تفاقمت ظاهرة “عمالة الأطفال”  في سوريا، كإحدى أخطر انعكاسات الحرب والأزمات الناتجة عنها من نزوح وتهجير ولجوء وفقدان المعيل، والتي تنعكس سلباً على بنية المجتمع، وتُعدّ انتهاكاً لحقوق الطفل التي أقرّتها الأمم المتحدة، وتمنع الأطفال من حقّهم في التعليم، وتعرّضهم للأخطار، وتشكّل تهديداً مباشراً على سلامتهم الجسدية والمعنوية والفكرية.

ووفقا لتقرير منظمة صندوق الطوارئ للطفولة التابع للأمم المتحدة (اليونيسيف) لعام 2022، فإن 90 بالمئة من الأطفال السوريين يحتاجون إلى دعم، مؤكدا أن عمالة الأطفال المشكلة الأوسع انتشاراً والأكثر تعقيدا من مشكلات حماية الطفل، حيث ذكر التقرير إن أكثر من 2.4 مليون طفل في داخل سوريا لا يذهبون إلى المدارس.

وكان معاون وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية، محمد نبهان، قد صرّح لصحيفة “الوطن” المحلية، في وقت سابق، بأن ظاهرة عمالة الأطفال تُعدّ من بين أبرز المشكلات الاجتماعية التي تواجه المجتمع السوري، مُرجعاً سبب تفشيها في مناطق سيطرة الحكومة السورية إلى الفقر والحاجة وغياب المعيل والتفكك الأسري. فيما قدّرت أستاذة علم الاجتماع في جامعة دمشق، هناء برقاوي، ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في سوريا خلال أعوام الحرب يقدر بنحو 20-30 ضعفاً، وهي أرقام تتعارض مع ما صرّح به نائب وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، محمد نبهان.

ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في سوريا خلال أعوام الحرب يقدر بنحو 20-30 ضعفاً،

أستاذة علم الاجتماع هناء البرقاوي

في شمال غربي البلاد، حيث تسيطر المعارضة السورية، أشارت “شبكة حرّاس الطفولة” إلى صعوبة الحصول على إحصائيات دقيقة حول عمالة الأطفال بسبب التحدّيات اللوجستية وانعدام آليات التوثيق المناسبة، لكن “وحدة تنسيق الدعم” التابعة لـ “الائتلاف السوري المعارض”، قدّرت عدد الأطفال العاملين في إدلب بـ 344.220 طفلاً تقريباً، في دلالة على امتداد وتعمّق هذه المشكلة في جميع أنحاء البلاد.

أطفال يعملون في احدى ورش تصليح السيارات
أطفال يعملون في احدى ورش تصليح السيارات

عوامل انتشار عمالة الأطفال بسوريا

تُعد ظاهرة “عمالة الأطفال” في شمال سوريا من أكثر الظواهر التي تؤثر على الأطفال والمجتمع. على الرغم من أن هذه الظاهرة ليست نتاج الحرب والنزوح وحدها، إلا أنها تفاقمت بشكلٍ كبير بفعل هذه العوامل وأصبحت أكثر تعقيداً وصعوبة في الحل. 

في الشمال السوري، زادت هذه الظاهرة لأسباب متعددة، أهمها التهجير والنزوح المستمر وفقدان المعيل. وهذا ما أكدته آلاء مغربية، الأخصائية في حماية الطفل بمنظمة “بيت الطفل” النشطة في شمال سوريا، في حديثها لـ”الحل نت”، أن غياب نظام تعليمي رسمي مساند للأطفال في المراحل الإعدادية يشكّل السبب الرئيسي، إلى جانب الفقر والنزوح المتكرر، وفقدان المعيل وقلّة الوعي بخطورة تفشّي هذه الظاهرة على الأفراد والمجتمع. وأضافت أن استغلال بعض أصحاب العمل للأطفال يفاقم من خطورة الوضع نظراً لانخفاض أجورهم وسهولة التحكم بهم.

تزدهر ظاهرة عمالة الأطفال في مخيمات اللاجئين شمال سوريا، حيث تستغل المناطق التي تستقطب قسماً كبيراً من الأطفال بأجور زهيدة، لا تتناسب مع الجهد الجسدي المبذول منهم

تزدهر ظاهرة تشغيل الأطفال بشكل خاص في مخيمات اللاجئين، حيث تستغل المناطق التي تستقطب قسماً كبيراً من الأطفال بأجور زهيدة، لا تتناسب مع الجهد الجسدي المبذول منهم. عند البحث عن الأعمال والمِهن التي يمارسها الأطفال في هذه المناطق، نجد أن الأغلبية تعمل في مجال جمع القمامة لبيع المواد القابلة لإعادة التدوير مثل البلاستيك والحديد، والعمل في نقل وحمل البضائع، وضمن ورشات تصليح السيارات، وكذلك العمل في الحقول الزراعية وجني المحاصيل.

وأوضح أحمد المحيميد، مدير “برنامج حماية الطفل” في “منظمة الرواد”، لـ”الحل نت” أن النسبة الأكبر من عمالة الأطفال في الفئة المدروسة تعمل في القطاع الزراعي بنسبة تتجاوز 45 بالمئة ، يليه العمل في القطاع الخدمي بالمحلات التجارية، ثم في قطاع البناء والصناعة، بالإضافة إلى التسول وجمع البلاستيك من مكبات القمامة.

أطفال في إحدى المخيمات شمال سوريا
أطفال في إحدى المخيمات شمال سوريا

تساؤلات حول”القانون السوري” الحد من عمالة الأطفال؟

يُظهر القانون رقم 21 لعام 2021، الخاص بحقوق الطفل في سوريا، نيّة واضحة نحو حماية الأطفال من الاستغلال في سوق العمل، خاصة في مادته الـ 36 التي تُحظر تشغيل الأطفال دون سنّ الخامسة عشر. ومع ذلك، تستمر أعداد الأطفال العاملين في الارتفاع، مما يشير إلى فجوة بين النيّة التشريعية والواقع المُعاش. القانون ينصّ أيضاً على تجريم استغلال الأطفال اقتصادياً أو في أعمالٍ تشكّل خطورة على صحتهم أو تعليمهم، مع تحديد عقوبات لمَن يخالف هذه الأحكام.

المسؤولون في الحكومة السورية ومنظمات حقوق الإنسان المتواجدة في مناطق سيطرتها، إلى جانب المنظمات العاملة في مناطق سيطرة المعارضة السورية، يؤكدون جميعهم على تفشّي ظاهرة “عمالة الأطفال”. حيث أشار عمار عز الدين، مدير مكتب “رابطة المحامين السوريين الأحرار”، إلى أن القانون يعاني من قصور تشريعي، حيث يُجرم فقط عمالة الأطفال دون الخامسة عشر دون الأخذ بعين الاعتبار الشروط الإضافية التي ينبغي توافرها لتطبيق العقوبة.

وفقاً للمادة 61 من القانون، فإن المخالف لهذه الأحكام يُعاقب بالسجن من شهر إلى ثلاثة أشهر وغرامة تصل إلى 100 ألف ليرة سورية (10 دولار أميركي)، مما يطرح تساؤلات حول فعالية هذه الإجراءات في الحد من هذه الظاهرة.

يُجرم القانون السوري تشغيل الأطفال، وقد تصل عقوبة من يُشغل الأطفال بالسجن 3 أشهر, وغرامة تصل الى 100 الف ليرة (10 دولار أميركي)

بدوره أكد الحقوقي إيهاب عبد ربه خلال حديثه لـ”الحل نت” على أن جوهر المشكلة في سوريا يكمن في تحديات تطبيق القانون، مشيراً إلى أن “السلطات التنفيذية” في مناطق الحكومة السورية تواجه صعوبةً في فرض القانون دون توفير البدائل المناسبة. ونوه عبد ربه إلى انتشار ظاهرة “عمالة الأطفال” بشكل واسع في البلاد، لديه عدة أسباب حيث تجد الحكومة نفسها عاجزة عن منع هذه الظاهرة دون تقديم الدعم المادي اللازم للأطفال، وضرورة افتتاح المدارس وتوفير بيئة صحية ونفسية آمنة لهم.

ويضيف أن الوضع في المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة السورية ليست بأفضل حال، حيث يعيش مئات الآلاف من الأطفال في المخيمات دون وجود معيل أو مدارس أو ظروف معيشية مناسبة، مما يضع تساؤلاً جوهرياً: كيف يمكن الحدّ من هذه الظاهرة في ظل هذه الظروف القاسية؟ ويرى عبد ربه أن الحل يتطلب تضافر الجهود لإيجاد حلول مبتكرة تتناسب مع الواقع السوري الراهن وتلبي احتياجات الأطفال الأساسية المُلحّة التي يحتاجونها.

دولياً، تنقسم عمالة الأطفال المحظورة قانونياً وفقاً للقانون الدولي إلى ثلاث فئات رئيسية: الأولى تشمل أسوأ أشكال عمالة الأطفال، التي تُعرف دولياً بالاستعباد، الاتجار بالبشر، العمل لسداد دين، جميع أشكال العمل القسري، وتجنيد الأطفال قسرًا في الأعمال. الفئة الثانية تتعلق بالعمل الذي يؤديه الأطفال دون السن القانونية المحددة لهذا النوع من العمل، والذي قد يعيق تعليم الطفل ونموه الكامل.

أما الفئة الثالثة فتشير إلى العمل الذي يهدد صحة الطفل الجسدية، الفكرية والمعنوية، نظرًا لطبيعة العمل أو الظروف التي يُنفذ فيها. ووفقًا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة الـ “يونيسيف” لعام 2022، يتعرض الأطفال لاستغلال واضح من حيث الأجور مقارنةً بالبالغين؛ حيث أن متوسط دخل الطفل اليومي حتى سن 15 عامًا لا يتجاوز 25 ليرة تركية (أقل من دولار أميركي واحد)، وفي أفضل الحالات، قد يتقاضى بعضهم 15 دولاراً أميركياً شهرياً. 

مخيم للاجئين السوريين في شمال شرق سوريا

عمالة الأطفال في تركيا ولبنان والأردن

في سياق الأزمة السورية وتداعياتها على الأطفال، تبرز عمالة الأطفال السوريين في دول اللجوء مثل تركيا، لبنان، والأردن كأحد التحديات الكبيرة التي تواجه المجتمعات المضيفة والمنظمات الإنسانية العاملة فيها. حتى نهاية أغسطس/آب 2021، بلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا نحو 3.7 مليون، نصفهم تقريباً من الأطفال دون سن 18 عاماً، مع تسجيل حوالي 770.000 طفل في المدارس التركية. 

وبحسب إحصائية للمديرية العامة للهجرة في تركيا، صدرت في عام 2020، فإن عدد الأطفال دون سن العاشرة 1.045.617 طفًلا، أي ما نسبته 28.8 بالمئة من إجمالي عدد السوريين البالغ 3.627.481.

في لبنان، كشف تقييم للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين عام 2020 عن وجود 89 بالمئة من أسر اللاجئين السوريين تحت خط الفقر المدقع، مما يضطر العائلات إلى اللجوء إلى استراتيجيات سلبية للتكيف مثل تخفيض الوجبات، إخراج الأطفال من المدارس وتشغيلهم، وزيادة عمالة الأطفال السوريين التي قُدر عددهم بحوالي 65.000 طفل عامل في 2019.

 أما في الأردن، تشير أرقام المفوضية إلى أن الأطفال السوريين يشكلون 50 بالمئة من إجمالي اللاجئين السوريين البالغ عددهم أكثر من 657.000 لاجئ. حيث أن أكثر من 330.000 طفل سوري لاجئ يقيمون في الأردن دون 18 عاماً، مع 83.000 منهم غير ملتحقين بالمدرسة أو انقطعوا عنها. 

الانقطاع المفاجئ للمساعدات التي كانت تُقدم من المنظمات الدولية، إلى جانب إغلاق مكاتبها في بعض المدن الأردنية، أدى إلى زيادة الضغوط على اللاجئين لتأمين احتياجاتهم الأساسية.

الصحفي محمد الأحمد

الأزمة الاقتصادية والتحديات المالية، بما في ذلك تأثير التضخم وزيادة الأسعار، زادت من الضغوطات على اللاجئين السوريين، مما أدى إلى تفاقم ظاهرة عمالة الأطفال. وبحسب الصحافي محمد الأحمد الذي أشار إلى أن الواقع المعيشي الصعب والتراجع الاقتصادي في الأردن، قد أثر بشكل كبير على اللاجئين السوريين.

وأضاف الصحفي الأحمد خلال حديثه مع “الحل نت” أن الانقطاع المفاجئ للمساعدات التي كانت تُقدم من المنظمات الدولية، إلى جانب إغلاق مكاتبها في بعض المدن الأردنية، أدى إلى زيادة الضغوط على اللاجئين لتأمين احتياجاتهم الأساسية. هذا الوضع المعيشي المتدهور كان من الأسباب الرئيسية وراء تفاقم مشكلة عمالة الأطفال، حيث أصبح حوالي 70 بالمئة من الأطفال السوريين دون سن الثامنة عشر يعملون في الأسواق الأردنية، وفي مجالات عدة مثل ورشات تصليح السيارات والمطاعم والتسول. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد نحو 60 بالمئة من العائلات السورية على أجور أطفالها كمصدر رئيسي للدخل.

عمالة الأطفال بين الواقع والمأمول

وبالرغم من سعي المنظمات الدولية والمحلية لوضع حدٍّ لظاهرة عمالة الأطفال، إلا أن هذه الجهود لم تجد، كونها محدودة، فيما يتطلب وضع حد لهذه الظاهرة جهودا كبيرة بين السلطات المعنية ومنظمات المجتمع المدني ، إذ لا يمكن لجهود المنظمات المحلية وحدها، تغطية هذا العدد الهائل من الأطفال العاملين، كما أن المنظمات تفتقر للتمويل اللازم ودعم السلطات، لتنفيذ مشاريع تضمن عدم لجوء الأطفال للعمل.
ووفقا للمحيميد، مدير “برنامج حماية الطفل” في منظمة الرواد، لـ”الحل نت” فإن جهود المنظمات تقتصر على حملات التوعية بخطورة عمالة الأطفال، والتي لا تلقى آذانا مصغية، نظرا للواقع المعيشي المتردي، مؤكداً أن الحل يكمن في إلزامية التعليم وتحسين الواقع الاقتصادي للعائلات وتأمين فرص عمل للكبار، ووضع وتطبيق قوانين أكثر صرامة لعمالة الأطفال، وصياغة أنظمة لمراقبة هذه الظاهرة، وتوفير شبكة دعم اجتماعي للأسر للمساعدة على مواجهة الواقع.
لا يمكن النظر إلى ظاهرة عمالة الأطفال بمعزل عن الأسباب والنتائج والظروف المحيطة بها، ولا يمكن الحدّ منها دون إيجاد حلول لمسبباتها، ما يتطلب تضافر كافة الجهود بين السلطات ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات التي تضع القوانين والجهات الرقابية التي تراقب تنفيذها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات