تتسع العلاقات السياسية بين إيران والصين للحدود التي تجعل طهران تغض الطرف تماماً عن دعايتها الأيديولوجية بشأن كونها تحمي “المستضعفين” في العالم الإسلامي، وأن نظام “الولي الفقيه” إنما هو يتحدث باسم هذه الفئة المهمشة والضعيفة والمنبوذة التي تتعرض للقمع.

وكما أن “طريق القدس” في أجندة طهران لا يمر عبر فلسطين، بل من خلال الانخراط أو بشكل أدق تشكيل كيانات موازية لمؤسسات الدولة في لبنان وسوريا واليمن، فإن مسلمي الإيغور في الصين ومع كل الانتهاكات الحقوقية بحقهم ليس لهم أي نصيب في سياسات بكين ونشاطاتها “الثورية” المزعومة.

ورغم التباعد والتباين الأيديولوجي بين بكين وطهران مع وجود حكم ديني ثيوقراطي في الأخيرة، بينما الأولى تتبنى هي الأخرى حكماً عقائدياً إنما على النقيض تماماً حيث الاشتراكية العلمية، إلا أن ما يجمع “الولي الفقيه” و”الحزب الشيوعي الصيني”، هو اعتماد كل منهما الأيديولوجيا الشمولية لتعميم القمع والاستبداد سواء باسم الدين وحماية الطائفة أو “البروليتاريا”.

بالتالي، يضحى كل ما هو خارج هذه الدوائر الضيقة عدواً وخصماً يتم نفي أي حقوق مدنية ومواطنية وفق الدستور. وهنا نجد الأقليات تتراكم بشكل كبير في هذه البلدان وتصبح المجتمعات في حالة انقسام ومن دون اندماج، بفعل سياسات متعسفة تؤدي لتغييب التنمية عن المناطق المتواجدة فيها تلك القوى المضطهدة والمهمشة، فضلاً عن القمع الممنهج عبر الاعتقالات العشوائية والإعدامات أو بالأحرى القتل خارج نطاق القانون، ناهيك عن التمييز الذي يماثل في حالات كثيرة ما تمارسه أنظمة “الأبارتهيد”.

الصين والجرائم بحق الإيغور

ولا يكاد يختلف مع يجري مع الإيغور بالصين من جرائم تحفل بها التقارير الحقوقية الأجنبية، عن ما يحدث بحق البلوش أو الكُرد أو السنة أو البهائيين أو المندائيين. ففي الأحوال كافة، هناك تعسف في السياسات سواء في بكين أو طهران ضد ما يتم تصنيفه على أنه خارج الأطر الرسمية للحزب أو “الولي الفقيه”.

اتهامات للصين بارتكاب إبادة جماعية بحق مسلمي الإيغور- “رويترز”

كما أن هناك تماثل وتطابق تام بين السياسات هنا وهناك، حيث يتم إرغام هذه الفئات على الخضوع للسلطة المركزية من خلال سياسات “التفريس” وفرض المذهب قسراً، الأمر الذي يجري في بكين من خلال معسكرات تم الكشف عنها، وهي معسكرات تسمى بـ”معسكرات تثقيف”، لإعادة تأهيل مواطني الإيغور في ظل أوضاع مهينة وقمعية من الاحتجاز القسري على مبادئ وقيم بالإكراه من شأنها تغيير بعض القناعات المرتبطة بالهوية.

وفي نهاية عام 2022، طالبت المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، المجتمع الدولي بضرورة التعامل “بشكل عاجل” مع الخروقات “الموثوق بها” ضد أقلية الإيغور المسلمين والتي تتواجد في إقليم شنجيانغ، ومن بين تلك الانتهاكات والخروقات الحقوقية التعذيب والعنف الجنسي.

ووفق المفوضية الأممية في تقريرها، فإن الجرائم قد ترقى إلى كونها “جرائم ضد الإنسانية”، وتابع: “نطاق الاعتقال التعسفي والتمييزي لأفراد من الإيغور وغيرها من الجماعات ذات الغالبية المسلمة… قد يرقى إلى مستوى جرائم دولية، وبالتحديد جرائم ضد الإنسانية”.

لكن بكين كما هي العادة رفضت ما ورد في التقرير الأممي، ووصفت المعسكرات التي يتم فيها احتجاز الإيغور وآخرين من جماعات عرقية مسلمة بأنها مجرد “مراكز تدريب مهني” لمجابهة الأصولية الدينية.

لكن صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية نقلت عن المدير التنفيذي لمشروع “الدفاع عن حقوق الإيغور” ومقره أوتاوا، محمد توهتي، قوله: “على الرغم من الأدلة الموثقة جيداً بالتعذيب الذي ترعاه الدولة والتدمير المقصود لمجموعات الإيغور العرقية بأكملها من خلال معسكرات الاعتقال الجماعية والتعذيب الجسدي والنفسي والتهجير الجماعي والتعقيم القسري لمنع النمو السكاني وفصل الأطفال عن والديهم، جاء تقرير الأمم المتحدة أقل من تسمية الجريمة بالاسم”.

من جانب آخر، تتهم منظمات حقوق الإنسان الصين بتوظيف الإيغور قسراً في المصانع المرتبطة بسلاسل التوريد الدولية في قطاعات مختلفة تتراوح من الملابس إلى السيارات. ووفقاً لمنظمة “هيومن رايتس ووتش“، فقد تم تدمير أو تضرر حوالي 16 ألف مسجد في شينجيانغ، أو 65 بالمئة من إجمالي عددها، نتيجة للسياسات الحكومية الصينية منذ عام 2017.

وليس هذا فحسب، فإن الدراسات الغربية المستندة إلى وثائق رسمية وشهادات الضحايا والبيانات الإحصائية تتهم بكين باحتجاز ما لا يقل عن مليون شخص، معظمهم من الإيغور، في معسكرات، وإجراء عمليات تعقيم وإجهاض “قسرية”، أو بفرض “عمل قسري”. بينما لا تؤكد الأمم المتحدة هذا العدد، لكنها تشير إلى أنه تم اعتقال “نسبة كبيرة” من الأيغور والأقليات المسلمة هناك.

الترحيل القسري من إيران للصين، يعد من بين نطاقات التعاون المشبوهة بين بلدين لهما سجلات حافلة في الجرائم الإنسانية والحقوقية.

ولطالما أكد الأكاديميون ونشطاء المنظمات غير الحكومية وأدانوا أن إجراءات تحديد النسل الصارمة في إقليم شينجيانغ منذ عام 2017 (بما في ذلك فرض حصص التعقيم وزرع وسائل منع الحمل “لوالب” القسرية) هي جزء من محاولة صينية متعمدة لتقليل الولادات للأقليات العرقية. وعندما نفت الصين هذه الاتهامات، زعمت أنها نفذت سياسة تقييد الولادات في جميع أنحاء البلاد.

ويعيش الإيغور في إقليم شينجيانغ شمال غرب الصين، ويشكلون أغلبية سكانها البالغ عددهم نحو 26 مليون نسمة، إلى جانب الكازاخ والهان. ومعظم الإيغور من المسلمين السنّة، وهم يشكلون المجموعة العرقية الرئيسية في شينجيانغ، ويقدر عددهم بحوالي 12 مليون نسمة.

وكان الإيغور يشكلون الأغلبية هناك قبل أن يستولي الشيوعيون على السلطة في عام 1949، لكنهم يشكلون اليوم 45 بالمئة فقط من سكان الإقليم.

إيران وتحالفها مع الصين

ورغم هذا السجل الحافل من الجرائم والانتهاكات بحق كثير من الصينيين والأقليات فيها، بل ومعارضين سياسيين من مختلف الاتجاهات والمرجعيات سواء دينية أو قومية وعرقية وسياسية، إلا أن إيران التي تقف في نفس المربع من العزلة الدولية وتواجه عقوبات دولية بسبب ملفها الحقوقي وسياساتها العدوانية على الأمن العالمي، تحجب مجال رؤيتها وتواصل تعاونها الاستراتيجي مع الحليف الصيني، من عدة نواح تجارية واقتصادية وأمنية.

وبالتالي هذا الأمر يجعل من المنطقي أن تجعل صحيفة “كيهان” التي يعين رئيس تحريرها المرشد الإيراني تصف مسلمي الإيغور بـ”الإرهابيين”، وذلك في مواجهة الانتقادات التي طاولت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لصمته على ما يحدث لهم أثناء زيارته للصين قبل نحو عام. بل اتهمت الصحيفة المتشددة والأصولية الإيغور بأن لهم صلات بـ”إسرائيل وإنكلترا وأميركا”. وهي تهمة جاهزة لكل من يبدو خصماً للملالي.

تتسع العلاقات السياسية بين إيران والصين للحدود التي تجعل طهران تغض الطرف تماماً عن دعايتها الأيديولوجية بشأن كونها تحمي “المستضعفين” في العالم الإسلامي- “أ ب”

وفي هذا السياق، لن يبدو الأمر خارج المنطق أو غريباً أن تتورط إيران في تسلم أحد مسلمي الإيغور للسلطات الصينية، والتي بدورها اعتقلته وحكمت عليه بالسجن لنحو 15 عاماً. وما حدث مع أبو الهاشم تورسون يشبه إلى حد كبير الممارسات الإيرانية التي تستهدف خصومها في الخارج وتقوم باختطافهم قسراً، ونقلهم إلى طهران ثم إرغامهم على محاكمات صورية من دون أن تتوافر فيها شروط الدفاع بل قبولهم قسراً باتهامات واهية والتي تنتهي بهم للسجن مدد طويلة أو الإعدام.

الترحيل القسري من إيران للصين، يعد من بين نطاقات التعاون المشبوهة بين بلدين لهما سجلات حافلة في الجرائم الإنسانية والحقوقية، فضلاً عن موقعهما المتقدم في قمة تقارير البلدان التي تنفذ أحكام الإعدام.

وبحسب وسائل إعلام، فتم الحكم على المواطن بالسجن في بكين 15 عاماً بعد إدانته كـ”مجرم” بسبب زيارة سابقة له إلى الإمارات.

وتعد الإمارات من بين البلدان التي تصنفها بكين في قائمة “الدول الحساسة”، حيث تكون زيارتها ذريعة وحجة لاحتجاز الأفراد في “معسكرات إعادة التأهيل”.

ووفقاً لشقيق أبو الهاشم تورسون، على الرغم من امتلاكه جواز سفر صيني وحصوله على تأشيرة عمل، فقد تم احتجازه في مطار الخميني بطهران وتم استجوابه لمدة 20 يوماً. بحسب “إيران انترناشيونال“. وتردف: “وبعد انقطاع الأخبار عنه توجه شقيق أبو الهاشم، أبو القاسم تورسون، إلى القنصلية الإيرانية في إسطنبول للحصول على معلومات عن شقيقه، لكن مسؤولي القنصلية لم يذكروا شيئاً عن اعتقاله وترحيله إلى الصين”.

فيما دان محمد تاهتي مدير اللجنة القانونية لمؤتمر الإيغور العالمي الترحيل القسري لأبو الهاشم تورسون إلى الصين، متهماً طهران بانتهاك الاتفاقيات الدولية، مشيراً إلى تحركات “اللجنة القانونية” التي يرأسها لدى المنظمات الدولية المعنية بالشأن الحقوقي. وتابع: “من المستحيل أنهم لم يعرفوا أنه من الإيغور المسلمين، لقد أجروا الكثير من التحقيقات وجمعوا الكثير من المعلومات.”

الصمت مقابل المصالح الاقتصادية

قبل أعوام قليلة، كانت مسألة دفاع طهران عن الانتهاكات التي تنفذها الصين ضد مسلمي الإيغور محل تلاسن بين المسؤولين والنخبة السياسية في طهران، وقد غرد العضو البرلماني علي مطهري، ضد انحيازات بلاده للصين، وفضح صمتها نتيجة المصالح الاقتصادية، ووصف هذا الصمت بـ”المهين”، وفي المقابل، شن الأصوليون ضده هجمات عنيفة وصلت حد توصيفه بأنه “معاق ذهنياً” على حد تعبير النائب محمود أحمدي بيغاش.

ووصل التلاسن إلى حدود أبعد من مجرد التحرش اللفظي، حيث خاض المتشددون صراعاً له سياق إقليمي، لكنه يكشف عن المصالح والتناقضات. فألمح مهدي حسن زاده، في صحيفة “خراسان” المحسوبة على التيار الأصولي بأن الصين أزماتها فقط مع “الوهابيين التكفيريين المدعومين من المملكة العربية السعودية” والتي تسعى للترويج لهذا الفكر برأيها في المقاطعة التي يسكنها الإيغور، حسب زعمها.

يمثل صعود إبراهيم رئيسي لأعلى هرم السلطة التنفيذية الإيرانية تجسيداً للتنازع السياسي الداخلي حول نفوذ الصين المتنامي في إيران.

وقد دعا رئيسي عدة مرات خلال حملته الانتخابية إلى “التوجه شرقاً” تجاه الصين لإعادة إنعاش الاقتصاد. وتنبع نظرية “الاتجاه شرقاً” من عدم ثقة المعسكر المناصر لرئيسي في الولايات المتحدة وأوروبا.

وينطلق المتشددون، في رؤيتهم للصين، على أساس التضامن “الحضاري” وتصورهم لبكين على أنها “شريك استراتيجي طبيعي”، وفق “مركز الإمارات للسياسات“، وذلك باعتبارها نظاماً مركزياً ديكتاتورياً متسقاً مع ثقافة الحكم في إيران. ويعتقد المعسكر المتشدد أن الصين هي القوة الاقتصادية غير الغربية الوحيدة القادرة على تقديم بديل اقتصادي فعال ومستدام بالنسبة لإيران. وإلى جانب ذلك، يقدر هذا المعسكر وقوف الصين مع إيران خلال مفاوضات الاتفاق النووي، رغم موافقة بكين على معظم العقوبات الصادرة في مجلس الأمن، وامتثال الشركات الصينية في أغلب الأحيان للعقوبات الأميركية.

يمثل صعود إبراهيم رئيسي لأعلى هرم السلطة التنفيذية الإيرانية تجسيداً للتنازع السياسي الداخلي حول نفوذ الصين المتنامي في إيران- “الصورة من الإنترنت”

لكن، على الجانب الآخر، يتعامل المعتدلون والإصلاحيون مع الصين من منطلق مقاربة براغماتية للغاية، وينظرون إلى علاقات بلادهم مع بكين بوصفها مكملاً لروابط واسعة مع العالم خارج إطار عزلة إيران الدولية، وضمن الحاجة إلى تنويع شراكات إيران بين الشرق (الصين وروسيا) والغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، بحسب “مركز الإمارات للسياسات”.

ويردف: “فوق ذلك، ينظر الإصلاحيون بريبة إلى زيادة اعتماد إيران على الصين، المتمثلة في نظرية “التوجه شرقاً” التي دعا إليها رئيسي، من منطلق معارضة الصين لأي تحول ديمقراطي في إيران، ودعم النظام الثيوقراطي الحاكم. فعلى سبيل المثال، خلال مظاهرات الحركة الخضراء عام 2009، قابل المتظاهرون المعترضون على نتائج الانتخابات هتافات المتشددين “الموت لأميركا” بهتافات مقابلة “الموت للصين” التي اتهموها بتزويد النظام بأدوات قمع التظاهرات والتجسس على المعارضين”.

لكن مشاعر المعارضة لتعاظم نفوذ الصين امتدت أيضاً إلى المعسكر الداعم لرئيسي من خلال قضيتين، كما يشير “مركز الإمارات للسياسات”، أولهما “سياسات الصين في قمع مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ”، وثانيتهما “اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة على مدى 25 عاماً الموقع أخيراً.

وقاد رجال دين نافذون موجة انتقاد الصين للتعامل مع أقلية الإيغور في السابق، منهم آية الله يوسف صانعي، الزعيم الروحي للحركة الإصلاحية وأحد أشد المعارضين السابقين للرئيس محمود أحمد نجاد. لكن أيضاً هذا الانتقاد شمل آية الله مكرم شيرازي وآية الله نوري هميداني، وهما من أشد رجال الدين الداعمين للنظام”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة