الثورة السورية في مسارها الشاق والطويل الممتد لأكثر من عقد متخمة بالأحداث الكبيرة، والتحولات المخيفة، لدرجة أن أي حديث عن هذا الحراك الذي اندلع في قلب “الربيع العربي” يبدو مغريا بعبارات ومقولات مفخخة تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية. لكن ما جرى في سوريا على مدار الاثني عشر عاما يحتاج إلى إعادة ترتيب المشاهد بطريقة أخرى مختلفة أو بالأحرى متشككة لا تستند إلى السرديات الرسمية أو حتى المعارضة (على اختلاف وتنوع الأخيرة)، حتى تكون هناك مقاربة عملية تتماس مع نقطة الانطلاق والتأسيس، وارتكازاتها الديمقراطية والعلمانية، وبحثها عن قيم مواطنية في بيئة منفتحة تحلحل بنى الحكم المافيوي، وآلياته في النهب والتخريب والعنف المتوحش. ومن ثم، لحظة الانحراف التي تسللت فيها قوى معادية للثورة، بمعناها الجذري، وقطيعتها مع اللحظة الأولى وقد باشرت تدمير أجهزتها الداخلية لتضحى في حيز القوى الجديدة بوسائلها وأغراضها المشبوهة، الأمر الذي نجم عنه الانخراط في دوامة حرب عبثية وتطييف للثورة وسلبها مدنيتها.

اللافت أن الانحرافات والانعطافات الحادة التي شهدتها الثورة السورية على مدار سنواتها، هي مجال الرؤية السياسية الذي يؤشر إلى طبيعة القوى المستفيدة والأطراف التي كانت تتنقل من حليف إلى خصم لهذه الثورة. وقد كانت عملية “أسلمة” و”تديين” أو “تطييف” الثورة السورية عبارة عن آلية راكم من خلالها النظام شرعية جديدة حتى لو باهتة ومؤقتة ومرحلية لاستكمال بطشه وتصفيته الدموية للقوى المدنية. 

لم يكن سهلا على النظام البعثي مواجهة هذه القوى وهي تزيل الطبقة الهشة للنظام الذي يبدو في ظل حزبه الشمولي وطائفيته العسكريتارية، له طبيعة مدنية علمانية. لذا، تحرى “نظام بشار الأسد” أن تكون حربا همجية ضد “الإرهاب” والقوى الإسلاموية لتمنحه فرصة هائلة لتجريب مخزون وفائض العنف التاريخي على هيئة براميل متفجرة ضد المدن والبشر. هذه المشهدية تبدو من خلالها عملية الأسلمة للقضاء على الثورة أو تغيير مسارها، كاشفة عن ارتباط “نظام الأسد” العضوي بالإسلامويين واستفادته القصوى منهم رغم العداء الظاهري بينهما. بل إن العلاقة البراغماتية بينهما تخفي طبيعة ولائية وتجعل كل منهما يؤدي دورا لتخفيف العبء على الآخر وإنقاذه من حتمية الهزيمة التاريخية. وفي ما يبدو أن نموذج تحول أنظمة البعث في المنطقة إلى الأسلمة بدرجات (وفي مراحل) متفاوتة لا يعدو كونه أمرا جديدا، فقد خاضت النسخة العراقية من بعث صدام حسين مرحلة إسلاموية عرفت بـ”الحملة الإيمانية”، تسعينات القرن الماضي، والتقى البعث العراقي مع الإسلام السني وقوى متشددة منها جماعة “الإخوان المسلمين” لمواجهة الدعاية الدينية لنظام “الولي الفقيه” في إيران على خلفية حرب الثماني سنوات بينهما، لدرجة الترويج إلى أن ميشيل عفلق، مؤسس البعث المعروف عنه اتجاهاته العلمانية الحادة قد أعلن إسلامه (!) وهو على فراش الموت. فضلا عن القيود الاجتماعية ومضاعفة المخصصات المالية للبرامج الدينية بالعراق، مع الأخذ في الاعتبار أن تنظيم “داعش” الإرهابي جزء مهم ورئيسي من قوامه وهيكله التنظيمي به أعضاء وقيادات سابقة في “حزب البعث”.

ما تكشفه هذه الحوادث المتكررة من ولادة الإسلاموية كحالة سياسية وتنظيمية على يد أنظمة البعث، رغم تناقض ذلك شكلا، إنما تؤكد العلاقة الانتهازية بين الطرفين. فهذا التيار الديني الراديكالي صناعة رسمية وجناح من أجنحة “البعث”، لها طبيعة جاهزية لتحقيق الملاذ الآمن والسهل لإنهاء وتقويض القوى المدنية والليبرالية وغلق المجال العام.

كانت الطائفية مرتكزا مهما في إطار حماية السلطة السورية، بل أداة لجذب الولاءات العلوية ونخبتها العسكرية التي ستتشكل على تخوم تشظي المؤسسة العسكرية.

ومنذ الرئيس السابق لسوريا حافظ الأسد لم يكن وصوله للسلطة سوى بالاعتماد على الجيش الذي مكنه من الحكم، وليس بقواه الحزبية وحواضنه الاجتماعية. وفي المرحلة الأولى من عقد الستينات كان وجود الحزب في خلفية الوصول للسلطة مرحلة تكتيكية لتأميم الصراعات داخل الجيش وإنهاء تعدد الولاءات. ثم جاءت المرحلة الثانية من النصف الثاني للستينات وحتى مطلع السبعينات لتعزل الحزب أو تهمشه بعد إنهاء مراكز القوى بحيث تضحى السلطة في دائرة “الرئيس” وتعميم الهوية العلوية في الأجهزة الأمنية والجيش وتأبيد نموذج الحكم البطريركي الوراثي والذي تحميه ولاءات اجتماعية جديدة لها حصة من الامتيازات الاقتصادية. ومن هنا، برز تباين الولاءات الاجتماعية القديمة والتقليدية لـ”الأسد”، سواء الأب أو الابن لاحقا، من الفلاحين إلى تجار دمشق وتوغلت القوى والأجهزة الأمنية في صميم العلاقات الاجتماعية وتولت إدارة أو بمعنى أدق “أمننة” المجالات المختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية.

بالتالي، كانت الطائفية مرتكزا مهما في إطار حماية السلطة، بل أداة لجذب الولاءات العلوية ونخبتها العسكرية التي ستتشكل على تخوم تشظي المؤسسة العسكرية. فيما استمر الأمر ذاته مع حكم بشار الأسد والذي بلغت فيه الأمور الاجتماعية إلى مستوياتها المتدنية في ظل اقتصاديات النهب والعمولات ورأسمالية المحاسيب، بما أدى إلى تدمير كل القوى الاجتماعية، فضلا عن إضعاف الهيئات التنظيمية والتمثيلية للقوى والفئات المختلفة مثل النقابات. وتحت وطأة هذا الاقتصاد الريعي للنظام والذي خلف حالة زبائنية في السياسة كما في باقي العلاقات الاجتماعية والحكم، فإن الروابط القائمة كانت تعتمد بالأساس على المكون الطائفي وشبكة من المستفيدين بإدارة الأجهزة الأمنية القمعية والتي باتت تتوحش في ظل إدارتها لهذه العلاقة بين جماعات المصلحة. 

تطييف الثورة من قبل “نظام الأسد”

ويمكن ملاحظة أن “النظام السوري” لم يتوان لحظة عن استدعاء خطابه الطائفي منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الأحداث الاحتجاجية تتشكل منذ التجمعات في سوق الحميدية ثم تفجر الأزمة في درعا بعد اعتقال أطفال على خلفية عبارات معارضة فوق جدران إحدى المدارس. وفي منتصف آذار/ مارس عام 2011 بادر عدد من النخبة السياسية بإصدار وثيقة أو ميثاق يشتمل على مبادئ ضد الطائفية وكان منهم ياسين الحاج صالح.

لكن خطوة النظام كانت أسبق في ما يخص تطييف الثورة والتلميح بوجود مؤامرة خارجية لإحداث عنف طائفي وصراع على هذا الأساس. إذ اتهمت مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان، في لقاء لها على قناة “بي بي سي”، في نسختها العربية، الاحتجاجات في أسبوعها الأول، بأنها “مخطط لتهييج الفتنة الطائفية بسوريا”. فيما اعتبرت جماعة “الإخوان المسلمين” مسؤولة عن ذلك.

العنف السلطوي لآل الأسد كان يحتاج حتما إلى هذا الوجه الدموي لـ”داعش وجيش الإسلام كما حزب الله” وباقي الميليشيات الطائفية الولائية- “الصورة من الإنترنت”

وقالت بثينة شعبان إن “ما يجري في سوريا هو إشعال موقف طائفي ويبدو مماثل لأحداث سابقة لاستهداف موقع سوريا (تقصد حسب زعمها الموقع الممانع لقوى الإمبريالية وإسرائيل)”. بل إن نبرة مستشارة “الأسد” خلال اللقاء التلفزيوني ألحت على فكرة التعبئة الطائفية وبعث ذاكرة العنف الطائفي رغم أن ذلك كان من بين المحظورات في السياسة والخطاب الإعلامي للنظام، وواصلت حديثها وقد عرجت على حوادث عنف طائفي تبدو مماثلة لما يجري في الربيع العربي في نسخته السورية من خلال نفس القوى (جماعة الإخوان) وبنفس الأدوات (الطائفية). فقالت إن جماعة الإخوان تكرر الأمر نفسه مثلما تورطت عام 1979 في اللاذقية بقتل شيخ سني ثم شيخ علوي لإحداث فتنة طائفية.

ترافق مع هذا الخطاب الطائفي للنظام في دمشق مع ممارسات عدوانية بل ومجازر وصفت بعد ذلك بأنها “جرائم حرب” وعمليات “تطهير عرقي” نفذتها الميليشيات الولائية، كما حدث في كرم الزيتون بحمص والحولة بحماة عام 2012. ونقلت وكالة “فرانس برس” عن رامي عبد الرحمن مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” قوله إن “مجزرة ارتكبت على أيدي الشبيحة راح ضحيتها نساء وأطفال في حي كرم الزيتون بحمص.. مئات العائلات تعرضت للنزوح من بعض أحياء حمص وهناك مئات العائلات فرت من المدنية خشية من مجازر أخرى”. ووثق عبد الرحمن وفقا للوكالة الفرنسية المناطق التي تعرض سكانها للنزوح وهي “كرم الزيتون وباب الدريب”.

وفي ما يخص “مجزرة الحولة”، قضى فيها 107 أشخاص، منهم 49 طفلا لم تبلغ أعمار أي منهم عشرة أعوام، و32 امرأة، وقد تم القتل بطرق متوحشة باستخدام السكاكين والأدوات الحادة وإطلاق الرصاص العشوائي. واتهمت لجنة تحقيق دولية ميليشيات تابعة لـ”نظام الأسد” بأنها ضالعة في تنفيذ هذه المجزرة بحمص، بناء على تقريرها الصادر في النصف الثاني من حزيران/ يونيو 2012.

حتما، تبدو الطائفية من الناحية التاريخية “كنظام تولد من التقاء سيرورتين تاريخيتين، متمثلة في تحلل الدولة القديمة، الدولة السلطانية بشرعيتها وسطوتها ولحمتها التاريخية. وإجهاض سيرورة بناء الدولة القومية بالمعنى الحديث، فهي ليست إذن من نتاج الماضي ولا من نتاج الحاضر”، كما ذكر برهان غليون في كتابه: “نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة”، وهذا التحقيب التاريخي لنشوء الطائفية في سوريا وبرز مع انقلاب البعثيين إنما كاشف عن التشكل الهجيني المشوه للفئات التي صعدت لمراكزها السياسية وفي الحكم بينما لم تتمكن القطيعة مع الماضي في شكله القديم والرث بعد انتهاء شروطه وصلاحيته.

ثم أخفق في عبور الحداثة وتشكل الدولة الحديثة بعد الانعتاق من النموذج السابق للدولة في مستواها “السلطاني” فيقول غليون: “انحسار الهيمنة الكلية للدولة التقليدية بهيبتها ووقارها الديني لا يكشف بشكل طبيعي وتلقائي عن وجه العصبيّات الجزئية والقديمة في المجتمع، لكنه يدفعها إلى المسرح السياسي ويجعل منها الدعائم الجديدة لسياسة وتوازنات اجتماعية جديدة، إنه يخلق المجتمع العصبوي، لكن إجهاض الدولة القومية هو الذي يجعل من هذه العصبيات عناصر مترابطة ضمن نظام سياسي من طبيعة خاصة، هو الذي أطلقنا عليه اسم النظام الطائفي”. 

وفي ظل الحالة الطائفية تسيدت قيم مثل تعدد الولاءات وضعف الروابط المشتركة داخل المجتمع، وكذا تنامي العصبية، بالإضافة إلى امتزاج الأخيرة بالدين والتي يجري توظيفها في التهييج والتعبئة السياسية والمجتمعية فتتحول إلى عصبيات دينية وطائفية ومذهبية. وتبعا لذلك ظهرت معضلة الأقليات القومية والطائفية كما يقول برهان غليون والتي سبق أن منحت قوى خارجية حق إدارة هذا الملف في فترة الحكم العثماني. وما تزال هذه المعضلة تواجه الدول التي حازت استقلالها بعد نهاية الحرب العالمية، كما هو الحال مع الأكراد والأمازيغ وجنوب السودان.

اختزال دولة “الأسد” بالهوية العلوية

ومع هذا التراكم في طبيعة الدولة الوراثية بسوريا بتحالفاتها الرجعية والبدائية التاريخية، لم يكن هنا أي مفر في ظل اتساع قاعدة الفقر إلى نحو 30 بالمئة (تضاعفت النسبة في غضون خمس سنوات لتصل لنحو 80 بالمئة) عشية اندلاع الثورة عام 2011، فضلا عن البطالة والتي لامست حدود 13 بالمئة (تضاعفت النسبة في غضون خمس سنوات لتصل لنحو 50 بالمئة)، أن يكون الاعتماد على صراع الهويات وتفخيخ الهويات الطائفية حتى الوصول إلى “صدام الهمجيات” بتعبير المفكر اللبناني جلبير الأشقر في كتابه: “انتكاسة الانتفاضة العربية”. فالعنف السلطوي لآل الأسد كان يحتاج حتما إلى هذا الوجه الدموي لـ”داعش وجيش الإسلام كما حزب الله” وباقي الميليشيات الطائفية الولائية. طيف الإسلاميين المسلحين عكس بدرجة أو أخرى التنافس والسباق الإقليمي المحموم لجهة دعم أسلمة الثورة بمكونات تبعث المظلومية السنية في مقابل اختزال دولة “الأسد” في الهوية العلوية برعاية إيرانية وروسية.

وقد ساهمت قوى إقليمية عديدة بمباركة “الأسد” ووكلائه الخارجيين في تعميم فكرة أن الثورة عبارة عن “حراك سني” مدعوم بقوى أصولية سلفية جهادية مسلحة، الأمر الذي جعل الثورة تتحول من حراك سلمي مدني ديمقراطي وعلماني إلى حرب طائفية دموية تبعث باشتهاء القتل على أساس هوياتي.

بمجرد تسلم البعثيين السلطة ظلت أشكال الصراع والتنافس على السلطة والثروة والنفوذ محكوما بأبعاد معينة، التي لم يسعى أحد إلى تفكيكها، بل إن القوى الجديدة في الحكم قامت بتعميقها وعسكرتها و”أمننة” هذا الوضع الطائفي بجذوره الطبقية والاقتصادية.

ألبرت حوراني في كتابه: “تاريخ الأقليات في العالم العربي” يقول إن “الإمبراطورية العثمانية تشكلت من عدد كبير من المجموعات المحلية العشائرية واللغوية والدينية، التي شكلت في النهاية جاليات مغلقة”. حوراني يكاد يتفق مع ما ذكره برهان غليون بشأن تشكل الطائفية في سيرورتها التاريخية ويقول إن الدولة العثمانية كانت من خلال هذا التشكل الاجتماعي المغلق تجعل كل مجموعة داخل عوالمهما الخاصة المتجانسة على أساس التجزئة والتفرق الهوياتية والطائية بينما تطالب كل تكتل “بالولاء المطلق”. ويتابع: “وقد تلامست هذه العوالم من دون أن تختلط ببعضها البعض، فكان كل منها ينظر للآخر بعين الشك والريبة، وربما الكراهية. وكانت معظمها يغلب عليها الركود وعدم التغيير والمحدودية. أما عالم أهل السنة، رغم تمزقه بشتى أشكال التشقق الداخلي، فقد ظل يتمتع بشيء من الشمولية والشعور بالثقة وروح المسؤولية التي كان يفتقدها الآخرون. وكانت الجاليات الأخرى هامشية وبعيدة عن السلطة وصنع القرار التاريخي”.

وعلى ضوء هذا الوضع التاريخي، فبمجرد تسلم البعثيين السلطة ظلت أشكال الصراع والتنافس على السلطة والثروة والنفوذ محكوما بهذه الأبعاد التي لم يسعى أحد إلى تفكيكها، بل إن القوى الجديدة في الحكم قامت بتعميقها وعسكرتها و”أمننة” هذا الوضع الطائفي بجذوره الطبقية والاقتصادية.

ضلوع “الأسد” بأسلمة الثورة

في لقاءات عديدة جمعتني بالمفكر السوري الفلسطيني، سلامة كيلة، والذي ظل حتى لحظات عمره الأخيرة يشعر بوخزة في قلبه إثر سجنه أثناء اندلاع تظاهرات عام 2011، وذلك بسبب تهمة النظام له بأنه “ليس سورياً”، بينما يؤكد عبء هذه المرة على المرات التي سبقتها وقد امتد اعتقاله لثمانية أعوام، كان يشير بصورة مبكرة إلى معلومة تبدو بسيطة لكنها لافتة ومؤسسة مفادها أنه في غضون شهور قليلة قام “نظام الأسد” بالإفراج عن أكثر من 1500 شخصية معتقلة تنتمي للتيار السلفي والجهادي. ومن هنا كانت بدايات عملية التشكل الجنيني لأسلمة الثورة السورية ومواجهتها عضلة متشددة تتكون في جسدها بهدف القضاء عليها والخروج بهياكل أخرى مغايرة وشبحية مثل “جيش الإسلام وأحرار الشام”.

وبخلاف قوى الثورة “العفوية”، والتعبير لسلامة كيلة، التي اعتمدت على قيم مدنية وشعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فإن الأطراف الأصولية التي تبنت مشروعا جهاديا عملت على “أسلمة” الثورة والبحث عن أو تلقي الدعم الخارجي بداية من المال وانتهاء بالسلاح وتنفيذ الخطط السياسية والإقليمية. 

فيما عمد “النظام السوري” إلى تغذية فكرة الحرب السنية ضد الأقليات الطائفية في سوريا. وبتواطؤ مشبوه نجحت جماعة “الإخوان المسلمين” عبر ممارساتهم وبياناتهم ومواقفهم في تثبيت هذا التوجه بل اعتبار ما يجري ليس “ثورة شعبية” إنما عبارة عن “جهاد” في سوريا. هذا الأمر برز في خطاب رسمي لمحمد مرسي القيادي الإخواني الذي وصل لحكم مصر لمدة عام وتم عزله بتظاهرات شعبية. وقد دعا محمد مرسي لـ”الجهاد” في سوريا وفتح “باب التطوع لذلك”. ولجأ إلى لفيف من مشايخ السلفية الجهادية (بعضهم متورط في أعمال عنف عديدة منها قتل الرئيس السابق أنور السادات) وقال (مرسي) إن “هذا يوم النصرة، لن يهنأ لنا بال حتى نرى السوريين الأحرار يقيمون دولتهم الموحدة على كامل ترابهم”. وردد: “أقول لكم جميعا لبيك يا سوريا..”.

في سوريا أصبح كل شيء يدور حول الطائفية ويتبادل حولها الجميع الاتهامات- “الصورة من الإنترنت”

ومع تلاقي وتبادل المصالح، فقد وجد تنظيم “داعش” الإرهابي حماية مباشرة وغير مباشرة من “نظام الأسد”، “حتى عندما كان النظام يكافح لاستعادة السيطرة على الأراضي السورية من مختلف الجماعات المتمردة المشاركة في الحرب الأهلية السورية”، وفق “معهد واشنطن”. ويردف: “وكان أحد التكتيكات الرئيسية لاستراتيجية النظام هو تركيز جهوده العسكرية لمحاربة الجماعات المتمردة السورية المعتدلة التي تعارض دكتاتورية الأسد، ولا سيما الجيش السوري الحر، وليس تنظيم داعش”. 

وتابع المعهد الأميركي: “وقد جرت العادة أن يشارك الأسد في أي قرارات رئيسية، وأن يتنبه المسؤولون الحكوميون إلى تبعات اتخاذ قرارات حساسة أو اتخاذ إجراءات حساسة دون موافقة مسبقة من الأسد. لذلك من غير المعقول أن تكون المخابرات السورية قد ساعدت عناصر التنظيم الإرهابي أو سهلت لهم أو سمحت لهم بذلك من دون اتخاذ قرار مسبق من قبل أعلى مستويات الحكومة السورية. واتخذ النظام السوري هذا القرار الاستراتيجي لتمكين وتسهيل صمود تنظيم داعش بشكل متواصل في سوريا، سعيا منه لتصوير كافة عناصر المعارضة السورية على أنها إرهابية”.

ويوثق أنه في أيار/ مايو عام 2011، بدأت الحكومة السورية بإطلاق سراح إرهابيين إسلاميين متشددين في أول سلسلة من قرارات العفو الرسمية التي أصدرتها الحكومة. شمل المرسوم رقم 61، الصادر في أيار/ مايو 2011 “جميع أعضاء الإخوان المسلمين وغيرهم من المعتقلين المنتمين إلى حركات سياسية. وباشر العديد من الإرهابيين أنشطتهم بعدما جرى الإفراج عنهم وفق قرارات العفو الأولى هذه بقيادة جماعات إسلامية متطرفة في سوريا، بمن فيهم مؤسس أحرار الشام، حسان عبود وقائد، جيش الإسلام، زهران علوش وقائد ألوية صقور الشام، أحمد عيسى الشيخ، إلى جانب شخصيات بارزة في تنظيم داعش مثل علي موسى الشواخ (يكنى بأبو لقمان)”.

في سوريا أصبح كل شيء يدور حول الطائفية ويتبادل حولها الجميع الاتهامات.

ويقول المعهد الأميركي إنه “من خلال إيواء الجهاديين معا في سجن صيدنايا سيئ السمعة قبل التمرد، عمل النظام بشكل فعال على ربط الجهاديين المتباينين وغير المتصلين سابقا، والذين جاءوا ليشيروا إلى أنفسهم على أنهم خريجو صيدنايا. ووفقا لأحد الجهاديين المفرج عنهم في صيدنايا: “عندما تم اعتقالي، كنت أعرف أربعة أو خمسة أو ستة [جهاديين]، لكن عندما أُطلق سراحي عرفت مائة أو مائتين أو ثلاثمائة [جهادي]. لدي الآن إخوة في حماة وحمص ودرعا والعديد من الأماكن الأخرى، وهم يعرفونني. لم يستغرق الأمر سوى بضعة أسابيع قصيرة – أسابيع، وليس شهرا – لكي نبدأ، في جماعات من اثنين أو ثلاثة [من الجهاديين]، في سرية تامة”.

إذاً، ليس خافيا أن الأطراف الإسلاموية التي توافر لها الدعم والحماية من قبل “النظام السوري” سعت (ومع آخرين في الإقليم من حلفائهم) لتثبيت أن الثورة هي ثورة سنية ضد نظام علوي، وأن تضحى معادلة الصراع المفتوح بمنظار طائفي.

فيما يرى سلامة كيلة في كتابه: “التراجيديا السورية: الثورة وأعداؤها”، أنه في سوريا أصبح كل شيء يدور حول الطائفية ويتبادل حولها الجميع الاتهامات. لكن كيلة يقول إن “النظام سلطة مافيا وحشية” بينما يعمل على استثارة غريزة الطائفة لكي يستغلها ويوظفها لحساب الدفاع عن الامتيازات السلطوية الفئوية للأوليغاركية الحاكمة. وذلك بعد أن كانت تستفيد من استغلال الاضطهاد التاريخي والفقر. وفي النهاية تحولت هذه الطائفية إلى أداة بنيوية في صميم السلطة لكن الهدف منها ومن استغلال المشاعر الطائفية هو النهب، نهب المجتمع، بما في ذلك الساحل. 

كما عمل “النظام السوري” على نشر مقولات ولقاءات بشيوخ متشديين للإفتاء بضرورة قتل الأقليات لتخويفهم وبث الرعب في المجتمع. وهنا يوافق سلامة كيلة المفكر اللبناني مهدي عامل والذي يرى في كتابه: “الدولة الطائفية” أنه “ليست الطوائف طوائف إلا بالدولة. والدولة هي التي تؤمن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية هي، بالدولة وحدها، مؤسسات”.

ورغم أن كيلة يرى بأن استخدام وتوظيف الطائفة لا يجعل النظام طائفيا بل إنه يكشف عن الآليات المستخدمة للحفاظ على السلطة الطبقية بمفاهيمها ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وهو هنا يؤكد عدم دفاعه عن النظام بمحو صفة الطائفية عنه إنما تعرية وسائله التي تخفي أسفل ما هو ظاهر في قشرة الطائفية أبعاد أعمق في شبكة المصالح التي تبعث لديه باشتهاء القتل والقمع بحجة الطائفية مرة أو حماية التعددية الدينية مرات أخرى كما مواجهة “الاحتلال” الإسرائيلي وتثبيت شعارات “المقاومة” و”الممانعة”. 

إلا أن المفكر عزمي بشارة في كتابه: “الثورة السورية.. درب الآلام نحو الحرية” يكشف عن خطط وسياسة إفقار العلويين عن عمد وإضعاف بيئاتهم بل تهميش مناطقهم بهدف تعبئتهم في الجيش والأجهزة الأمنية حتى يتحولوا إلى قبضة النظام الخشنة التي تمارس البطش والعدوان. وبمجرد أن وصل حافظ الأسد إلى الحكم لم تحدث أي تنمية في مناطق العلويين إنما باشر كبادة القادة العسكريين مهمتهم الإقطاعية في الاستيلاء على أراضي الفلاحين. وفتح “الأسد” الأب الدائرة لتشكيل تحالفات مع القاعدة الاجتماعية الجديدة من البرجوازية التجارية ووجهاء العشائر والطوائف وجند الكتلة الصلبة من المناطق المهمشة في دير الزور ودرعا. لكن رغم كل ذلك يؤكد أن “الطائفية في سوريا ليست افتراء إنما قائمة في نظام الحكم”.

وهنا يوضح بشارة في الكتاب ذاته بصيغة تتجاوز التقدير السياسي وترقى إلى المعلومة التامة والنهائية “نعلم أيضا أننا إزاء ثورة مجتمع شديد التركيب والتعقيد تفجرت ضد نظام استبدادي قمعي اعتبر حتى فترة وجيزة مستقرا نسبيا وفريدا في نمط حكمه، باعتباره نظاما سلطويا رثا يحاكي الأنظمة الشمولية ويقوم على نمط قاس من القمع الأمني، وعلى تداخل الأمن والسياسة والاقتصاد، مولّدا فسادا منتشرا من القمة إلى القاعدة. الفساد في سوريا ليس استثناء يحاربه النظام أو يتساهل معه، بل هو القاعدة… إنه النظام”.

أدوار وظيفية للإسلامويين

ومن هنا، يمكن فهم الدور الوظيفي الذي قامت به “جبهة النصرة” الإرهابية (هيئة تحرير الشام لاحقا) التي توافرت لها شروط السيطرة في شمال غرب سوريا، وذلك من دون صدام حقيقي مع قوات النظام، والأمر ذاته مع تنظيم “داعش” الإرهابي الذي كان آمنا أمام بطش قوات “الأسد” مقارنة بما تعرضت له مناطق أخرى اندلع فيها حراك شعبي مدني. وقد “كان أحد الأسباب التي دفعت بنظام الأسد إلى عدم استهداف مواقع “داعش في شرقي سوريا هو التعاملات التجارية للنظام مع التنظيم” كما يقول “معهد واشنطن”.

وصرحت وزارة الخارجية الأميركية أن “النظام السوري اشترى النفط من تنظيم داعش عبر وسطاء مختلفين، مما زاد من عائدات التنظيم الإرهابي. وبدأ ذلك في حوالي عام 2014، عندما سيطر التنظيم على منطقة دير الزور في شرق سوريا، وسيطر على أكثر من 60 بالمئة من حقول النفط في البلاد، بما فيها حقل العمر النفطي الأكبر في سوريا. وبحلول أيلول/ سبتمبر 2014، قدر الدخل اليومي للتنظيم فقط من نفط الحقول العراقية والسورية بحوالي 3 ملايين دولار يوميا، مع مبيعات بحوالي 50,000 برميل يوميا في سوريا وحدها”. وفي عام 2015، ظهرت تقارير مفادها بأن التنظيم الإرهابي “كان يبيع على الأقل بعضا من نفطه للحكومة السورية”.

فيما تشير وزارة الخزانة الأميركية، في عام 2014، إلى أنه “ربما يكون تنظيم داعش الإرهابي كسب ما يصل إلى عدة ملايين من الدولارات في الأسبوع، أو ما مجموعه 100 مليون دولار، من بيع النفط والمنتجات النفطية للمهربين المحليين الذين يبيعونها بدورهم إلى الجهات الفاعلة الإقليمية، ولا سيما نظام الأسد”. 

صورة أرشيفية للمقاتلين المتشددين أمام قذيفة محلية الصنع بدير الزور في سوريا- صور غيتي

وفي آذار/ مارس 2015، أدرج الاتحاد الأوروبي رجل الأعمال السوري البارز جورج حسواني على القائمة السوداء، لافتا إلى أن “الحسواني يقدم الدعم ويستفيد من النظام من خلال دوره كوسيط في صفقات شراء النفط من تنظيم داعش من قبل النظام السوري”، وفق “معهد واشنطن”. ويقول: “ناهيك عن الإفراج الاستراتيجي والمتعمد لإطلاق سراح الجهاديين من السجون السورية، امتنع نظام الأسد أيضا بشكل متكرر عن مهاجمة مواقع تابعة للتنظيم”. وفي بعض الأحيان، وافق نظام الأسد وتنظيم “داعش” على العديد من صفقات الإخلاء، وفي بعض الأحيان بدا أن النظام يتواطأ مع التنظيم في محاولة لتشجيعه على مهاجمة المتمردين المعتدلين بدلا من النظام. وفي حالات أخرى، بدا أن تنظيم “داعش” يتخذ إجراءات تصب في مصلحة الحكومة السورية. 

فعلى سبيل المثال، في تموز/ يوليو 2014، “انسحبت قوات تنظيم داعش من الضواحي الشمالية لحلب في الوقت الذي كان فيه النظام السوري يحاول الالتفاف حول قوات الجيش السوري الحر، المتواجدة في المدينة. وقد مكّن انسحاب التنظيم الإرهابي قوات النظام من احتلال الضاحية الشمالية للمدينة دون إطلاق رصاصة، ثم تطويق قوات الجيش السوري الحر، في المدينة من ثلاث جهات”.

ومع ذلك، لم تنته التعاملات التجارية لـ”نظام الأسد” مع تنظيم “داعش” بالنفط والغاز. فقد قام النظام أيضا بشراء وبيع الحبوب من المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم الإرهابي، بحسب المعهد الأميركي الذي يقول إنه وفقا لبعض التقارير فإن سامر فوز، رجل الأعمال السوري الذي أدرجه الاتحاد الأوروبي على القائمة السوداء في 2019 لتقديمه التمويل وغيره من أشكال الدعم لـ”نظام الأسد”، نقل الحبوب من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية إلى الأراضي التي يسيطر عليها “داعش”. ووفقا لتقارير أخرى، قام أيضا بنقل القمح من مناطق سيطرة “داعش” عبر تركيا إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية”. بل إن الأخيرة دعمت التنظيم الإرهابي من الناحية التمويلية وتوفير الموارد المالية من خلال “السماح للمصارف السورية بمواصلة العمل وتقديم الخدمات المالية داخل الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش”.

“الحل الأمني”

إذاً، التحقيب للثورة السورية ستؤكد أن المقاربة اللا طائفية للمحتجين هي التي تسيدت الحراك وقد غلب على المطالب التغيير وعمل إصلاحات سياسية وإنهاء الظلم والتهميش المجتمعي، فضلا عن انفلات أجهزة الأمن. بيد أن النظام لم يتوان عن أدلجة الثورة بهذا المنحى الأصولي المتشدد والتقدم باتجاهها باعتباره حاميا للتعددية (الأقلية) الدينية. 

وفي إطار هذه الدعاية السياسية للنظام الذي فرض عليه قسرا التغيير لم يكن أمامه سوى الحل الأمني وقد كان طبيعيا في ظل طبيعة السلطة الحاكمة ووضعها الرث اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا أن يتسبب صراعها الأمني مع قوى التغيير بحدوث اضطرابات قصوى لها هذا الطابع المتشظي هوياتيا وعشائريا وطائفيا وصدام كل تكتل بالآخر.

لم يتوقف “النظام السوري” عن إدارة الخوف ضد الشعب السوري بمختلف مكوناته، بداية من نشر الخوف من الشيوعيين والأكراد والسلفيين والسنة والمجموعات الجهادية و”الإخوان المسلمين”.

ويقول سلامة كيلة: “لقد عمل النظام بجد، وجهد كبير، من أجل استغلال التكوين المجتمعي المتعدد، والصراعات السابقة، لتخويف بعضه من بعضه الآخر. فقد كان يحتاج إلى خوف الأقليات، خصوصا العلويين الذين يشكلون (القاعدة المفترضة) له، وتخويف الليبراليين والعلمانيين واليسار، والفئات الوسطى المدينية، لكي يضمن تماسك بنيته الصلبة المشكلة من الأقليات، ويُبقي الأغلبية الشعبية مترددة وخائفة من المشاركة في الثورة. لهذا كان رد الشباب هو لكسر هذين العنصرين كي تصبح الثورة هي ثورة كل السوريين”.

لكن بعض النخب قبلت أن تكون الطرف الآخر، أي قبلت الأسلمة كرد على النظام، وعملت على ما يخدم خطاب النظام، ويخدم استراتيجيته. وهي مهيأة أصلا لذلك، بالضبط لأنها تمتلك “وعياً طائفياً”، ظهر خلال صراع عامي 1980و1982، وعملت على تعميمه، بالضبط كما كان يفعل النظام. وإذا كانت تعمم ذلك في الخفاء بداية، فقد جهرت به فيما بعد، وتعمم لكي يشمل نخبا مهمة في المعارضة. ليصبح شعار “ثورة سنية ضد نظام علوي” هو أساس الوعي لدى هؤلاء، وبات خطابهم طائفياً بامتياز، وبـ “بجاحة”.

ويردف: “لهذا من يتابع الإعلام، والشخصيات المعارضة المداومة فيه، يتوصل إلى نتيجة أن الثورة هي ثورة سنية حقيقة ضد نظام علوي”.

وأصبح يتكرر قول (إن السنة هم المستهدفون)، وأن النظام لا يقصف ويقتل ويدمر سوى السنة. ورغم ما في هذه المسألة الأخيرة من “صحة”، سنلمس أنها شكلية إلى أبعد الحدود، لأنها تنطلق من “واقع الصراع”، أو بالأدق من طبيعة المناطق التي تُقصف، لكن دون سؤال: هل أن هؤلاء ثاروا لأنهم سنة، أو أن الأمر مختلف تماما؟ وبالتالي هل يقصفهم النظام لأنهم سنة أو لأنهم تمردوا عليه؟ لا بد من أن نشير الى أن هذه النخب، خصوصا هنا جماعة “الإخوان المسلمين” والإعلام المرتبط بها، والهيئات التي هيمنت عليها، عملت على منع إبراز دور كل مناطق “الأقليات” خلال مسيرة التظاهرات، وكذلك تهميش كل الناشطين من “الأقليات”، والإصرار على إظهار أن “المناطق السنية” هي التي تتظاهر وتنتفض وتحمل السلاح.

كل ذلك من أجل تأكيد خطابها، لكنها في الواقع كانت تؤكد خطاب النظام. وهذا ما كان يخيف “الأقليات”، ويشل إمكانية مشاركة أكبر لهم في الثورة، تأسيسا على أنها ثورة شعبية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. من أجل إيجاد فرص عمل وأجر أفضل وتعليم أفضل، وديمقراطية. فقد عملت بالتالي على “قولبة” الثورة في الإطار السني، ولم تُرِد لها أن تشمل الشعب كله، انطلاقا من منظورها الطائفي، وحلمها هي بأن تحكم باسم “الأغلبية” (أي السنة)، تأسيسا على أن ذلك حق لها، ربما “حق إلهي” يفرض أن يكون الحكم للسنة”. فيما لم يتوقف “النظام السوري” عن إدارة الخوف ضد الشعب السوري بمختلف مكوناته، بداية من نشر الخوف من الشيوعيين والأكراد والسلفيين والسنة والمجموعات الجهادية و”الإخوان المسلمين”.

وهنا، ألمح المفكر عزمي بشارة إلى معضلة النظام في سوريا وغيره من الأنظمة في الشرق الأوسط بعد انتهاء المرحلة الكولونيالية حيث إخفاقها في تأسيس نظام ديمقراطي يتسع لإدارة التنوع، بل إن الحاصل هو استمرار حجج متباينة تاريخية لتثبيت الوضع الطائفي والديني لمواجهة أي حراك، بداية من التهديد بمخاطر الهيمنة لاستعمارية مرورا بالجماعات الراديكالية دينيا وحتى الأقليات القومية. بالتالي، فإن المواجهة المحسومة من خلال “أمننة” الصراع كان بتفجير كل الصراعات الجهوية وحمولاتها الهوياتية والطائفية.

ووفق عزمي بشارة فإن “أبرز مخاطر المجتمعات المركبة في حال عدم رسوخ الدولة الحديثة عندما توهم جماعة أنها تمتلك الدولة. وفي هذه الحالة يصبح تأكيد الجماعات الأخرى لهويتها مسألة اعتراض على هوية الجماعة التي تدعي امتلاك الدولة، وإذا كانت هوية الجماعة التي تمتلك الدولة أقلية، فإن شعورها بأنها ضحية تاريخية، يساهم في زيادة شدة القسوة في القمع، وهذا يعني انتشار سياسات الهوية في العمل السياسي بشكل يحول الصراع من أجل الحقوق إلى استقطاب هوياتي”. وعليه، الطائفية لم تكن لحظة “افتراء” في سوريا كما يصفها عزمي بشارة بل هي قائمة في صلب وهيكل النظام وبنيانه وراسخة.

يتفق في ذلك “مركز كارنيغي” والذي يوضح في دراسة معنونة بـ”مسيرة سورية من الانتفاضة المدنية إلى الحرب الأهلية” أن الطائفية قد غُرِسَت في تربة المجتمع السوري، قبل أمد طويل من قيام القوى الخارجية بدور جلل في الحرب الراهنة في البلاد وإلى مدى أوسع بكثير مما قد يعترف به من ينحي بلائمة الظاهرة على استراتيجية النظام الهادفة إلى التصدّي للانتفاضة. إذ تعود جذورها إلى أنماط الحكم التي مارسها “النظام السوري”، والتي خلفت وراءها إرثا ثقيلا من العنف، خاصة غداة الصراع مع جماعة “الإخوان المسلمين” في أوائل الثمانينيات. 

وهكذا، وبدل أن تكون الطائفية معطىً وجوديا قمعه نظام علماني مفترض، كانت في الواقع ثمرة السلوك السياسي لهذا النظام بالذات. وحالما تعرض هذا الأخير إلى تحديات خطيرة، كانت الطائفية جاهزة للاستخدام كأداة تعبئة له كما لخصومه، ووفّرت الوقود لتغذية نيران النزاع العنيف.

ويشير المركز إلى أهمية هذه الإضاءة الكاشفة للطائفية لسببين: الأول، أنها تمثل ردا على من يجادل بأنه مهما كانت الأنظمة السلطوية بغيضة، إلا أنها ضرورية لإدارة المجتمعات المنقسمة التي تقع خارج نطاق “العالم المتطور”. مثل هذه الإطلالة تستأهل الشجب والإدانة، لأنها تستند في العمق إلى مقولة الحتميات الثقافية، وأحيانا العنصرية، وأيضا لأنها تنحو إلى حجب نزوع العالم المتطور إلى تعميق ومفاقمة مثل هذه النزاعات، بهدف تحقيق مصالحه الاستراتيجية الخاصة. 

صورة أرشيفية لمشهد من الدمار الكبير جراء القصف الجوي على حلب، سوريا- “إنترنت”

ونقول إلى أولئك الذين ينافحون عن الأنظمة السلطوية من منظور “الواقعية السياسية”، أنه يجدر أن نتذكر أن التعايش مع الطغاة هو انتهازية مهزومة ذاتيا، من حيث أنها تؤخر فقط، وربما تفاقم، تمردا لازما وحتميا.

السبب الثاني، هو أن التعاطي بجدية مع السطوة الثقيلة وطويلة الأمد للطائفية وفهم أصولها، سيكونان ضروريين حالما يضع الصراع السوري أوزاره ويزف أوان المصالحات في المجتمع. هنا، قد يقود إنحاء لائمة العنف على المناورات الشريرة للنظام إلى محصلات تبسيطية مفرطة، مؤداها أنه حالما يحمل “نظام الأسد” عصاه على كاهله ويرحل، سيعود السوريون تلقائيا إلى معطى التسامح مع التعددية الدينية التي زعم أنها كانت سائدة في حقبة ما قبل الحرب. وحينها قد تسمح روح المواطنة التي انطلقت خلال بواكير الانتفاضة، ربما بمساعدة برامج المصالحة وبناء السلام بدفع خارجي، بتحقيق ما يقول ممثلو المعارضة أنه الطموح الحقيقي للشعب السوري، أي: “منح كل السوريين الحق في العيش بسلام وكرامة، وممارسة شعائرهم الدينية ومعتقداتهم السياسية بحرية، والمساواة بين الجميع أمام القانون”. وهذا، كما هو معروف، هو نفسه التعريف المَرجعي لمفهوم الدولة الليبرالية.

وهذه الاستراتيجية المتوحشة للنظام المتبنية للعنف الطائفي والتي تقوم ممارساتها البدائية على الانتقام والتمثيل بالجثث والتعذيب تفضح تغييب أي هوية وطنية جامعة. لذا يقول عزمي بشارة: “كان الخيار المسلح، خيار النظام، وليس خيار الثورة. فلم تكن هناك أصلا ثورة منظمة، ذات قيادة مركزية، تفكر في البدائل وتضع الخيارات، بل ردود فعل عفوية، ضد النظام من شعب حرق جسور العودة إلى الماضي، وتصاعدت ردود الفعل واتخذت أشكالا تنظيمية، وواجهات سياسية، تخشى النتائج، وتحذر من السلاح، حيث لا ترى بديلا عنه، وثالثة، تزايد في الدفع لاستخدامه. أما النظام فخطط خياره الأمني بوعي كامل، وخاضه حتى النهاية متحالفا مع إيران وأدواتها ومع روسيا”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات