“لم استلم راتبي الذي وصلني منذ شهر ونصف من حسابي الشخصي في مصرف بغداد”، هكذا يقول علي الحسين، معربا عن قلقه وانزعاجه في نفس الوقت من إجراءات المصرف الأهلي -الأشهر- في العراق. 

جمال يعمل عن بعد مع شركة أجنبية، ويصله مرتبه الشهري على شكل حوالة بالدولار إلى حسابه البنكي في مصرف بغداد، لكن المشكلة بحسب حديثه مع “الحل نت”، هو العناء وشبه العجز بتسلم مرتبه من المصرف. 

“قبل 3 أشهر كان المصرف يعطيني ربع مرتّبي. يقوم بتجزئة الراتب. أذهب بين أسبوع وأسبوع لسحب جزء من المبلغ وهكذا حتى أتمكن من استلامه كاملا، وعندما أسأل الموظفين في المصرف، يقولون: ما عدنا دولار”، يتحدّث جمال.

منذ شهر ونصف توسعت الأزمة، فبعدما كان المصرف يسلّم الحوالات لأصحابها بالتجزئة، بات يمتنع كليا عن التسليم بالدولار، ومن يرغب بتسلّم حوالته، لا خيار أمامه إلا بسحبه بالدينار العراقي وبسعر البنك المركزي العراقي الرسمي، الذي يتسبّب بخسارة بالغة لمن تصلهم الحوالات بالدولار.

مصرف بغداد ليس الحالة الشاذة، بل تسير على نهجه معظم المصارف العراقية، ومنها المصرف الحكومي التجاري “TBI”، والمصرف الأهلي العراقي، وغيرها. لا تسليم للحوالات بالدولار. التسليم بالدينار فقط.

هذا الأمر تسبب بفوضى كبيرة ومشاحنات بين العملاء والمصارف، فمعظم العملاء ممن تصلهم الحوالات يرفضون سحبها بالدينار العراقي؛ كونه يتم تسليمه بسعر البنك المركزي، الذي يحدد سعر 100 دولار بنحو 132 ألف دينار عراقي، بينما السعر في السوق الموازي هو 160 ألف دينار لكل 100 دولار.

البنوك وسبب تسليم الحوالات بالدينار

عبد الله الجميلي، لديه حساب توفير بالدولار في مصرف “TBI”، يقول إنه امتنع عن تسلم حوالته الشهرية البالغة 2000 دولار بسعر العملة المحلية المحددة من قبل المركزي العراقي. “إذا استلمتها راح أخسر 560 ألف دينار. يعني راح تكون خسارتي 300 دولار تقريبا. شنو ذنبي أتحمّل كل هاي الخسارة؟”، يقول الجميلي متسائلا. 

بعض المصارف العراقية، ادعت أنها تقوم بتسليم الحوالات بالدينار بدلا من الدولار بتوجيه من البنك المركزي العراقي، لكن الأخير أصدر بيانا الأسبوع الماضي، نفى فيه أي توجيه من قبله للمصارف بمنع التسليم والتعامل بالدولار، غير أن البعض لا يثق ببيان المركزي العراقي.

“الحل نت” تواصل مع إحدى الموظفات بمصرف “TBI”، وأكدت شريطة عدم الفصح عن هويتها، أن الإجراءات المتخذة من المصرف لم تستند على أي قرار من البنك المركزي. “المصرف اتخذ إجراء التسليم بالدينار لأن ما عنده دولار. البنك المركزي ميسلّمنا دولار، والعملاء يضغطون يوميا علينا على شكل طوابير يريدون فلوسهم، بهاي الحالة شنسوي. ما كان عدنا خيار آخر إلى أن يتم تزويدنا بالدولار”.

بالفعل، قام المركزي العراقي مؤخرا بتزويد المصارف بالدولار، لكن تسليم الدولار يقتصر على المودعين بالدولار حصرا، أي أن من تصلهم حوالات بالدولار لا يستطيعون سحبها إلا بالدينار العراقي، وبسعر البنك المركزي، أي بخسارة نحو 30 ألف دينار على كل 100 دولار.

يُرجع الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني، سبب إجراء البنوك بعدم تسليم الحوالات بالدولار إلى أمرين. الأول هو عدم تزويد المركزي العراقي للمصارف بودائعها من الدولار، والثاني هو امتناع المودعين منذ عدة أشهر بالتوديع بالدولار، في وقت كانت المصارف تعتمد على ما يُودّع فيها من الدولار يوميا لغرض القيام بإجراءات السحوبات بالدولار، ولذا ونتيجة للأمرين السالفين الذكر، باتت المصارف تعاني من عدم وجود الدولار في خزنتها، فلجأت لخطوة التسليم بالدينار.

المركزي العراقي يُرعب المودّعين!

لماذا لا يزوّد المركزي العراقي المصارف بالدولار؟ لأن الفيدرالي الأميركي وبحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، رفض إجراءات تزويد العراق بالمبالغ المدفوعة بالكاش، إذ لم يوافق على طلب للمركزي العراقي بتزويده بمبلغ مليار دولار كاش كما كان يفعل سابقا، الأمر الذي تسبّب بالأزمة الحالية في السوق العراقية من زيادة للطلب على حساب العرض بما يخص الدولار.

لاحقا خرج المركزي العراقي ببيان نفى فيه ما ورد بتقرير “وول ستريت جورنال”، قائلا إنه يتسلم حصصه من الدولار شهريا بشكل طبيعي، لكن الكثيرين رفضوا تصديق بيان البنك المركزي، كون أن الواقع في السوق والمصارف هو العكس تماما، وبالطبع فإن واشنطن بدأت ومنذ عدة أشهر بتقنين إرسال الدولار للعراق، خشية من تهريبه لإيران، ناهيك عن عقوباتها التي فرضتها منذ نحو 3 أشهر على 14 مصرفا عراقيا، بمنع وصول الدولار لها؛ لكونها تستخدمه بطرق غير قانونية، منها تهريبه لطهران. 

المحلل السياسي والمتابع لما يجري من أزمة اقتصادية عصيبة في العراق، علاء مصطفى، يربط أزمة الحوالات بتصريح مدير عام الحوالات والاستثمارات في البنك المركزي العراقي، مازن أحمد، واعتبره غير صائب بالمطلق، وهو ما تسبب من أزمة كبيرة راهنة.

أحمد تحدّث عن انخفاض خزين الدولار بالمصارف العراقية، ثم قال: “لا تحدّثوني عن دولار ورقي في العام المقبل”، الأمر الذي تسبّب بحسب حديث علاء مصطفى مع “الحل نت”، بحالة من الهلع لدى المودّعين، فسارعوا لسحب ودائعهم من الدولار داخل المصارف العراقية، وبالتالي شبه خلو المصارف من الدولار.

في سياق أزمة البنوك، ووفقا لحديث عبد الرحمن المشهداني مع “الحل نت”، فإن معظم المصارف العراقية هي دكاكين تتبع لجهات سياسية، وتعتمد على نافذة العملة من البنك المركزي، لا تمارس عملها الائتماني مثل بقية المصارف العالمية، لذا عندما أُبعدت عدة مصارف من نافذة العملة، انهارت وتعرضت لخسائر كبيرة، وإجراء المركزي العراقي سيجعلها ضعيفة أكثر؛ لأنها فقدت للجزء الأساسي من تمويل الدولار الذي تحصل عليه عبر نافذة البنك المركزي.

ما علاقة إيران؟ 

الخبير الاقتصادي محمود داغر، يقول لموقع “الحل نت”، إن المشكلة تتمثل بالمنافذ الحدودية. الأزمة الحقيقية هي بتهريب الدولار إلى إيران عبر تلك المنافذ، وطهران معاقبة، لكن لديها تعاملات مع بغداد بنحو 12 مليار دولار سنويا، وهذا تهريب علني للدولار إلى إيران، كون أن نظامها المصرفي غير مرتبط بأي نظام مصرفي عالمي نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

يتفق خبير الاقتصاد السياسي صالح الهماش مع الطرح  أعلاه، ويبيّن أن الاحراج الذي تقع به الحكومة العراقية أمام الفيدرالي الأميركي، يتمثل بعدم سيطرتها على غسيل الأموال والتهرب المستمر للعملة، الأمر الذي وضعها في هذا المأزق الكبير، وتحاول إيجاد حلول من خلال قرارات عشوائية، متناسية أن الفساد ينخر في مؤسسات الدولة.

الهماش يوضح، أن تسليم الحوالات من الخارج بالدينار العراقي ينشّط عملية التهريب للعملة ويؤثر على عمل المصارف في البلاد، لذا على البنك المركزي مراجعة قراراته وأن يعمل في الواقع العراقي، فعملية السيطرة على العملة الأجنبية المتمثلة بالدولار تكون عبر السيطرة على غسيل الأموال والتجارة الرسمية.

أغلب التجار العراقيين يحوّلون أموالهم عن طريق مكاتب أو سماسرة بعيدا عن الدولة؛ بسبب الروتين والفساد والتعقيد الإداري في البلاد، وهذه العوامل هي التي تخلق الطلب على الدولار داخل السوق العراقية، وتتسبب بالأزمة الحالية في البنوك، على حد قول الهماش.

كان البنك المركزي العراقي، أصدر قرارا منذ أيام وجيزة، مفاده حظر التعامل بالدولار كليا بدءا من مطلع العام المقبل، ما تسبّب بجدل كبير داخل الشارع العراقي، خاصة وأن الدينار بات ينهار يوما بعد يوم، وارتفعت تكاليف المعيشة بشكل كبير دون أي حلول جذرية من قبل الحكومة العراقية والبنك المركزي على حد سواء. 

طهرنَة العراق؟

سعر صرف الدينار قفز بشكل كبير، إذ وصل الفرق بينه وبين الدولار لنحو 300 نقطة، فالسعر الرسمي هو 1320 دينارا لكل دولار، فيما بلغ السعر في السوق الموازي 1640 دينار لكل دولار، وهذه القفزة نتيجة اعتماد المركزي العراقي مؤخرا سياسة تجفيف الدولار من السوق الموازي، الأمر الذي يهدّد بنتائج عكسية، إذ قد يصل سعر الصرف 200 ألف دينار عراقي قبالة كل 100 دولار مع نهاية العام الجاري، بحسب كثير من الاقتصاديين.

هنا يقول خبير الاقتصاد السياسي نبيل جبار العلي، إن البنك المركزي العراقي متقاعس عن حل مشكلة الحوالات مع إيران، وارتفاع سعر الصرف متعلق بالضغوطات على النقد الأجنبي الموجود في السوق واستمرار الحوالات السوداء، إذ هناك بحدود 30 مليون دولار يوميا حوالات سوداء تعبر الحدود لتغذية طلبات الحوالات للتجارة مع إيران سوريا لبنان وتركيا.

التذبذب بسعر الصرف واستمرار أزمة الدولار ستستمر ما لم يتم حل أزمة الحوالات مع إيران بالدرجة الأولى وإيجاد آلية تحويل مناسبة للتجار وإن كانت بعملات أخرى غير الدولار، لأن الدولار الذي يخرج لإيران، لا يعود إلى العراق، فبغداد تستورد وطهران تصدّر، أي أن العراق لا يصدّر ما يفي بالغرض لإيران وغيرها كي يدخل له الدولار. 

قد يسأل سائل كيف يدخل الدولار إلى العراق ولماذا يتبخر ويكثر عليه الطلب، ببساطة وبحسب الخبير الاقتصادي المشهداني، الدولار يأتي من خلال بيع الحكومة للنفط، فتحصل على الدولار لتعطيه إلى البنك المركزي، وهذا الأخير يقوم ببيعه من خلال نافذة العملة، فيحصل على الدينار، ليسلّمه إلى الحكومة التي تقوم بدفعه كرواتب لموظفي الدولة.

هكذا وعندما يباع الدولار عبر نافذة المركزي العراقي لأجل الحصول على الدينار لدفع مرتبات الموظفين، يصبح الدولار بأيادي من اشتروه من النافذة، وهم في الغالب تجار كبار يرتبطون بالأحزاب السياسية -معظمها توالي طهران- ومن هنا يتم تهريبه إلى جارة العراق الشرقية، لتبقى بغداد والمصارف العراقية تعاني من شح الدولار، مع ارتفاع لا حدود له لسعر الدينار العراقي، والخشية كل الخشية من لبننَة وطهرنَة العراق، بحيث لا تعود هناك قيمة تذكر لعملته المحلية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات