، لن تحارب بجانب الفلسطينيين.

تهرب من الانخراط في الحرب

ارتفاع عدد القتلى في قطاع غزة لم يسبق له مثيل في الحروب السابقة بين إسرائيل و”حماس”، فقد أكدت وزارة الصحة بغزة أنّ أكثر من 7000 فلسطيني قتلوا في الصراع، وهو رقم لا يمكن التحقق منه بشكل مستقل.

تعرض الصحف في طهران على صفحاتها الأولى أخبارًا عن الاتفاق الذي توسطت فيه الصين بين إيران والمملكة العربية السعودية لاستعادة العلاقات، والذي تم التوقيع عليه في بكين في اليوم السابق، في 11 مارس 2023.

“حزب الله” و”حماس”، كليهما لا يتخذان قرارا بإعلان الحرب أو السلام دون موافقة مسبقة وصريحة من إيران، ولكن المعارك ليست مثل الحرب الكاملة، وهنا يفسر الكاتب والمحلل السياسي، حسين نقاشي، أن المتابع يلاحظ التأثر السريع للاقتصاد الإيراني بالأحداث الخارجية وما يجري في غزة، وأن هذه الحقيقة ينبغي أن تقنع صُنّاع القرار في طهران بعدم اتخاذ قرارات من شأنها أن تعقّد الأوضاع الداخلية أكثر، وتحمل مزيدا من الضغوط والمعاناة على الشعب الإيراني.

نقاشي في حديثه لصحيفة “هم ميهن” الإصلاحية الإيرانية، لفت إلى الحالة الإيرانية الخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وبيّن أن كثيرا من المقاطع والصور أظهرت تعاطف شعوب الدول العربية والإسلامية مع القضية الفلسطينية، لكن في إيران لاحظنا أن التعاطف مع هذه القضية أصبح محدودا للغاية، وذلك نتيجةً لكثرة استغلال السلطة السياسية للقضية الفلسطينية.

في عدد يوم الأربعاء الموافق 25 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، كتبت صحيفة “همشهري”، المعروفة بقربها من أروقة الحكم في إيران، تصريحًا يقول: “الجمهورية الإسلامية تدافع عن المظلومين في العالم، وإن دعمها يظهر في الجهد المستمر للمحافظة على حضور المقاومة في الميدان، إنها تمدّ يد العون لها، ولكن لا يمكن أن تحلّ محلّها لن تشارك في القتال إلى جانبها”.

وأضافت الصحيفة، “إيران تقدم الدعم من أجل توسيع نفوذ المقاومة وتنشيط جبهات المواجهة، هذا هو النصر الحقيقي، وليس ضرورة الدخول في حروب بالوكالة، وفيما يتعلق بالصحف الأخرى مثل “جام جم” و”جوان”، بعد أيام من التصعيد في التصريحات والتهديدات، عادت لاستهجان مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة لعدم اتخاذهما الإجراءات الكافية لمنع الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة.

في سياق متصل، شدد المحلل السياسي، فريدون مجلسي، على أهمية تجديد العلاقات بين إيران والعالم الغربي، مشيرا إلى أن الدول الغربية لا تزال تُعامل على أنها دول معادية من قِبل إيران، وأضاف مجلسي: “إذا تم تجاوز الأفكار العدائية، فإن هذا يمكن أن يفتح الباب أمام التفكير في السلام والتقدم، وبالحوار، ويمكن التغلب على التهديدات وإنهاء العلاقات العدائية”.

ورأى الكاتب أن الدبلوماسية ترفض العلاقات العدائية وتُمكّن الدول من التفاعل بشكل بنّاء، بينما تُعتبر التهديدات مرحلة مؤقتة قبل اللجوء إلى العمل العسكري في العلاقات الدولية.

التصعيد ينقلب ضد “حماس”

توقّع عضو المكتب السياسي لحركة “حماس”، غازي حمد، تدخّلا أقوى من “حزب الله” في الحرب مع إسرائيل، وقال “إننا بحاجة إلى المزيد من الحلفاء بما في ذلك جماعة حزب الله اللبنانية المدعومة من إيران”، إلا أن الوضع الحالي، وخصوصا لما يجري داخل أروقة طهران و”حزب الله، فإنهما يفضّلان تجنّب اتساع رقعة الصراع بين إسرائيل و”حماس” إلى حرب إقليمية.

صورة المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي خلال احتجاجات داخل إيران.

هذا الوضع حتّم على خالد مشعل، رئيس حركة “حماس” بالخارج، أن يخرج علنا ليوجه سخطه لطهران ودمشق و”حزب الله”، ويقول إن “المطلوب أكثر من طوفان، هذه فرصة تاريخية فالتاريخ لا يصنع باللعب ولا يصنع بالخطوات المحدودة الخجولة المتردّدة”.

مشعل، كشف أن الجبهات الرسمية توقفت، خصوصا الضفة والـ 48 وجنوب لبنان وسوريا وإيران، وهذا ما أثار حفيظة إعلاميي “محور المقاومة”، الذين بدأوا بتسليط أقلامهم نحو “حماس” وقادتها.

الإعلامي فيصل عبد الساتر قال في حوار تلفزيوني، “القصة ليست بالرغبة، أحدهم يجلس في أوتيل في دولة خليجية ويقول إن حزب الله مشكور ولكن هذا لا يكفي، خالد مشعل ليس له وقع جيد في بيئتنا بشكل عام (البيئة الشيعية) وخاصة فيما جرى في سوريا”، فيما طلب السياسي اللبناني وئام وهاب المقرّب من “حزب الله” ومن دمشق، 30 مليار دولار من خالد مشعل لدخول الحلفاء في الحرب.

 الصحفية والباحثة في الشأن السياسي، أية عويس، ذكرت لـ”الحل نت”، أن عدم دخول “حزب الله” بالحرب مباشرة له أسباب كثيرة، لكن ما لم ينسَ داخليا، هو وقوف “حماس” موقف المتفرج حين دخل الحزب حربه مع إسرائيل عام 2006، وتركته وحيدا، وما يجري حاليا هو ردّ الصاع صاعين.

أما إيران، فإن ما تفعله، هو الإعراب عن دعمها لتصرفات “حماس”، لكنها بعد ذلك تهدد إسرائيل بعصا “حزب الله”، والأخير لا يحتاج إلى انتصار آخر لتعزيز موقعه في لبنان، لأنه أقوى قوة سياسية في البلاد.

ولكم في أردوغان عبرة

لقد كان النظام الحاكم في إيران واعياً للخطوط الحمراء الأميركية والإسرائيلية لتجنّب الأعمال العدائية المفتوحة، وفيما يتعلق بما يعرف بوحدة الساحات ضد إسرائيل، يلفت خبراء إلى أن “حماس” تشنّ الآن معركتها ضد إسرائيل بمفردها، بينما تختلف الأوضاع في اليمن والعراق ولبنان، بسبب وجود هياكل إرشادية ومرجعيات تابعة لإيران هناك تدير تلك المسارات، وتتبنى سياسة تجنّب المشاركة في صراعات مباشرة، وهذه الهياكل لا تسعى أيضًا لضلوع القوى الموالية لها في تلك الصراعات حتى لا تتسع رقعة الصراعات.

متظاهرون إيرانيون يخرجون إلى شوارع العاصمة طهران خلال احتجاج على مهسة أميني، بعد أيام من وفاتها في حجز الشرطة.

على نحو بعيد، يبدو أن الحكومة الإيرانية تنظر إلى أبعد ما يريده “محور المقاومة”، فطبقا لما ذكرته صحيفة “سازندكي” الإيرانية، فإن إيران تنتظر تحولات سياسية والاستعداد لخوض السباق الرئاسي بعد عامين، حيث لفتت إلى أن أهم منافس يواجه الحكومة الحالية الفاشلة هو ظهور شخصيات تكنوقراطية لمنافسة المرشحين التقليديين، وقالت إن ظهور هذه الشخصيات بدأ يُقلق كلا التيارَين الإصلاحي والأصولي في إيران، بالتزامن مع الهجرة غير المسبوقة في تاريخ إيران التي تشهدها حاليا.

ذات الصحيفة التي توجّهت للداخل الإيراني، عرجت على تجربة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في دخول جيشه عدة صراعات إقليمية وكيف أثر ذلك على مستوى قبول حزبه وقربه من خسارة الانتخابات الأخيرة بفارق ضئيل، فيما أشارت إلى أن أردوغان، الذي هو الآخر يُتهم باستغلال القضية الفلسطينية داخليا وخارجيا دون أن يقدم لها شيئا يذكر.

إن الهتاف الذي تردد كثيرا في الاحتجاجات على مدى العقد الماضي “لا غزة ولا لبنان، أنا أضحي بحياتي من أجل إيران”، هو تذكير حي بالفجوة بين النظام الحاكم والسكان.

ما يريد أن يقوله خامنئي ومن خلفه المؤسسات العسكرية والسياسية، إن الخط الأحمر لإيران هو الحفاظ على نظامها السياسي، وحاليا الفرصة مواتية للاستفادة من حرب غزة لممارسة الضغط على الغرب بملفها النووي.

لقد أصبحت إيران رهينة لخطاباتها التحريضية، وقد جمع النظام ثروته السياسية من رفض ومعاداة الغرب وإسرائيل، وتم التهليل للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية في نظرتها للعالم، واجتذب هذا الموقف أتباعًا في العالم الإسلامي، وتستغل إيران ذلك بلا خجل لكسب ميزة على منافسيها العرب، الذين تتهمهم طهران بخيانة الفلسطينيين.

في النهاية، إنها مفارقة ساخرة أن نجد أن إيران، الدولة المعروفة بخطابها القوي ضد إسرائيل، قد قلّصت حجم مشاركتها في المواجهة المباشرة، إنها مفارقة تجسّد تأثير السياسة والاقتصاد على الخطاب الرسمي، والتزامهم بنهجهم غير المتكافئ، فسوف يستمر الملالي و”الحرس الثوري” بالاعتماد على أجهزتهم الدعائية القوية لاستغلال إسرائيل من أجل استعادة صورة النظام الإسلامي التي شوّهت بشدة انتفاضة الحجاب الأخيرة. 

وبشكل عام، سوف يلعب القادة الإيرانيون، كما حدث أثناء حرب الثلاثة والثلاثين يوماً في صيف عام 2006، بالبطاقة النفسية اللازمة لتشجيع إعادة تشكيل اللعبة الإقليمية لصالحهم، حتى لو كانوا يعلمون أيضا من خلال قيامهم بذلك أنهم يلعبون بالنار.

5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات حول دولي

جديداستمع تسجيلات سابقة