في ظل الانتهاكات المتواصلة والاعتداءات المتكررة العدوانية و”الممنهجة” التي تنفذها تركيا ووكلائها المحليين ضد عفرين، فإن هذه الحوادث التي تجري بحق المدنيين، وهي “جرائم حرب” بتوصيف المنظمات الحقوقية المحلية والأجنبية، التي وثقت تفاصيل وملابسات عديدة بهذا الشأن، كانت، حتماً، ستقود إلى محاكمة جنائية.

فعملية التغيير الديمغرافي والتهجير القسري في المناطق الكُردية بشمال غربي سويا، وكذا سرقة محصول الزيتون، فضلاً عن الاعتقالات العشوائية والخروقات الحقوقية التي تطاول كل كُردي لاعتبارات قومية وهوياتية، مثلما جرى بحق شابين تم قتلهما بينما لا يتجاوز عمرهما عشرين ربيعاً لمجرد الغناء بالكُردية، هي إجراءات عنصرية وتفضح نظام “أبارتهيد” وعنصري ينفجر توحشاً من أحقاده القومية. 

وتعد هذه الانتهاكات الموثقة بالمنظمات الأممية مثل “هيومان رايتش ووتش” أو “العفو الدولية” جرائم بالمعنى القانوني والتي تحتاج لمسائلة أطرافها والمتورطين فيها بل والذين وفروا حماية لحدوثها من دون عقاب للوصول إلى “العدالة” بالمعنى السياسي والقانوني والحقوقي.

مدينة عفرين ذات الأغلبية الكُردية والتي تقع شمال غربي سوريا، يصادف يوم غد السبت 20 كانون الثاني/ يناير، مرور ست أعوام على اجتياحها من قبل القوات التركية مع فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة منها.

هذا الاجتياح نفذ تحت مسمى “عملية غصن الزيتون” وبذريعة تركية تكررها منذ سنوات، وهي أنها تقاتل لأجل “حماية أمنها القومي” وملاحقة “الإرهابيين”. لكن وبعد 58 يوماً من المعارك، تسببت هذه العملية الوحشية في نزوح الآلاف من السكان الأصليين للمنطقة الكُردية، إضافة إلى آلاف الضحايا، حيث تعرضت منازل وممتلكات سكان عفرين لعمليات سرقة ونهب كبيرة، كما تعرض من بقي في المنطقة لانتهاكات شبه يومية، ترقى لمستوى “جرائم حرب”، بحسب تقارير حقوقية.

ونظراً لأن هذه التجاوزات مستمرة، والجرائم بحق السكان لم يتم الوقوف عليها من قبل المنظمات الحقوقية الدولية بشكل حازم أو المحاكم الدولية، قدم كل من “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، وسوريون من أجل الحقيقة والعدالة (STJ)”، وشركاؤهما شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني للتحقيق في الجرائم الدولية في عفرين شمال غربي سوريا، إذ تأتي هذه الشكوى للتصدي للجرائم التي ترتكب بعفرين.

لكن لا بد أن نتساءل هنا عن أسباب رفع المنظمات الحقوقية هذه الدعوى، وتوقيتها، والنتائج المتوقعة لهذه الخطوة، وهل ستكون رادعاً للجانب التركي وفصائل المعارضة السورية المتحالفة معه.

شكوى عن الجرائم المرتكبة بعفرين

وبحسب ما ورد في نص البيان الصحفي للمنظمات الحقوقية التي قدمت الشكوى الجنائية لمكتب المدعي العام الاتحادي الألماني للتحقيق في الجرائم الدولية بعفرين، فإن هذا المكتب الألماني يحقق منذ عام 2011 في العديد من جرائم حقوق الإنسان المرتكبة في سوريا، حيث كانت المحاكمة بشأن التعذيب الذي تمارسه الدولة السورية أمام محكمة كوبلنز الإقليمية العليا خطوة رائدة.

Turkish-backed Syrian Arab fighters man a checkpoint in the Kurdish-majority city of Afrin in northwestern Syria after seizing control of it from Kurdish People’s Protection Units (YPG) on March 18, 2018. Turkish-backed rebels have seized the centre of Afrin city in northern Syria, Ankara said, as they made rapid gains in their campaign against Kurdish forces. A civilian inside Afrin said that rebels had deployed in the city centre and that the YPG militia had withdrawn. / AFP PHOTO / OMAR HAJ KADOUR

وقبل ست سنوات، في 19 كانون الثاني/ يناير 2018، بدأت تركيا والفصائل المسلحة المتحالفة مع “الجيش الوطني السوري” المدعومة من أنقرة، قصف منطقة عفرين كجزء من عملية “غصن الزيتون” العسكرية. وأدى هذا الهجوم لنزوح أكثر من ثلاثمائة ألف من المدنيين، معظمهم من الأكراد. وبدعم من تركيا، “أقامت الميليشيات المسلحة حكماً تعسفياً مستمراً حتى يومنا هذا”، وفقاً للبيان الصحفي الصادر عن المنظمات الحقوقية.

على الرغم من أن مكتب المدعي العام الاتحادي يحقق في العديد من جرائم حقوق الإنسان المرتكبة في سوريا، إلا أن الفظائع التي ارتكبتها فصائل إسلاموية ضد السكان الأكراد في شمالي سوريا كانت حتى الآن نقطة عمياء في هذه التحقيقات، بحسب باتريك كروكر، المسؤول عن عمل المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان حول سوريا. ويضيف أن هذا الأمر يجب أن يتغير، إذ أسست الفصائل (الميليشيات) الحاكمة في عفرين حقبة من العنف والانتهاكات والتعسف بدعم تركي.

وفي حديثها لـ”الحل نت” تقول سيماف حسن مسؤولة المناصرة والتواصل في منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” وهي إحدى الجهات المشتركة في تقديم دعوى جنائية للقضاء الألماني بهذا الخصوص، إنه حتى الآن كانت جرائم فصائل الجيش الوطني بحق سكان عفرين تمر بدون عقاب، وعلى مدار 6 أعوام من مراقبة العالم لهذه المنطقة تتحول لساحة تُرتكب فيها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بعلم تركي.

فيما كان من الضروري التعاون والعمل مع الناجين من هذه الجرائم لبناء شكوى بهدف تسليط الضوء على هذه الجرائم التي لم تكن موضوع التحقيق في أية دعاوى سابقة رُفعت أمام المحاكم الأوربية، وفق حسن. وأيضاً ساعدت الكمية الكبيرة من الأدلة والتوثيقات على البدء بهذه الشكوى الجنائية.

ما النتائج المتوقعة؟

عبر هذه الشكوى، قدمنا في “STJ” و”ECCHR” الأدلة اللازمة لبدء تحقيق هيكلي في الجرائم الدولية المرتكبة في عفرين، تقول مسؤولة التواصل بالمنظمة الحقوقية، وحول النتائج المأمولة توضح: “أن يتم البدء بالتحقيق، هذه الخطوة ستمهد الطريق أمام اللجوء إلى القضاء الدولي في سياقات أخرى مشابهة، إذ تم رفع دعاوى على شخصيات من الحكومة السورية متورطة في جرائم حرب وتم إصدار أحكام بحقهم أيضاً بالاستناد إلى الولاية القضائية العالمية، ومن الضروري البدء بمحاكمات مشابهة في الجرائم التي تحصل في المناطق التي تسيطر عليها فصائل الجيش الوطني التابع لتركيا”.

وفي المحصلة، الهدف الأساسي للدعوى، والحديث للمصدر ذاته، هو إنصاف الضحايا ومحاسبة المنتهكين وتقديمهم لمحاكمات عادلة، ونتمنى أن تكون رادعة بطبيعة الحال، وأيضاً وسيلة لإخبار العالم بجرائم فصائل المعارضة السورية المسلحة في شمال غرب البلاد ضد الكُرد بسوريا.

في المقابل، يرى الحقوقيون أن مثل هذه الدعاوى تفتح الطريق أمام كافة الدول الغربية، لملاحقة مرتكبي الجرائم والانتهاكات في سوريا، سواء في مناطق فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا أو ضد الآلة القمعية التي مارستها الحكومة السورية ضد الشعب السوري على مدار السنوات السابقة. 

تعد الدعوى القضائية محاولة لرسم أفق جديد، يعني أن الجرائم والتوحش ضد الكُرد سواء من جانب تركيا أو الفصائل المحلية المسلحة التابعة لها يتعين ألا تمر دون مسائلة أو عقاب.

كما تعد هذه الشكاوى الجنائية خطوة لتضييق الخناق على المتّهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، ولا سيما في عفرين، نظراً لأن العديد من التقارير الأممية أدانوا ووثقوا الانتهاكات والتجاوزات التي حصلت في عفرين على يد ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” المدعومة من أنقرة، وقد وصف تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا التابع للأمم المتحدة، وجاء في حوالي 29 صفحة، النهب وتدمير الممتلكات، ومنها الممتلكات الثقافية والتراثية والدينية بأنها “جرائم حرب”. وكان الاستهداف، بشكل عام، يخص الأكراد، وفقط، مؤكداً أن الجانب التركي كان على دراية تامة بكل ما يحدث من ممارسات وخروقات.

وبحسب التقرير الأممي، فإن ثمة حالات ابتزاز وعنف جنسي وإرغام المواطنين على دفع ضريبة على المحاصيل الزراعية مقابل البقاء في المنزل، وبالتالي فإن كل ذلك يعتبر جرائم بحق سكان عفرين، ويفتح الطريق أمام منظمات حقوق الإنسان والناجين والناجين لتقديم شكاوى جنائية ضد الجناة.

إذاً، تعد الدعوى القضائية محاولة لرسم أفق جديد، يعني أن الجرائم والتوحش ضد الكُرد سواء من جانب تركيا أو الفصائل المحلية المسلحة التابعة لها يتعين ألا تمر دون مسائلة أو عقاب وتوصيف قانوني يلازمها وينضم لسجلها التاريخي الذي يحفل باعتداءات ضد الإنسانية والقانون الدولي، بداية من الأرمن مروراً بالكُرد وحتى خصوم النظام الحالي الذي يبعث بالعثمانية الجديدة وينضوي داخل حيز التشدد القومي كما يصطف مع قوى الإسلام السياسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات