منذ أربع سنوات، و”قانون قيصر” الصادر عن “الكونغرس” الأميركي يضع تحت المجهر 39 شخصية من الحكومة السورية، على رأسهم الرئيس بشار الأسد وزوجته أسماء، مستهدفًا كذلك كلّ من يدعم هذا النظام، سواء بالمشاركة في مشروعاته الحربية أو المدنية. مع تركيزٍ خاص على إيران وروسيا والصين بسبب تعاونهم مع الأسد. يمنع القانون (قيصر) أي تعاملات مالية أو تجارية مع المستهدفين، ويشدد على تجميد أملاكهم داخل الولايات المتحدة ويحظر عليهم الحصول على تأشيرات دخول أميركية.

التأثير الملموس لهذه العقوبات لم يقتصر على الحكومة السورية، ومن يدور في فلكها، بل تعدتها لتمس الحياة اليومية للسوريين على نطاق واسع، خاصةً الصحفيين والعاملين مع المنظمات الدولية الذين وجدوا أنفسهم أمام تحديات جمة لتحويل رواتبهم ومستحقاتهم من خارج سوريا، بفعل القيود المشددة التي يفرضها القانون.

العقوبات التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي، وتم تجديدها سنويًا، تصبّ في ذات الاتجاه الذي يرمي إليه قانون “قيصر”، وتؤكد على الحظر المالي والتجاري على الحكومة السورية. لكن، تأثير هذه العقوبات على الصحفيينَ والعاملين في المجال الإنساني يُظهر جانباً آخر من التحديات، حيث يصبح إرسال الرواتب عبر المؤسسات الدولية مهمة شبه مستحيلة بسبب الحظر المفروض على التحويلات المالية نحو سوريا أو منها.

أمام هذا الواقع، يبرز سؤال حاسم: كيف يمكن للصحفيينَ والعاملين مع المنظمات الدولية التغلب على هذه التحديات وضمان استمرارية عملهم دون التعرّض للعقوبات؟

قانون قيصر
سُمِّي مشروع القانون باسمِ قيصر نسبةً لشخصٍ مجهولٍ قيل أنّه سرّب معلومات وصور لضحايا «تعذيب» في سوريا بين عامي 2011 و 2014.

معاناة وخسائر نسبة من رواتب الصحفيين

العديد من الكُتّاب والصحفيين السوريين ممن التقاهم “الحل نت” يعتبرون أن القيود الناتجة عن قانون “قيصر” تؤثر سلباً على عملهم، لاسيما أولئك العاملون مع مؤسسات صحفية عربية ودولية خارج سوريا. يجدون أنفسهم مضطرّين للبحث عن طرق بديلة لاستلام رواتبهم ومستحقاتهم، مثل مراكز التحويل غير المرخصة التي توفر النقد “كاش” وتجنب المؤسسات الرسمية التي تعرض أسعار صرف أقل بكثير من سعر السوق السوداء.

الصحفي عمار ديوب، المقيم في مدينة دمشق، يشير إلى أن المشكلات مع البنوك والمؤسسات الرسمية بدأت قبل قانون “قيصر” بسبب التعقيدات البيروقراطية وسعر صرف الليرة غير المواتي. قانون “قيصر”، بحسب ديوب، فاقم الوضع سوءاً. ويذكر مثالاً عن تجربة شخصية حيث تم إرسال مستحقاته من موقع إخباري دولي إلى مكتب تحويل من واشنطن إلى القامشلي، لكنه واجه صعوبات كبيرة في نقل تلك الأموال إلى دمشق، مما تسبب في خسارة كبيرة منها بسبب رسوم التحويل.

وقال الصحفي ديوب لـ”الحل نت”، إن زملاء صحفيين آخرين في سوريا تأثروا بشكل مباشر بتلك الإجراءات، ولجأ البعض منهم إلى طرق بديلة لتحصيل مستحقاتهم المالية. من هذه الطرق، إرسال الأموال إلى شخص ثالث في إحدى الدول الخليجية يمكنه جلبها معه إلى دمشق وتسليمها يداً بيد.

قانون “قيصر” لا تؤثر فقط على التحويلات المالية للصحفيين، بل تمتد لتشمل مواقع البحث والتطبيقات الإلكترونية التي يستخدمها الصحفي السوري خلال عمله والتي لا تعمل في سوريا بسبب العقوبات الغربية

الصحافي يعرب العيسى

كما تجد “الحل نت” أن الصحفيينَ السوريينَ يتجنبون إرسال مستحقاتهم المالية إلى أقاربهم في دول الاتحاد الأوروبي بسبب الضرائب العالية التي قد تصل إلى أكثر من  52 بالمئة من المبلغ، مما يجعل هذا الخيار غير قابل للتطبيق بالنسبة للمقيمينَ في بلد يعاني من أزمات مثل سوريا.

بدوره أشار الكاتب والصحافي السوري  يعرب العيسى، إلى أن  عقوبات قانون “قيصر” لا تؤثر فقط على التحويلات المالية للصحفيين، بل تمتد لتشمل مواقع البحث والتطبيقات الإلكترونية التي يستخدمها الصحفي السوري خلال عمله والتي لا تعمل في سوريا بسبب العقوبات الغربية، حيث يستقبل المستخدمون رسائل تفيد بأن “هذه الخدمة غير متاحة في بلدك” بسببها.

وأكد الصحافي العيسى أن المعاناة والقيود لا تقتصر على الصحفيين وحدهم؛ فالمترجمون، والمصمّمون، والعاملون في القطاع الفكري والإعلامي يواجهون صعوبات في استلام رواتبهم ومستحقاتهم المالية أيضاً. حيث يضطر بعض هؤلاء المهنيين إلى اتّباع طرق معقّدة ومكلفة، قد تصل تكاليفها إلى أكثر من 40 بالمئة من المبلغ الأصلي، نتيجةً لأجور التحويل والإجراءات المعقّدة. كما يُجبر البعض على استخدام طرق غير شرعية لتلقي أموالهم. ويضيف العيسى أن هناك، أشخاص داخل سوريا ممن يتلقون رواتب، منح، أو تبرعات من الخارج ربما يواجهون تهمة “التمويل الخارجي” من قبل أجهزة الأمن التابعة للحكومة السورية، وهذا ما يعني أنّهم معرضون لخطر الاعتقال. و لتجنب هذه التّهم، يلجأ الناس إلى استخدام طرق بديلة وأحياناً خسارة جزء من أموالهم لصالح أفراد أو مكاتب التحويل.

التفافٌ على العقوبات 

تواجه المواقع والصحف والمنصات الإخبارية صعوبات جمّة في تحويل الأموال إلى الصحفيين والكتّاب داخل سوريا، خاصةً تلك المؤسسات التي تتخذ من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية مقرّاً لها، في محاولة لتجنب التعرض لحظر حساباتهم البنكية، او حظر من شركات التحويل العالمية المعروفة. هذا يدفع بعضها إلى التردد في قبول المواد الصحفية والإخبارية من داخل سوريا، لعدم قدرتهم على الدفع لكاتبها، مفضلين التعامل مع الصحفيين المقيمين في دول الجوار، ما قد يؤثر سلباً على دقة الأخبار وسرعة نشرها. منها على سبيل المثال وكالة “ستيب نيوز” التي تعمل في جنوب تركيا وتضم عشرات الكتّاب والصحفيين والمصورين وتتخذ من كندا مقرّهاً لها.

وقال فارس المغربي عضو مجلس إدارة “ستيب نيوز” أن هناك صعوبات قائمة فيما يتعلق بتحويل الأموال الى الصحفيين والكتّاب والمصوّرين في سوريا، خصوصاً في مناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، بسبب العقوبات الغربية على سوريا وقانون “قيصر”،  فيما يرى أن الأمر يبدو أسهل في المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة السورية في شمال غرب وشمال شرق سوريا. وأضاف المغربي في حديث خاص لـ “الحل نت” أنهم يلجؤون في أغلب الأحيان الى مكاتب التحويل الخاصة العاملة في تركيا والتي لديها مراكز داخل سوريا لتحويل الرواتب والمستحقات المالية للصحفيين السوريين المتواجدين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية في شمال سوريا. الأمر الذي يجعله أسهل للجميع بسبب “التعقيدات القانونية” بحسب وصفه.

يبدو تحويل الاموال أسهل للمناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة السورية في شمال غرب وشمال شرق سوريا.

فارس المغربي

بينما قال جواد شربجي، رئيس تحرير صحيفة “عنب بلدي” المقرّبة من المعارضة السورية، إنهم لجؤوا إلى التحويل عبر مكاتب البريد التركي PTT. وأضاف شربجي خلال حديثه مع “الحل نت” أن صحيفة “عنب بلدي” أوقفت التعامل مع مكاتب الحوالات منذ أكثر من 5 أعوام. وحالياً يجري التعامل مع مؤسسة البريد التركي PTT الذي لديه عدة مكاتب رسمية في شمال سوريا. 

صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: "إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد". (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)
صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: “إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد”. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

مطالبة باستثناءات للصحفيين

في ظل تطبيق قانون “قيصر” الذي أقرّه “الكونغرس” الأميركي، مستهدفًا بعقوباته الاقتصادية والقانونية شخصيات سورية بارزة وأي داعم للحكومة السورية، يواجه المدنيون السوريون، وبشكل خاص الصحفيون، تحديات كبيرة نتيجة تداعيات هذه العقوبات. على الرغم من أن القانون خصّ بنوداً لحماية المدنيين وتخفيف آثار العقوبات عليهم، إلا أن تطبيق هذه الاستثناءات يظل تحدّياً، خاصةً للصحفيين المستقلّين العاملين مع المؤسسات الإخبارية الخارجية.

من وجهة نظر “رابطة الصحفيين السوريين“، فإن قانون “قيصر” كان له دور فعّال في خلق إدانة دولية لنظام الحكم في سوريا، وتحديد مصادر تمويله الخارجية. لكن القانون بصيغته الحالية يحتاج إلى تعديلات تحافظ على الضغط على السلطة في دمشق مع تخفيف الضغط عن السوريين البسطاء الذين يعتمدون على التحويلات الخارجية لمواجهة الأزمة المعيشية.

وفقًا لمزن مرشد، رئيسة “رابطة الصحفيين السوريين”، يحتاج قانون “قيصر” إلى بعض المرونة في التعامل مع التحويلات الصغيرة التي لا تتجاوز 300 دولار، والتي تمثل أجوراً للصحفيين العاملين على الأراضي السورية. وأكدت مرشد على ضرورة أن تكون هذه التحويلات واضحة المصدر وسبب التحويل لسوريا، مشيرة إلى أن معظم الصحفيين يعملون كمستقلين ويتقاضون أجورهم مقابل العمل المنجز، مما يجعل الحوالات الواصلة لهم لا تتجاوز بضعة من مئات الدولارات.

كما طالبت رئيسة “رابطة الصحفيين السوريين” بأن تميز  العقوبات بين “السلطة” والشعب السوري، مشدّدة على أهمية التأثير المباشر للعقوبات على السلطة الحاكمة وليس على الطبقات المحرومة التي تعاني في تأمين لقمة العيش. وأشارت مرشد إلى الدور الحيوي الذي تلعبه الحوالات الواصلة للصحفيين  والعاملين مع المنظمات الدولية، وكذلك الأُسر التي تعتمد على تحويلات أبنائها من الخارج، في تأمين متطلبات الحياة الأساسية في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات