يمثل الوجود الفصائلي أو إن جاز التعبير “الميليشياوي” في شمال غرب سوريا، كما هو الحال، مع فصائل ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري”، والذي يضم فصائل إسلاموية تنتمي إلى السلفية الجهادية المتشددة والراديكالية، وانبعاث القومنة بمرجعيتها المعادية للآخر بينما تنبذ وجوده وتضعه في خصومة وجودية معه، فضلا عن الأسلمة في صيغتها الرجعية والمؤدلجة، طبيعة أبعد من كونها عملية احتلال مؤقت مدعوم من قوى إقليمية مثل تركيا.

بل إنه يفضح محاولات قصوى للتفشي في البناء الاجتماعي، والتسلل إلى هياكل هذا البناء لهدمه وتفكيكه بغرض تشكيل وعي مغاير وظهور حوامل اجتماعية جديدة لا تماثل صفات السكان الأصليين.

فصائل المعارضة والنهب السريع

هذا الانزياح الاجتماعي يكشف عن سياسة تركية مراوغة تتبناها حكومة رجب طيب أردوغان، والذي يدعم القوى الإسلاموية المسلحة بينما يقوم بتوطين العرب والتركمان، حيث لا تتوقف أنقرة عن صناعة مشهد دموي بالسلاح والتدمير وإبادة الكُرد، إنما تواصل تشكيل هذا المشهد المتخم بحالات اشتهاء القتل بوسائل وأنماط غير مباشرة عبر إيجاد قوى جديدة بعد التهجير والتغيير الديمغرافي. ولا تعدو المؤسسات التعليمية والتنموية والخيرية والمراكز الثقافية والدينية التي تباشر تركيا بواسطة وكلائها المحليين في تدشينها سوى كونها مجرد آليات عملية لتحقيق بنى اجتماعية قادرة على النفاذ إلى المجتمع الكُردي، ومحاولة حرفه عن مسارات المقاومة والسقوط في أفخاخ مشروع تغيير هوياتي وإبادة تبدو ناعمة ومستترة بخلفيات وأقنعة عديدة، متوحشة وعنيفة وخشنة، فضلا عن وسائل تبدو طبيعية ومرنة تتخفى في الثقافة والتعليم.

فصائل “الجيش الوطني السوري” ينهبون ممتلكات المدنيين الكُرد في عفرين- “أ ف ب”

ومنذ تنفيذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهديداته الهمجية وشن هجماته العسكرية على شمال وشمال شرقي سوريا، وإطلاق يد الفصائل المتوحشة فيها، في عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، كانت النتائج كارثية على المستوى الإنساني والتي تسببت مثلا في نزوح مئات الآلاف من المواطنين الأكراد، وفق تقارير محلية وأجنبية، ناهيك عن ممارسات عدوانية عنصرية تراوحت بين نهب وسرقة الممتلكات والثروات للكُرد والسريان وباقي مكونات المنطقة، واضطهاد على أساس قومي، طاول العناصر الكُردية، بوجه الخصوص. كل ذلك يرقى إلى “جرائم حرب” بحسب توصيف المنظمات الأممية.

وعلى تخوم هذه السياسة العدوانية التي تماثل أنظمة الأبارتهايد، كان يجري التغيير في الطبيعة السكانية والدميغرافية للمنطقة، ثم تبديد عمرانها الثقافي والبشري. فمحصول الزيتون المسروق من الفصائل السورية المدعومة من تركيا بقيمة 160 مليون يورو كما وثقت صحيفة “لوبون” الفرنسية عام 2018، لا يختلف عن نمط سرقة الهوية وتبديدها حيث قتل شباب لمجرد الاحتفال بعيد “النوروز” الكُردي أو اعتقال سيدة عشوائيا لمجرد ارتدائها زي كُردي وإرغام الجميع على التعلم والتلقي باللغة العربية وتعميم قيم إسلامية بنسخة “عثمانية” وإسلاموية مؤدلجة وأصولية. فالمؤسسات التعليمية والثقافية والدينية تتولى عبر المناهج تعميم هوية لشرعنة الوجود التركي.

لكن في ما يبدو أن محاولات تركيا تبديد الهوية الكُردية، وكذا جعل الفصائل العسكرية “الميليشياوية” تتسيد المشهد وتصنع بوسائلها القمعية صورة دموية لنشر الرعب من المعارضة والمقاومة، والاستجابة من خلال الوسائل التعليمية والمعرفية، تخفق في تحقيق أغراضها.

وثمة عوامل عديدة لذلك بغض النظر عن صمود وصلابة الشعوب التي لها جذور تاريخية وأبعاد ذلك السوسيوثقافية. وهنا، يتبدى الفشل من عامل ليس نظريا إنما من واقع التكوين الانتهازي المافيوي للفصائل المدعومة من أنقرة. وهذا البناء اللصوصي الارتزاقي لا يضع في الاعتبار أي قدرات أيديولوجية للمواجهة بل يصنع مواجهة ارتطامية تصادمية.

العصابات التاريخية وقصة “الأرض المحروقة”

وتبرز طبيعة التنظيم المافيوي المتمثل بـ(الجيش الوطني السوري) الذي شكلته تركيا وتضع على عاتقه مهمة إدارة البيئة السياسية والاجتماعية بشمال غرب سوريا من خلال ممارساته التي تقوم على النهب والسرقة، الأمر الذي تؤكده حالات الاقتتال بين الفصائل بشكل متكرر. وهو صراع يكشف عن منطق غياب الإدارة والحوكمة بل فساد يطغى على تنظيم بلا هيكل أفقي أو رأسي ويقوم على فكرة “الأرض المحروقة” مثل العصابات التاريخية مهما تطور شكلها المتعين تنظيميا وبدا متطورا.

الصراع على السلطة والثروة والنفوذ هو العنوان الذي يحكم الفصائل “الميليشياوية” الإسلاموية السورية المدعومة من أنقرة، وتتحول الغرف العسكرية إلى منافذ سرية لتشكيل آليات سريعة لتراكم المال من خلال معابر التهريب مثلا.

ووفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” فإن الاشتباكات الدامية قد اندلعت قبل عام تقريبا “بالأسلحة الرشاشة المتوسطة والخفيفة بين مجموعتين من فصيل “الجبهة الشامية” التابع لفصائل “الجيش الوطني السوري”، بالقرب من دوار القبان في وسط مدينة عفرين، إثر مشاجرة بين مجموعتين من ذات الفصيل، وتطورت المشاجرة إلى حدوث اشتباكات عنيفة بين الطرفين، كما أدت الاشتباكات إلى انقطاع طريق عفرين – أعزاز، شمال حلب، دون ورود معلومات عن خسائر بشرية”. ولم تكن الاشتباكات سوى أحد فصول الصراع المتكرر والتقليدي بين هذه القوى الميليشياوية وبعضها بما يؤشر إلى احتمالية تكراره وتصاعده مجددا في أي لحظة طالما شروطه قائمة.

الجيش الوطني التابع لـ”الحكومة السورية المؤقتة”، والذي قد تأسس في نهايات العام 2017، ما زال غير قادر على تصفية الحالة الفصائلية البدائية، بمعنى غياب التنظيم المتماسك بنيويا والارتهان للقائد داخل كل حلقية، وتبعية كل فصيل إلى قائده. من ثم، فإن هذا المسمى التعريفي “الجيش الوطني السوري” وتبعيته السياسية للحكومة المؤقتة وارتباطه الإقليمي بتركيا، تبدو قوائم مشتركة تعاني الوهن والضعف وليست بقادرة على التمدد والنفوذ وتأمين نفسها من التفكك والصدام.

والقرار العسكري ليس له مرجعية واحدة شمولية، بل يتحدد بناء على واقع كل فصيل ومحدداته ومصالحه التي قد تكون متضاربة مع الآخرين من داخل التنظيم الذي يضم هذا الطيف المسلح، ولهذا استقال سليم إدريس في النصف الثاني من عام 2021، والمعين بمسمى وزير الدفاع في “الحكومة المؤقتة” ثم حل محله العميد الطيار حسن حمادة من دون أن يحقق أفق جديد.

ألغام في طريق بقاء فصائل المعارضة

منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، تجدد الاقتتال بين الفصائل، إذ شهدت محاور عبلة وتل بطال بريف الباب شرقي حلب، بعد منتصف الليل اقتتالا مسلحا بين الفصائل الموالية لأنقرة، حيث دارت اشتباكات عنيفة بين مجموعة أحرار عولان من طرف، وكتيبة “أبو دجانة الكردي” من طرف آخر، وانفجرت ألغام خلال الاشتباكات.

دوار في مدينة عفرين الخاضعة تحت سيطرة تركيا وفصائل “الجيش الوطني”- “إنترنت”

عقب ذلك عملية تسلل نفذتها “قوات تحرير عفرين” على مواقع الفصائل المتقاتلة على محور عبلة بريف الباب، وسط إسناد مدفعي.

وأسفر ما سبق عن مقتل 14 من الفصائل على الأقل، وإصابة 5 آخرين بجراح وعدد القتلى مرشح للارتفاع لوجود معلومات عن قتلى آخرين. وكان 3 عناصر من “الجيش الوطني”، قتلوا في التاسع من الشهر الجاري نتيجة اشتباكات مع “قوات تحرير عفرين” على محور حزوان بريف الباب شرقي حلب، وسط تبادل للقصف المدفعي المكثف. وعلى صعيد متصل، اندلعت اشتباكات على محور مرعناز شمال غرب محافظة حلب، بين قوات حكومة دمشق والقوات الكُردية من جهة و”الجيش الوطني” من جهة أخرى، وفق المرصد السوري.

تكاد تؤدي فصائل “الجيش الوطني السوري” دورا براغماتيا ووظيفيا بالنسبة إلى تركيا، بما يجعل وجودها مؤقتا من الناحية السياسية، أما العسكرية فهي مهددة بنفس درجة التناقضات التي تسمح لها بالوجود الميداني وتهدد استمرارها بل قد تجعلها تتلاشى في أي لحظة دون أدنى مقاومة بمجرد رفع الحماية التركية عنه.

مصير “الجيش الوطني السوري” لن يكون بعيدا عن مطالب وتحركات تركيا الملحة في عموم الملف السوري.

فهذا الوجود بلا شرعية سوى قوة السلاح التي يملكها والدعم الخارجي الذي يضعه الفصائل “الميليشياوية” في بيئة ليست بيئته ولا يتواجد داخلها أو مع الأفراد العاديين تطبيع اجتماعي وثقافي. مجرد أداء دور حارس البوابة التركية بقوة عسكرية حليفة كما حدث مع آخرين منهم تنظيم “داعش” الإرهابي و”هيئة تحرير الشام” وجميعهم تواجد على الحدود المتاخمة لتركيا لم يكن بمحض المصادفة هو ما تضطلع به فصائل “الجيش الوطني السوري”. 

بالتالي فإن مصير “الجيش الوطني السوري” لن يكون بعيدا عن مطالب وتحركات تركيا الملحة في عموم الملف السوري والتسوية التي ستذهب إليها. وفي حال حدثت انعطافة سياسية جادة ستكون هذه الفصائل بشكل أو بآخر بلا أفق وربما تندمج بعد إعادة هيكلة سياسية وأمنية في جيش الحكومة السورية في دمشق. لكن استمرار السيطرة المحلية كما هو الحال لا تتوافر له أي شروط وضمانات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات