تكاد الأوضاع في شمال غرب سوريا، تحديداً المناطق الخاضعة لسيطرة ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، أن تتجاوز مشهدها الإنساني والحقوقي الصعب، بفعل الممارسات العدوانية بحق الأكراد، وتهجيرهم من منازلهم، وتوطين آخرين بعضهم نازح من مناطق مختلفة، والبعض الآخر من الوافدين الجدد، برعاية القوات التركية، كالتركمان. 

وهذه الانزيحات السكانية مع سرقة الموارد، ونهب الممتلكات، تشكل ضغوطات عملية لتحقيق سياسة التغيير الديمغرافي كما تطمح لها أنقرة برؤيتها الراديكالية، وسياسة “العثمانية الجديدة” التي تتبنى مقاربة عنيفة بحق المكون الكردي، وحقوقه التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية. 

تركيا والعثمانية الجديدة

انبعاث سياسة “العثمانية الجديدة” التي تؤطر علاقات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، البراغماتية مع قوى الإسلام السياسي السني والتيارات القومية المتشددة، يكشف عن مضامين ومدى تحركاته الخارجية بمحيطه الجيوسياسي والإقليمي الذي يحقق فيه نفوذه. 

لم تكن مصادفة أن تبدأ حملات أردوغان الأمنية والعسكرية في شمال سوريا، وشن “حروب إبادة” بتعبير تقارير المنظمات الأممية، مع موسم حصاد الزيتون. إذ كانت ترافق الانتهاكات العديدة بحق البشر سرقة أشجار الزيتون في مناطق كردية عديدة، مثل عفرين، بحسب مصادر عديدة محلية وتركية وحتى غربية. وقد سبق لنائب بالبرلمان السويدي، برنارد غول، أن اتهم أنقرة بنهب حقول الزيتون وبيع الزيت المستخرج منه في الاتحاد الأوروبي على أنه “تركي”. سياسة النهب والارتزاق التركية، والتي تفضح بوسائلها المافياوية كراهية وأحقاد تاريخية، تؤشر إلى نمط من الاستغلال واللصوصية بدلاً من أي أفق للتسوية والحل.

لذا، فإن اشتهاء الرئيس التركي القتل والتدمير على أساس هوياتي، بما يجعله يواصل عملياته الأمنية بقوة السلاح والميلشيا، تبدو ضرورة استراتيجية وتمضي في حالاتها القصوى. وقد نفذ الرئيس التركي ثلاث عمليات عسكرية برية في شمال سوريا: “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”. 

ومثلما لا تبدو توقيتات العمليات المتزامنة مع موسم الزيتون أمراً عرضياً إنما مخططاً له، فإن انعطافة تركيا، كما في عشرية “الربيع العربي”، نحو توظيف الإسلام السياسي في إدارة ملفاتها الإقليمية وحروبها الخارجية، تبدو، هي الأخرى، متعمدة، ولها أهداف استراتيجية محددة. وإلى جانب الاعتماد على التنظيمات الإسلاموية من الناحية الحركية، تبرز دعاوى وخطابات الرئيس التركي السياسية التي تحمل إشارات دينية تحريضية ضد الأكراد كما غيرهم من المعارضين، كما هو الحال مع توصيفه لحزب الشعوب الديمقراطي في تركيا بأنهم “أتباع زرادشت” و”ملحدون”. وتديين الخطاب السياسي التركي أو بالأحرى “الأردوغاني” لم يعد خافياً أو مستتراً، بل حقيقة تتماثل مع سياسات “العثمانية الجديدة” التي يروج لها.

أسلمة الخطاب “الأردوغاني”

ومحاولات “أسلمة” الخطاب السياسي لبعث درجة استقطاب بين القوى المحلية في تركيا، وتجييش مشاعر دينية وقومية من خلال استعادة أحلام “الكومنولث العثماني” المتوهمة، برز من خلال توجيه رئاسة الشئون الدينية التركية أئمة المساجد بتلاوة سورة “الفتح” مع حروب أردوغان بشمال سوريا، وكأنما حروبه “مقدسة” يقودها “فرسان الحق الإلهي”، بينما الطرف الآخر المعتدَى عليه هم بالتبعية “طواغيت” بالمعنى التراثي أو “ملحدين”، الأمر الذي قاد، في النهاية، لجرائم قروسطية متوحشة تماثل ما نفذه تنظيم “داعش” كما هو الحال مع التمثيل بجثة الشابة الكردية بارين كوباني. 

فيما اعتبر المجلس الإسلامي السوري، مقره تركيا، في فتوى أصدرها مع عملية “نبع السلام”، أن هذه الحرب ضد القوات الكردية تعني “الجهاد في سبيل الله، وهؤلاء أصحاب فتنة للناس في دينهم ودنياهم، لا فرق بينهم وبين قتال النظام السوري”. وتبعاً لذلك، منح هؤلاء الرئيس التركي بطاقة شرعية مزورة، بأن قواته هم “المجاهدون” وحربه ليس فيها “مانع شرعي”. ظل الرئيس التركي يقف على أطرافه يردد نداء “الجهاد” المزعوم ويحتمي بالدين باعتباره سلاحاً أيدولوجياً ونظرياً يخفي به عداءه التاريخي للأكراد، ويبرر أو يخفف من وطأة الجرائم التي يحفل بها سجله الحقوقي، فضلاً عن مصالحه السياسية والإقليمية في الحرب والعدوان بسوريا. 

حجج الرئيس التركي، بالتزامن مع حملاته العسكرية، كانت “حماية الأمن القومي” وملاحقة “الإرهابيين”. وتبدو الصفة الأخيرة التي يطلقها الرئيس التركي، ولها حمولة سياسية مباشرة يقصد بها طرف حزبي بعينه، مراوغة، متكررة وتقليدية، للتعمية على توحش عناصره وقواته المتورطين في تصفية المدنيين، منهم الأطفال والنساء، والتشويش على دور فصائل إسلاموية مسلحة في الاضطهاد القومي، والممارسات العدوانية، والإبادة والتهجير، وتعميم قيم متشددة بمرجعية دينية.

تتخطى مخاطر الهجمات التركية في المناطق الكردية بشمال سوريا حدود وأفق التهجير والتغيير الديمغرافي. وذلك في ظل محاولات محمومة لنشر ثقافة اجتماعية ودينية مغايرة للأنماط التقليدية للبيئة التي تبدو متنوعة هوياتياً وعرقياً وقومياً، بينما تتوخى فرض القيم والممارسات المتشددة قسراً من خلال العنف الرمزي والإبادة الناعمة.

وكان “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، قد اتهم في أحد تقاريره إبان عملية “نبع السلام” القوات التركية والفصائل الموالية لها، في عفرين، بارتكاب “الانتهاكات” ضد أبناء المنطقة، في “مسعى لإجبارهم على الرحيل من منازلهم وأراضيهم”.

التغيير الديمغرافي في شمال سوريا

إذاً، تتخطى مخاطر الهجمات التركية في المناطق الكردية بشمال سوريا حدود وأفق التهجير والتغيير الديمغرافي. وذلك في ظل محاولات محمومة لنشر ثقافة اجتماعية ودينية مغايرة للأنماط التقليدية للبيئة التي تبدو متنوعة هوياتياً وعرقياً وقومياً، بينما تتوخى فرض القيم والممارسات المتشددة قسراً من خلال العنف الرمزي والإبادة الناعمة. وذلك جنباً إلى جنب مع السلاح الذي يفتك بالأجساد.

ومن بين تلك المخاطر، هي الاعتماد على مكونات من خارج الحيز الاجتماعي، وتوطينها بالمناطق التي تخضع لنفوذ القوات التركية بشمال سوريا، بهدف شلّ أي حراك أو مقاومة. 

ومن خلال هذه المكونات، تضحى مهمتها تعطيل ومحو الذاكرة الثقافية والتاريخية للمكان، وإلغاء هويته. ومن ثم تتولد تلقائياً ذاكرة جديدة بأجساد مشوهة ومنبوذة تسعى إلى مقاومة الوجود الاجتماعي التاريخي الذي يرفض بقاءها ويطالب بعزلها. 

وهذا تحديداً ما يحدث بفعل الاعتماد على القوى الإسلامية المسلحة التي يتشكل منها ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” بخلفياتها القومية المؤدلجة والمسيسة. فيما لا تبدو عمليات استهداف مراهقين لمجرد الاحتفال بعيد النورز أو الغناء باللغة الكردية حوادث عرضية واستثنائية، إنما هي جرائم ممنهجة ومقصودة لنشر الخوف والرعب، واعتبار الحيز والفضاء الاجتماعي الكردي ملغماً، ودائرة محتملة للقتل والتصفية لمجرد كرديته وليس لأي شيء آخر.

شهادات على جرائم تركيا وفصائلها بسوريا

وفق شهادات عديدة، تمكن كاتب هذه السطور من الحصول عليها أثناء إعداد المادة من أهالي عفرين ومناطق أخرى تقع تحت قبضة القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري”، فإن سيرة العدوان على ممتلكات وثروات المدنيين الكرد لا تخفت أو تهدأ. وفي إحدى الشهادات، والتي نتحفظ على ذكر هوية الأشخاص، توثق ضلوع فصيل “العمشات” عام 2018 بعد عملية “غصن الزيتون” بسرقة منزل عائلة صاحب الشهادة، وبعدها سرقة منزل شخص آخر من العائلة ذاتها بواسطة فصيل أو لواء ما يعرف بـ”الوقاص”. 

صورة خاصة بمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” تُظهر أشجاراً مقطوعة بشكل جائر في “أحراش دير صوان” في ناحية عفرين بمنطقة “شران” والتي يسيطر عليها مجموعات مسلّحة من الفيلق الثالث التابع للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا. تاريخ التقاط الصورة تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

تتماثل الشهادات في تفاصيل عديدة، مثل سرقة أشجار الزيتون، وقد ذكرت إحدى الشهادات نهب حوالي 1800 شجرة. في حين أن شهادات أخرى اتهمت الفصائل بمساومة أصحاب المنازل بالعودة إليها مقابل مبالغ مالية بنحو ألفي دولار أميركي. 

ومن بين الشهادات، كان الوضع أكثر مأساوية في إحداها. وذلك في ظل ظروف الأب الثمانيني الذي اضطر للهرب من القصف والتخوف من الاعتقال، ونزح إلى منطقة الشهباء ليجد نفسه أمام مآلات صعبة لا تقل تعقيداً وألماً عن الذي هرب منه. فيقع تحت نفوذ تلك الفصائل ويتعرض للتنكيل والأذى من دون أن يسرد تفاصيل أكثر. وفي شهادة أخيرة لأحد شيوخ الإيزيديين يروي ما تعرض له منزله بعد التهجير من نهب محتوياته وسرقة ممتلكاته ومنها أشجار الزيتون التي قام بزراعتها.

يحفل سجل “الجيش الوطني السوري” بالكثير من المخالفات، والعديد من الانتهاكات التي تم توثيقها من المنظمات والمؤسسات الحقوقية، بما فيها المؤسسات المعارضة لـ”النظام السوري”، كما يقول المحلل والصحفي السوري عقيل حسين.

أما بخصوص الحديث عن تغيير ديموغرافي، فإن المحلل السياسي والصحفي السوري يرى بأن هذه الحوادث “ليس موثقة”، وفق حديثه لـ”الحل نت”.

لكن بمراجعة تقارير عديدة أممية، منها تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا التابع للأمم المتحدة، وجاء في حوالي 29 صفحة، قد وثق حالات ممنهجة لسرقة ونهب الممتلكات وتهجير الأكراد من منازلهم، فضلاً عن “احتلال مقاتلي الجيش الوطني السوري وعائلاتهم للمنازل بعد فرار المدنيين، وإجبار السكان وأغلبهم من الأكراد على ترك المنازل من خلال التهديد أو الابتزاز والقتل والاختطاف والتعذيب والاحتجاز”. 

وقال التقرير الأممي، إن هناك حالات ابتزاز وعنف جنسي وإرغام المواطنين على دفع ضريبة على المحاصيل الزراعية مقابل البقاء في المنزل. فيما ذكر أن هناك منزل كردي استولى عليه فصيل “الحمزات”، ثم حولوه إلى معهد للدراسات القرآنية تديره منظمة تركية غير حكومية اسمها: “هيئة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية”. يضاف لذلك، استخدام القوات البرية التركية منازل أخرى للمدنيين في قرية الداودية لأغراض عسكرية. 

إدانة محلية وأممية لأنقرة

ووصف التقرير النهب وتدمير الممتلكات، ومنها الممتلكات الثقافية والتراثية والدينية بأنها “جرائم حرب”. وكان الاستهداف، بشكل عام، يخص الأكراد، وفقط، مؤكداً أن الجانب التركي كان على دراية تامة بكل ما يحدث من ممارسات وخروقات.  

وقد نجم عن ذلك، نزوح أكثر من نصف سكان مدينة عفرين المتسبب في “إحداث تغيير ديمغرافي” بالمنطقة، وفق تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة، والذي قال إن “الأكراد يتخوفون من العودة لبيوتهم خشية تطهير عرقي بحقهم، تمارسه أنقرة وحلفاؤها من مقاتلي المعارضة المسلحة”.

بل إن البرلمان الأوروبي، في النصف الأول لعام 2021، سبق ووصف وضع تركيا العسكري في شمال سوريا بـ “الاحتلال”، وذلك بالتزامن مع تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية، عنى باستخدام الوصف ذاته، بينما ألمح لوجود عشرات السوريين في السجون التركية، فضلاً عن نقل عشرات منهم لتركيا، قسراً، بغرض خضوعهم لمحاكمات تكون نهايتها السجن لمدد طويلة والمؤبد. وطالبت المنظمة الحقوقية المعنية بحقوق الإنسان، تركيا أن تلتزم كـ”سلطة احتلال” ببنود اتفاقية جنيف الرابعة.

فيما سبق للمرصد السوري لحقوق الإنسان، أن اعتبر الانتهاكات التي تقوم بها الفصائل بمثابة وسائط عنف لتنفيذ “مخطط لعملية تغيير ديمغرافي في المنطقة”. ونقل في أحد تقاريره عن مصادر وصفها بـ”الموثوقة” أن هناك “مخطط تركي يسعى في الفترة الراهنة إلى إجبار أهالي عفرين على الرحيل بالكامل ومنع عودتهم إليها ومنع عودة المهجرين من أبنائها بأمر مباشر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”. وذكر المرصد الحقوقي، مقره لندن، أن الفصائل الموالية لتركيا “ترتكب إرهاباً يومياً وجرائم حرب بحق المدنيين في عفرين”. ويتفق المرصد مع التقرير الأممي بأن تلك الخروقات الحقوقية “تأتي بإيعاز من الاستخبارات التركية لإجبار من تبقى من سكان المنطقة على الرحيل”.

ورغم “النفي التركي المتكرر لمحاولات إجراء عملية تغيير ديمغرافي في المنطقة”، وفق المرصد الحقوقي، بيد أن “الانتهاكات التي تجري على مسمع ومرأى من الرئيس التركي واستخباراته وبإشراف مباشر منهما، تثبت عملية التغيير الديمغرافي الممنهجة التي تنفذها تركيا والفصائل الموالية لها في عفرين، بهدف إحلال سكان جدد موالين لأنقرة بدلاً من السكان الأكراد الأصليين”. وتابع: “عملية التغيير الديمغرافي تهدد التركيبة السكانية في الأراضي السورية وتؤثر على سكان وأهالي المناطق التي تتعرض لتلك الانتهاكات بالأمر المباشر من الرئيس التركي واستخباراته”.

تقرير حقوقي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقية والعدالة”، بعنوان “التجمعات السكنية” في عفرين: مخططات هندسة ديمغرافية أم مشاريع لإيواء نازحين؟
والصور مأخوذة بواسطة الأقمار الاصطناعية تُظهر قرية “كويت الرحمة” التي تمّ بناؤها كجزء من “التجمّع السكني” الذي تمّ بناؤه على سفح “جبل الأحلام”.

ووفق الأمم المتحدة، فإن نصف سكان المنطقة بعد هجوم تركيا عام 2019 بشمال غرب سوريا، وعددهم يبلغ قرابة 320 ألف، فروا خلال الهجوم التركي الذي شهد أعمال نهب. 

ومن جانبها، قالت “منظمة العفو الدولية”، إن القوات التركية، والفصائل التابعة لها “ارتكبت انتهاكات جسيمة وجرائم حرب، بما في ذلك القتل العمد، والهجمات غير القانونية التي قتلت وجرحت مدنيين. وذلك خلال الهجوم الأخير على شمال وشرق سوريا”. وقال كومي نايدو، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية: “أدى الهجوم العسكري التركي على شمال وشرق سوريا إلى تدمير حياة المدنيين السوريين الذين أجبروا، مرة أخرى، على الفرار من ديارهم، والعيش في خوف دائم من القصف العشوائي وعمليات الاختطاف، وأعمال القتل الميداني”، مشيراً إلى أن “القوات العسكرية التركية وحلفاءها أبدوا ازدراءً صارخاً لأرواح المدنيين، وشنوا هجمات مميتة غير مشروعة في المناطق السكنية قتلت وجرحت مدنيين”.

واتفقت التقارير كافة مثل “العفو الدولية” على أن تركيا “مسؤولة عما تقوم به الجماعات المسلحة السورية التي تدعمها وتسلحها وتوجهها. فحتى الآن، منحت تركيا هذه الجماعات المسلحة حرية ارتكاب انتهاكات جسيمة في عفرين، وفي أماكن أخرى، عمليات اختطاف ونهب”.

بالعودة للصحفي السوري، عقيل حسين، فيقول إن “واشنطن أدرجت بعض قادة التشكيلات التابعة للجيش الوطني السوري على قوائم العقوبات، بسبب الانتهاكات والمخالفات الحقوقية. لكن الإدارة الأميركية أشارت في قرارها إلى أنه يجب على هذه الشخصيات إصلاح سجلها في هذا الخصوص”. 

التنكيل بالمكون الكردي

في حديثه لـ”الحل نت” يشير الكاتب الكردي السوري، شيار خليل، والذي يتحدر من عفرين الواقعة تحت الهيمنة التركية والفصائل التابعة لها، إلى أن فصائل “الجيش الوطني السوري” لا تتمهل لحظة في التنكيل بالمكون الكردي. وهي مهمتها “السياسية المباشرة ودورها الوظيفي، حيث تقوم بدور الشرطي للجانب التركي. ولا يحتاج الأمر لحيل ومراوغات كثيرة لإخفاء الحقائق التي تبدو واضحة، وتملأ المشهد السياسي بسوريا. فهناك مخطط كردي لإنشاء منطقة آمنة، وهناك سياسة تركية تهدف إلى عودة قسرية للاجئين بعد أن حقق الرئيس التركي أو بالأحرى استنفذ أغراضه من وجودهم عبر ابتزاز الاتحاد الأوروبي والضغط عليه والحصول على مكتسبات مادية مثله مثل تجار الأزمات وأغنياء الحروب”.

وباشر “الجيش الوطني السوري”، المدعوم من تركيا، والذي يتشكل من فصائل إسلامية وجهادية متشددة، منها “فيلق الشام”، “جيش المجاهدين”، “أحفاد الرسول”، “لواء التوحيد”، وكذا ميلشيات تركمانية تحمل أسماء سلاطين الخلافة (سقطت عام 1924) التي انتهت إلى “رجل أوروبا المريض” مثل: “لواء السلطان مراد”، “حركة نور الدين الزنكي”، في تنفيذ ممارسات عدائية تبدأ بالنهب والسرقة. فضلاً عن تغييرات ثقافية ودينية منها فرض الحجاب واللغة العربية. يقول شيار خليل.

من الملاحظ “وجود سياسات تعليمية تميل في كافة جوانبها إلى ثقافة منبتة الصلة عن الطبيعة المحلية للمكان، مثل نشر اللغة العربية وحظر استخدام اللغة الكردية، والأمر ذاته في منع الاحتفالات القومية كالنوروز، إلى جانب التشدد في الجوانب الدينية وفرض الحجاب قسراً، وتداول حتى اللغة التركية كلغة ثانية بعد العربية، وتخريب الآثار الدينية للإيزيديين وغيرهم”.

يتفق والرأي ذاته، الباحث والأكاديمي المصري المختص في العلوم السياسية، الدكتور عبد السلام القصاص، والذي يقول إن عملية التغيير الديمغرافي في شمال سوريا بواسطة تركيا يمثل أحد الأهداف التي يمكن الكشف عنها من خلال التكتيكات والتحولات في موقف أردوغان من الأزمة السورية، لافتاً في حديثه لـ”الحل نت” إلى أن المنطقة العازلة والمتاخمة للحدود التركية السورية تقع ضمن أهداف التغيير الديمغرافي والإدارة الأمنية للملف الكردي. واستمرار أردوغان في شن هجماته العسكرية البرية على المناطق الكردية بموافقة روسية ومن الحكومة في دمشق، كشف عن ميل حاد في تغيير استراتيجي للخصائص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يحقق أولويات النظام في أنقرة.

ويؤكد القصاص أن النظام في تركيا يواصل سياساته على أكثر من مستوى، فهو قد ضم مناطق مثل إدلب إلى دائرته الأمنية وهي تحت رعاية أحد قادة الجهاديين أبو محمد الجولاني وتنظيمه “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً: فرع تنظيم القاعدة بسوريا”، في حين تدير قواته وعناصر محلية متشددة الوضع في المناطق التي تقع تحت نفوذها. ومن الملاحظ “وجود سياسات تعليمية تميل في كافة جوانبها إلى ثقافة منبتة الصلة عن الطبيعة المحلية للمكان، مثل نشر اللغة العربية وحظر استخدام اللغة الكردية، والأمر ذاته في منع الاحتفالات القومية كالنوروز، إلى جانب التشدد في الجوانب الدينية وفرض الحجاب قسراً، وتداول حتى اللغة التركية كلغة ثانية بعد العربية، وتخريب الآثار الدينية للإيزيديين وغيرهم، وهي كلها ممارسات مشبوهة لإحداث ثقوب بهدف تفريغ المنطقة من هويتها التاريخية”.

سياسة تدميرية والنهب الثقافي

وألمح الباحث والأكاديمي المصري المختص في الشأن السياسي إلى أن “التغيير الثقافي والمجتمعي، يكمل الهدف ذاته الذي تحققه الوسائل القمعية مثل القتل أو الاعتقال العشوائي وكذا التهجير وتوطين فئات أخرى. لكن رغم محاولات النفي التركية بشأن عدم وجود نوايا بخصوص التغيير الديمغرافي، وشحّ المعلومات أحياناً على خلفية وسائل الجانب التركي، ووكلائه، في إخفاء وتزوير الحقائق كما التاريخ، إلا أن نظرة سريعة على التغييرات العملية، والسياسات التي تجري ميدانياً، أو في البنية التحتية من أنماط ووسائل الإنتاج، والتركيبة الطبقية والسكانية، فضلاً عن البنية المجتمعية والثقافية، بما فيها من فنون ولغة وهوية وتراث وحتى الملبس، تؤكد رغبة في إحداث تغيير ديمغرافي حتى لو كان بعيد المدى”. كما لا يمكن النظر إلى بطاقات الهوية الجديدة التي قامت بها فصائل “الجيش الوطني السوري” والحكومة المؤقتة المقيمة في تركيا بمعزل عن هذا السياق الذي يؤكد النتيجة ذاتها.

وهنا، يشير المصدر ذاته إلى أن تركيا كما إيران تملك أجندة “سياسية” و”أيدولوجية” في البلدان التي تمارس فيها نفوذها الإقليمي، فالأولى تعمل على “تتريك” البلدان حولها، بينما تتولى الأخيرة عملية “تفريس” المناطق التي تبعث إليها ميلشياتها الولائية. وكل منهما يحمل إطاره السياسي الذي يهدف من خلاله تقويض الاستقرار الاجتماعي، وعزل المكونات الاجتماعية عن أصولها وإعادة تنميطهم بوسائل مختلفة بـ”القمع” أو “الإغراء”. 

ومثلما تقوم طهران بنشر ثقافة طائفية ومذهبية شيعية إثني عشرية تكون حاضنة لها من الناحية السياسية لتشكيل “إرهابيين” جدد، وتعبئتهم في تنظيماتها المسلحة ضمن ما يعرف بـ”الهلال الشيعي”، واللعب على وتر المظلومية الشيعية وترويج مبادئ “حماية المستضعفين” و”تصدير الثورة”، فإن تركيا تؤدي الأمر ذاته وتروج لـ”الخلافة” السنية التي كانت في “الحقيقة احتلالاً مارس في مصر جرائم بشعة وكاد أن يفتك بأهلها حد الإبادة. 

بالتالي، فإن سياسة أردوغان تسعى إلى إلغاء الهوية الوطنية مقابل فكرة “الأمة” الإسلامية وهي نظرية استعمارية تؤسس للعبودية. ولا تصل بنتيجة سوى تكريس فلسفة الطاعة والإذعان والدين مجرد شعار يخفي الاستبداد”. يقول عبد السلام القصاص. 

وليس خافياً أن هناك تسهيلات عديدة وفرتها تركيا لتنظيم “داعش” الإرهابي، وفق ما ذكر في تغريدة المبعوث الأميركي السابق للولايات المتحدة الأميركية، لدى التحالف الدولي المناهض لتنظيم “داعش”، عبر حسابه الرسمي في موقع: “إكس” (تويتر سابقاً). وقال إن تركيا رفضت مطالب متكررة بشأن غلق الحدود أمام التنظيم المصنف على قوائم الإرهاب، لكنها لم تفعل. 

إعادة هندسة المناطق الكردية

حتماً، لن تتحقق الأغراض التركية سوى بتغيير ديمغرافي في المنطقة الكردية، الأمر الذي لن يتم سوى بالاستعانة بقوى همجية وأصولية تتولى إدارة السياسة تدميرية مثل “داعش” وغيرهم من القوى المتشددة قومياً ودينياً. يما يسهل عملية إعادة هندسة المنطقة اجتماعياً بالشكل المطلوب في “ذهنية (أردوغان) العدائية للأكراد” على حد تعبير شيار خليل. كما أن الرئيس التركي يسعى عبر هذه السياسة إلى “أمننة” الملف الكردي، وتصدير رؤية عن الملف بأنه في “وضع أزمة وصراع عسكري ليبرر جرائم قواته والفصائل التابعة له. ناهيك عن منحى آخر في تفكيره يرتبط بإنهاك الأطراف السياسية الكردية التي تبحث عن تسوية سياسية وحل سلمي في سوريا، بينما يتوخى هو (أي رجب طيب أردوغان) تعطيل مشاريعهم السياسية. وأخيراً، تظل الورقة الكردية بالنسبة لأردوغان وعسكرتها ضرورة سياسية لتصدير أزماته المحلية المتفاقمة طوال الوقت”.

في كتابه: “مهمة تركيا المستحيلة الحرب والسلام مع الكرد”، يقول الكاتب التركي، جنكيز تشاندار، المقيم في فرنسا: تشكلت تركيا الجديدة في عشرينيات القرن الماضي التي حلت محل تركيا العثمانية كنتيجة منطقية لمرحلة تكوينية، حرب البلقان (1911-1912)، والحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وحرب الاستقلال الوطني (1919- 1922) حين هيمنت القومية الإسلامية كإيديولوجيا ناظمة للدولة. كما تم إنشاء دولة قومية تركية في آسيا الصغرى من خلال نزع المسيحية ديموغرافياً وجعلها ملاذاً للمسلمين العثمانيين لتكون مهد الدولة الحديثة تكون الهوية التركية فيها هي العليا، حيث تم دفع الرعايا المسلمين ذوي الهويات الإثنية المتباينة في الدولة العثمانية السابقة إلى الهوية التركية بغض النظر عن خلفيتهم العرقية”. 

كانت البداية التأسيسية تكمن في أن تكون مسلماً، فإن ملايين المسلمين الذين هم في الأصل من غير الأتراك انتقلوا إلى الهوية الجديدة “التركية الإسلامية” وخضعوا لسياسة الاستيعاب التي تنتهجها الدولة. بعبارة أخرى، تخلى ملايين المسلمين عن كونهم: كرد وعرب وشركس وبلغار وجورجيين ولاز وألبانيين وبوسنيين، أي تخلوا عن هوياتهم الأصلية ليصبحوا أتراكاً ضمن عملية شاقة ومكثفة، وفق جنكيز تشاندار.

ويردف: “على الرغم من كون الكرد مسلمون، إلا أنهم اعتبروا عنصراً غير موثوق فيه، وعلى غرار سياسات الإبادة الجماعية الموجهة للأرمن المسيحيين. استُهدف الكرد عبر سياسة التتريك، ما أدى إلى إنكار هويتهم ولغتهم المميزة. بدأ العمل الأساسي لهذا الإنكار أثناء حكم الاتحاديين في السنوات الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية في النصف الثاني من العقد الأول للقرن العشرين، بينما كانت الحرب العالمية الأولى مستمرة. وتبعها الهندسة الاجتماعية والديموغرافية أوائل عشرينيات القرن الماضي مع تأسيس الدولة التركية الحديثة”. 

كانت البداية التأسيسية تكمن في أن تكون مسلماً، فإن ملايين المسلمين الذين هم في الأصل من غير الأتراك انتقلوا إلى الهوية الجديدة “التركية الإسلامية” وخضعوا لسياسة الاستيعاب التي تنتهجها الدولة. بعبارة أخرى، تخلى ملايين المسلمين عن كونهم: كرد وعرب وشركس وبلغار وجورجيين ولاز وألبانيين وبوسنيين، أي تخلوا عن هوياتهم الأصلية ليصبحوا أتراكاً ضمن عملية شاقة ومكثفة، وفق جنكيز تشاندار. ولكن بعد عام 1923، توقفت قوانين وإعلانات الحكومة وبرامج حزب الشعب عن الحديث عن “المسلمين” أو “الكرد” و “الأتراك”. ونصت المادة الثالثة من قانونها لعام 1923 على ما يلي: “يمكن لكل تركي أو أي شخص آخر يقبل الجنسية والثقافة التركية أن ينضم إلى حزب الشعب”. وبعد ذلك بعامين، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1925، أعلنت وزارة التربية والتعليم في إعلان بشأن “التيارات التي تحاول تقويض الوحدة التركية” بأنها هي تلك التي تستخدم مصطلحات: كردي، شركسي، كردستان، وكذلك “لاز” و”لازستان”. 

في عام 1931، تم تعريف “التركي” بأنه: “أي فرد داخل جمهورية تركيا، بغض النظر عن عقيدته، يتكلم التركية، وينشأ مع الثقافة التركية ويتبنى المثل الأعلى التركي”. 

من ثم، نشأت المسألة الكردية، بالمعنى المجازي، من الكرد الذين رفضوا التوقيع على “عقد التركية” أو لم يتم استيعابهم في هذه الهوية القومية، بحسب مؤلف “مهمة تركيا المستحيلة الحرب والسلام مع الكرد”. أي بعبارة أخرى، تلك الشرائح من السكان الكرد التي عجزت الدولة التركية عن استيعابها، أو تلك التي قاومت، بل الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وثاروا على إنكار هويتهم في انتفاضات متتالية. 

وذكر: “من المؤكد أن القضية الكردية في تركيا والمنطقة لها جذور عميقة منظمة في نظام الشرق الأوسط الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، وهو نظام استمر قرابة قرن من الزمان. وبالتالي، هناك أسباب هيكلية أدت إلى عدم حلها، فضلاً عن أوجه القصور والقيود الأيديولوجية للحكومة التركية وانعدام الفطنة بين السياسيين. بالإضافة إلى الخلفية الأيديولوجية للنخبة الحاكمة في تركيا القائمة على المبادئ التأسيسية للجمهورية، والقومية التركية، التي تعرقل التطلعات القومية الكردية، كانت معاهدة سيفر الموقعة في 10 آب/ أغسطس 1920، مع صدمتها الدائمة التأثير على النفسية التركية، كان له أيضاً تأثير مهم للغاية على إنكار تركيا للهوية الكردية وسلوكها القمعي تجاه الكرد، حتى أولئك الذين هم خارج حدود تركيا. وعلى الرغم من أن معاهدة سيفر أصبحت لاغية وباطلة، حيث تم استبدالها بمعاهدة لوزان، في نظر القوميين الأتراك، إلا أنها دلّت على الهدف الغربي المتمثل في تفكيك أراضي تركيا، وتمثّلت بتقسيم الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية”.

فصائل “الجيش الوطني السوري” في عفرين تضع يدها على مخزون المعاصر

وفي إشارات تاريخية وإضاءات موجزة لافتة، ألمح الكاتب التركي المقيم في فرنسا إلى أن دخول تركيا في التحالف عبر الأطلسي، وبالتالي تحت المظلة الأمنية لحلف شمال الأطلسي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كان نابعاً من مخاوفها فيما يتعلق بوحدة أراضيها، إلا أن شكوكها بشأن نوايا الغرب بخصوص الكرد لم تختفِ تماماً. بل على العكس من ذلك، فقد انتعشوا من وقت لآخر لدرجة أنهم أحدثوا انقسامات خطيرة مع الشريك العسكري والأمني الأساسي لتركيا، الولايات المتحدة، كما شوهد في الكارثة السورية بعد عام 2014، مما كان له تداعيات على النظام الدولي برمته والأمن الجماعي للعالم الغربي. وأدى الإنكار أو بالأحرى الكراهية للهوية واللغة الكردية حتماً إلى عدم الاعتراف بالمسألة الكردية. حتى لو كان ذلك ضمنياً، كان هناك دائماً شبه إجماع على أن المسألة الكردية (مع نزاعها الطبيعي) هي التحدي الأساسي لبقاء تركيا. إن عدم الاعتراف بالمسألة، والتعامل معها بشكل أساسي على أنها مسألة أمنية، أو التقليل من شأنها إلى مستوى مكافحة الإرهاب، هو بمثابة عدم السعي الجاد والحقيقي لحلها.

وبسؤال المحلل السياسي التركي، مهند حافظ أوغلو، عن طبيعة الانتهاكات الموثقة من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري”، فيؤكد أن “الاتهامات قائمة وصحيحة وموجودة”. لكنه يصفها بـ”حالات فردية كثيرة”. وعزا حافظ أوغلو في حديثه لـ”الحل نت” التورط في مثل هذه الجرائم بـ”شح الموارد المالية وقلة الرواتب التي يتقاضاها الجنود من الجيش في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة” ما يضطرهم إلى النهب والسرقة. 

أما في ما يخص التغيير الديموغرافي فهو ناتج عن “غياب الحل السياسي” في سوريا “والتقاعس الدولي” في حل الأزمة السورية. والسبب الأساسي في ذلك هو “النظام السوري المنوط به، قبل أي طرف آخر، إنهاء وضع الملف السوري المأزوم، وإلا فإن التغيير الديموغرافي سوف يبقى متواصلاً ما دام الأمر من دون أفق سياسي”. يقول حافظ أوغلو. 

الكاتب السعودي المعني بالإسلام السياسي، عبد الله بن بجاد العتيبي، يقول: “دفع هذا العداء المستحكم والحقد التاريخي التركي ضد الأكراد الجيش التركي إلى درجة استخدام الأسلحة المحرمة دولياً في مهاجمة الأكراد السوريين داخل حدود الدولة السورية، والسعي بالقوة العسكرية إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لمواطني شمال شرقي سوريا”.

ما تخشاه أنقرة حقيقة ليس الأكراد في العراق وسوريا، بل الأكراد داخل تركيا، إذ تعد أي صعود لقوة الأكراد في البلدين تهديداً داخلياً لها، لأنه قد يوقظ الطموح الكردي داخل تركيا للمطالبة بحقوق مواطنة كاملة، وهي تعتقد أن هذا يشكل تهديداً للهوية القومية التركية.

وفي مقال عنونه بـ”تركيا والأكراد والحقد التاريخي”، ذكر أن “ما تخشاه تركيا حقيقة ليس الأكراد في العراق وسوريا، بل الأكراد داخل تركيا، إذ تعد أي صعود لقوة الأكراد في البلدين تهديداً داخلياً لها، لأنه قد يوقظ الطموح الكردي داخل تركيا للمطالبة بحقوق مواطنة كاملة، وهي تعتقد أن هذا يشكل تهديداً للهوية القومية التركية. وفي امتدادٍ للإمبراطورية العثمانية، لا يبدو أن الدولة التركية تمتلك قدرة على التعامل مع الاختلاف إلا بالعنف، والاستعداد الدائم لارتكاب المجازر والمذابح، فمن يستحضر تعامل العثمانيين ومذابحهم للأرمن ومذابحهم لليونانيين وغيرهم، ويقارن ذلك بتعامل الدولة التركية الحديثة مع أقلياتها، لا يكاد يجد فوارق تذكر”.

في المحصلة، تبدو انعطافات الرئيس التركي في النزاع السوري والانتقال المرن من مربع إلى مربع آخر على النقيض تماماً، مفهومة ومنطقية على خلفية بوصلته المتوجهة، دوماً، نحو بناء الذرائع التي تمكنه من تنفيذ سياسة العنف والإقصاء للأكراد، بداية من دعم “المعارضة المسلحة” في حلب، ثم مساعدة “النظام السوري” وبشار الأسد لاستعادتها، مرة أخرى، وفق ما أقر رجب طيب أردوغان، قبل عام تقريباً، كما ذكرت مديرة برنامج تركيا في “معهد الشرق الأوسط” في واشنطن، غونول تول. 

وقالت غونول تول في كتابها، الصادر عن دار “هيرست” بلندن، المعنون بـ”عنوان حرب أردوغان، صراع رجل قوي في الداخل وفي سورية”: “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب مساعدته (أي أردوغان) في إقناع تنظيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة وقتذاك) بالخروج من حلب”. وكانت حصيلة، أو بالأحرى المكافأة، التي حصلت عليها تركيا بعد هذا الدور الذي أداه أردوغان لصالح النظام في دمشق هي موافقة روسيا و”الأسد” على شن هجمات بحق الأكراد.

ومنذ ذلك التوقيت، فإن تبادل الأدوار يتم بين أردوغان وبوتين والهدف هو العداء المشترك للأكراد. وقد نجح بوتين في تجسير الصلات، مؤخراً، مع الخصمين اللدودين منذ عشرية “الربيع العربي”: أردوغان والأسد. والهدف، بطبيعة الحال، هو تمكين الأول سياسياً عندما كان في ظروف انتخابية تلح فيها قضية اللاجئين، والبالغ عددهم نحو أربعة ملايين لاجئ بتركيا، وهي مادة استقطاب قصوى بين المعارضة وحكومة “العدالة والتنمية”. بينما يشترك الطرفان في منحى عدائي مباشر وصاخب ضد “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا ومحاولة تقويض حكمها سياسياً وزعزعة استقرارها الاجتماعي. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات