للحروب نتائجٌ كارثية تعود سلباً على الشعوب التي ترضخ تحت قسوة الحرب والنزاعات المتمثلة بأطراف عدّة، وكلما زادت المدّة كلما تضاعفت النتائج السلبية سواء الاقتصادية منها أو الإجتماعية والتي تؤثر بشكل مباشر على الحالة النفسية عند الشعوب مما يدفع ببعض الفئات المجتمعية للتخلص من حياتها. ومع دخول العام الرابع عشر للحرب تعاني سوريا أوضاعاً اقتصادية صعبة مع فقدان العملة لقيمتها، وتراجع ترتيبها في معظم المؤشرات الحقوقية على مستوى العالم إضافة إلى صعوبة العيش وغياب أبسط مقومات الحياة، وغياب الحلول عن الأفق القريب وتدني سقف الآمال بانفراجة قريبة علاوة على غياب الأمن والاستقرار في كامل الجغرافيا السورية.

وشهد مطلع العام الجاري تزايداً ملحوظاً في معدل الانتحار في عموم مناطق سوريا على اختلاف الجهات المسيطرة، و فقاً لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن الظروف التي تمرّ بها البلاد أدت إلى ارتفاع معدل الانتحار بمختلف الوسائل جلّهم من فئة الشباب.

نسبة الانتحار في ازدياد..وفئة الشباب هم الضحايا

أخبار الانتحار أو محاولته في سوريا باتت عناوين عريضة لحالات متكررة بشكل شبه يومي تتصدر أخبار الصحف والمقالات ونشرات الأخبار، وبعد أن انخفضت معدلات الانتحار بين عام 2022 و 2023 عادت الجهات المسؤولة للتحذير من ارتفاع معدلات الانتحار مع بداية العام الجاري مقارنة بالأعوام الماضية.

إذ أشار فريق “منسقو استجابة سوريا” الناشط في شمال غرب سوريا في تقرير له نشر في 10 من شباط/ فبراير الماضي، إلى زيادة نسبة الانتحار بمقدار 120 بالمئة قياساً بعدد الحالات المسجلة في العام الماضي، وأكد المصدر أن فئة الأطفال والشباب هم الفئة الأبرزمن فئات الضحايا حيث تم تسجيل 12 حالة انتحار خلال الأسبوع الماضي.

سجلت “مديرية الصحة” في مدينة إدلب 22 حالة انتحار من بينهم 4 أطفال منذ بداية العام الحالي

ومن جهتها سجلت “مديرية الصحة” في مدينة إدلب 22 حالة انتحار من بينهم 4 أطفال، وقال مدير العلاقات العامة في “مديرية الصحة” في إدلب غانم الخليل لـ “الحل نت” أن ظاهرة الانتحار بين الشباب والأطفال في ازدياد ملحوظ منذ بداية العام، وما زالت “حبوب الغاز” هي الطريقة الأكثر انتشاراً بين هذه الفئة  بالرغم من التدابير الاحترازية التي اتخذتها “وزارة الزراعة” في “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”  في توزيع هذه الحبوب والعمل على التوعية من مخاطر تناولها التي تؤدي إلى فقدان الحياة، و”حبوب الغاز” أو “حبوب الغلة” كما يطلق عليها شعبياً في الشمال السوري، هي أقراص تُستخدم كمبيد حشري من أجل حفظ الغلال المختلفة من التسوس، إلا أنها باتت تُستعمل كوسيلة للانتحار.

بدورها وثّقت “الهيئة العامة للطب الشرعي” في المناطق الواقعة تحت سيطرة “الحكومة السورية” 28 حالة انتحار منذ بداية عام 2024. أرقام أكدها مسؤول في “الهيئة العامة للطب الشرعي” لـ “الحل نت” خلال اتصال هاتفي معه. 

وفي هذا السياق وضّح المختص النفسي باسل نمرة، أن سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تخلق نوعاً من الاضطراب النفسي و هي من الأسباب الرئيسية لانتحار الأطفال والمراهقين بالإضافة إلى أن استخدام المواد المخدرة، إذا كان موجود لدى هذه الفئة، فإنه أحد الاسباب التي تؤدي الى الانتحار. بالاضافة الى مشاكل الأسرة والعلاقات الاجتماعية.

صورة تعبيرية عن ظاهرة الانتحار في سوريا

احصائيات غير دقيقة من قبل الحكومة السورية  

كشف مدير عام “الهيئة العامة للطب الشرعي” في سوريا زاهر حجو لـ صحيفة “الوطن” المحلية، أنه خلال العام الماضي انخفضت نسبة حالات الانتحار في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، حيث سجلت الهيئة في تقريرها 146 حالة توزعت على مناطق حلب، دمشق، السويداء، حماة وطرطوس.

وبلغت نسبة انخفاض حالات الانتحار 0.16 بالمئة  باختلاف طرق الانتحار من طلق ناري أو شنق أو طعن أو تسمم، وكانت المناطق الخاضعة لـ الحكومة السورية، شهدت خلال  العام الماضي 159 حالة انتحار مسجلة وفقاً لـ”هيئة الطب الشرعي” في سوريا. لكن مصدر مسؤول من داخل “هيئة الطب الشرعي” شكّك في تلك الأرقام، حيث قال المصدر والذي رفض الكشف عن اسمه لـ “الحل نت”،  إن حالات الانتحار التي تصل إلى المشافي تؤكد أن الأرقام المُعلنة عنها من قبل الجهات المسؤولة ليست دقيقة، بل أن نسبة الانتحار أعلى بكثير مما يتم التصريح عنه رسمياً.

حالات الانتحار التي تصل إلى المشافي الحكومية تؤكد أن الأرقام المُعلنة عنها من قبل الجهات المسؤولة ليست دقيقة، بل أن نسبة الانتحار أعلى بكثير مما يتم التصريح عنه رسمياً.

مصدر خاص من داخل هيئة الطب الشرعي

كما أكد المصدر أن معظم حالات الانتحار تكون نتيجة عدم الجدوى من الحياة ضياع هوية الشباب السوري وسوء الأوضاع المعيشية والبطالة والتفكك الأُسري، كما لا يخلو الأمر من أسباب أخرى لكنها تندرج كحالات استثنائية وليست صفة عامة وبارزة.

ولفت المصدر ذاته أن هناك سلبيات واضحة في قطاع الطب الشرعي الذي يعاني من نقص الكادر البشري وانخفاض عدد منتسبيه من الأطباء إلى الثلث، موضحاً أن عدد الأطباء البشريين الشرعيين العاملين في سوريا كلها يبلغ 52 طبيباً فقط.

سلوكيات ما قبل الانتحار

تختلف الآراء النفسية والاجتماعية حول ظاهرة الانتحار وبحسب علم النفس فإن من ينتحر هو ضحية ذروة العدوان التي يوجهها لنفسه بدلاً من الميل نحو المجتمع، فكلما كان الشخص أكثر اندماجاً في المجتمع قل احتمال ميله إلى الانتحار، ومع انخفاض مستوى الاندماج يزداد احتمال الناس بالانتحار.

ولفهم الانتحار كظاهرة باتت شائعة في المجتمع السوري لا بدّ من الوقوف على سلوكيات المنتحر فلا شك أن القرار لا يكون ارتجالياً بل يأتي نتيجة حتمية لسلوكيات بارزة. وفي هذا السياق ترى أسماء السويد، مختصة في المجال التربوي، أن هناك رسائل يوجهها من يفكر بالانتحار للمحيط تأتي هذه الرسائل على شكل تغييرات واضحة توحي بعدم راحة الشخص وعدم رضاه عن الحياة، ومن الممكن أن تكون عبر عبارات يرددها  تدل في مضمونها على عدم الرغبة في العيش والاستمرار في المحاولة أو حتى تصل إلى مرحلة متطورة يعبر خلالها الشخص عن رغبته في الموت، وأضافت المتخصصة أسماء السويد، عن أن هناك رغبة للمنتحر للوصول إلى مرحلة الراحة والأمان التي يمكن أن يلقاها في الموت.

كما أشارت السويد أن هناك بعض السلوكيات التي يلجأ لها من يفكر بالانتحار كالانطواء والانعزال عن المحيط إضافة لشعوره بالدونية والحزن وانخفاض قيمته الذاتية وتدني استحقاقه ونظرته لنفسه ومستوى تعويله على انجازاته المستقبلية.

ومن العوامل التي تؤدي إلى الانتحار المعاناة من مرض ثنائي القطب، التنمر، أو فقدان أحد أفراد العائلة بحادث مأساوي إضافة إلى أسباب أخرى

وفي دراسة جديدة نشرتها جامعة “نوتنغهام” البريطانية، تم الإشارة إلى أن الأفكار الانتحارية تسيطر على الدماغ في الشتاء لكن الإقدام على الانتحار يتبلور في فصلي الربيع والصيف.

ويقول بريان أوشيا، الباحث الرئيسي في الدراسة، “المفاجئ أن الربيع هو الوقت الذي يفترض فيه أن مزاج الناس يتحسن لكن في الواقع يكون فيه الناس أكثر عرضة لخطر الانتحار”.

صورة تعبيرية عن الانتحار في سوريا

هل هناك حلول للحد من الظاهرة؟

يعاني السوريون من أوضاع اقتصادية ومعيشية وتعليمية صعبة على اختلاف التوزيع الجغرافي، ويواجهون بدورهم تحديات تحتاج إلى استجابة دولية كبيرة وتكاتف من قبل المنظمات الإنسانية العاملة في سوريا بشكل واضح، وسط غياب الحالة المؤسساتية القائمة على حاجة مجتمعية وليس حاجة خارجية يزيد من انتشار الظاهرة أكثر في المجتمع السوري.

يقول المختص في الدعم النفسي براء جمعة  لـ”الحل نت”، إن الجهات التي تعمل على مكافحة ظاهرة الانتحار في سوريا موجودة نعم، لكنها لا تعمل على أساس دراسات وعلم ولا تبني خطة مشتركة للحدّ من هذه الظاهرة. ويرى جمعة أنّنا بحاجة إلى وجود جهة رسمية وطنية مرتبطة مع جهة بحثية تدرس المجتمع وتحلل العوامل وتضع اعتبار لكافة الأسباب، المشكلة كبيرة وبحاجة للنظر إليها في هذا البعد والعمق وليس اختزالها في الجانب النفسي والمعيشي.

وبالنظر إلى الأرقام والإحصائيات، فإن أكثر من 90 بالمئة من السوريين يقبعون تحت خط الفقر، وأكثر من 1.5 مليون بحاجة لمساعدات إنسانية عاجلة علاوة على أكثر من مليوني نازح ومهجر في شمال غرب سوريا يعاني أكثر من 94 بالمئة منهم من صعوبات كبيرة في تأمين الغذاء.

وبحسب تقرير للأمم المتحدة نُشر في 11 من آذار/ مارس الجاري، أن هناك 16.7 مليون شخص داخل سوريا بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، وهو الرقم الأعلى من نوعه منذ اندلاع الأزمة، وأن الانخفاض الحاد للموارد جعل الملايين من الأفراد على حافة الجوع.

وصُنّفت سوريا واحدة من بين الدول السّت الأدنى في مستويات الأمن الغذائي بالعالم، وبلغ عدد الأشخاص الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي 12.1 مليون شخص (أكثر من نصف السكان)، و2.9 مليون يعانون انعدام الأمن الغذائي الشديد.

لا شك أن انتشار مثل هذه الظاهرة يعني أن هناك عوامل حقيقية يتوجب البحث بها والوقوف عندها والعمل بشكل جماعي للحدّ منها .

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.3 3 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات