لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، في 22 سبتمبر/أيلول الفائت، يمثّل خطوة مهمة في إعادة دمج سوريا في المجال الدبلوماسي العالمي، ومع ذلك، وعلى الرغم من الضجة الكبيرة، فمن غير المرجح أن تتحقق الوعود التي أطلقها وزير الخارجية الصيني وانغ يي، بـ “الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى جديد” في الاستثمارات بالاقتصاد السوري الذي يعاني من ضائقة مالية، نظرا لعدة أسباب.

زيارة الأسد للصين وتوقيعه عدة اتفاقيات مع الرئيس الصيني، لا يُعد حدثا مهما ولا يشير إلى تحسّن العلاقات بين البلدين، أو إلى رغبة الصين في اللعب دورا أكبر في الشرق الأوسط، لأن هذه الزيارة والاتفاقيات لا تعني بالضرورة أن الصين ستستثمر بشكل كبير في الاقتصاد السوري، بسبب العقوبات والحرب والفساد، والأمر الأهم هو الإدارة السياسية الحالية.

ما يجعل هذا الموضوع أكثر إثارة، هو أن سياسة الحزب “الشيوعي” الصيني، على مدى العقدين الفائتين تكشف عن سبب امتناعه عن الاستثمار في سوريا، فهناك عدة دول كانت محط اهتمام بكين؛ لكن لم تستثمر فيها بسبب الاضطرابات المحلية التي تعيشها، فالقاعدة الاستثمارية الصينية تقول، “أنت مستقر وضعيف ستحصل على اليوان، ولكن مهما كانت قوتك وتحالفك معنا، فلن تحصل على أموالنا ما دمت في حالة اضطراب تهدد مصالحنا”.

لا ضوء أخضر للاستثمارات الصينية

طبقا لما تم الإعلان عنه، فقد وقّعت ثلاث وثائق تعاون بين الجانبين السوري والصيني، أولها اتفاق تعاون اقتصادي، وثانيها مذكرة تفاهم مشتركة للتبادل والتعاون في مجال التنمية الاقتصادية، وثالثها مذكرة تفاهم حول السياق المشترك لخطة تعاون في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. 

الصين الاستثمارات في سوريا

هذه الاتفاقيات التي لم يتم الإفصاح عن مضمونها، تؤيد فكرة أن الصين ترفض الاستثمار بسوريا ليس خوفا من العقوبات الغربية بالدرجة الأولى وإنما بسبب عدم وضوح الأفق السياسي للبلد، فالأدلة كثيرة وعلى رأسها استثمارات الصين الضخمة بالسودان تحت حكم عمر البشير، وزيمبابوي تحت حكم روبرت موغابي، لما كان يبدو الوضع السياسي فيهما مستقر.

الدولة الأخرى الوحيدة التي تدعم سوريا اقتصاديا بشكل هادف هي إيران، ويعرف الأسد الآن أن إيران تحاول انتزاع المزيد من التنازلات منه ومن حكومته مقابل استمرار الدعم، والآن يحاول إيجاد طرق بديلة للدعم.

الدكتور كرم شعار، زميل بارز في معهد “نيو لاينز” للأبحاث ومقره واشنطن، يرى في تصريحات صحفية، أنه في حين أن حليفة دمشق الرئيسية، طهران، تطالبها بالمزيد، فقد فشلت سوريا في التصرف بشكل هادف بشأن التقارب الأخير مع الدول العربية.

فالدفعة الدبلوماسية الإقليمية للترحيب بعودة سوريا إلى “الجامعة” العربية، بحسب الشعار، ماتت بالفعل إلى حدّ ما، إذ لم يُظهر الأسد أي علامة على التعاون أو الاهتمام، حتى عندما يكون هذا التقارب مرحلة إنقاذ لحكومة دمشق اقتصاديا على الأقل، ومع ذلك، يعتقد الشعار أن الصين استفادت من زيارة الأسد من خلال التلويح بورقة سوريا أمام الغرب، قائلة “يمكننا دعم هذا النظام الذي تكرهونه”.

اتفاقيات على الورق

ببساطة، يعتقد الدكتور شعار، أن بكين ستكون أكثر استعدادا للاستثمار في سوريا إذا تفاعل الأسد بشكل أكبر مع الدول العربية الأخرى وعمل على تهدئة المخاوف بشأن دور سوريا في إنتاج “الكبتاغون”، ويمكن أن تكون استثماراتها رابحة أيضا في حال قبلت المقامرة المرتبطة بمستقبل حكومة دمشق في ظل عدم استقرار الوضع السياسي.

من جهة أخرى، يتمنى الرئيس السوري أن تقدم الصين وعودا اقتصادية للاستثمار في سوريا، وإذا قررت الصين الاستثمار بجدّية في البنية التحتية السورية، فسيكون بإمكانها مساعدة سوريا في التغلب على تداعيات الحرب والدمار الاقتصادي.

ولكن هل يمكن الاعتماد على هذه الوعود، هذا ما يثيره الباحث السوري، فالصين سابقا قد وعدت بالاستثمار في إيران دون أن تنفّذ ذلك على أرض الواقع، وما يعتمده “الشيوعي” الصيني في سياسته، هو استخدم وعود الاستثمار كوسيلة للضغط السياسي على الغرب.

يمكن تلخيص رأي الباحث شعار، بأن الصين تعطي وعودا ولكنها لا تنفذها، فسبق وأن وعدت باستثمارات بأكثر من 40 مليار دولار في إيران، لكنها لم تترجم ذلك على أرض الواقع، ومثل الدول الغربية التي تستخدم تايوان كورقة ضغط على حكومة بكين، تستخدم الأخيرة سوريا للضغط أيضا.

الإدارة السياسية السورية وجذب الاستثمارات

الصين لا تتّبع سياسة الحياد والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى كما تروّج لها، بحسب حديث المحلل السياسي والدبلوماسي الصيني السابق، وو يي، لـ”الحل نت”، وإنما تطلق هذه الشعارات من أجل عدم الخوض في تحالف يراه الحزب “الشيوعي” الصيني، خاسرا.

بكين وفق تقديرات يي، تخشى من تعرضها للعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، والتي تحظر أو تحدّ من التعاملات الاقتصادية والمالية والتجارية مع دمشق، وتهدد مصالحها وشركاتها ومواطنيها، حتى لو كان ذلك مناقضا لتحالفها، فالصين ترى أن الاستثمار في سوريا يحمل مخاطر عالية وعوائد منخفضة، نظرا للحرب الدائرة في البلاد.

أيضا “الشيوعي” الصيني يأخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي في سوريا غير الواضح وغير المستقر، فالحكومة السورية تواجه معارضة داخلية وخارجية، وتتعرض لضغوط دولية وإقليمية، وتفتقر إلى الشرعية والتمثيل والتوافق، وتعاني من الفساد والانقسامات والصراعات.

أيضا من وجهة نظر أعضاء “الشيوعي” الصيني، الذي يدير سياسة بلاده، فإن الإدارة السياسية السورية تحتاج إلى إجراء إصلاحات جذرية وشاملة في نظامها السياسي والاقتصادي والأمني، وإلى إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للأزمة السورية، وإلى إعادة بناء علاقاتها مع الدول العربية والإقليمية والدولية، لتتمكن من تحسين الوضع الحالي في سوريا، وتخليق بيئة ملائمة وجاذبة للاستثمار، وهذا ما فشلت به دمشق مؤخرا.

كما أخفقت الإدارة السياسية السورية باعتقاد يي، في تنويع مصادر الاستثمار والتمويل والتعاون من خلال المبادرة العربية، وإلى توسيع شريحة الشركاء والأصدقاء والحلفاء، وإلى تحقيق التوازن والتناغم بين المصالح والقيم والمبادئ، وإلى تجنّب الاعتماد الزائد أو الصراع غير المجدي مع أي طرف أو قوة، وبدلا من ذلك استسلمت لتعليمات حلفائها التقليديين، إيران وروسيا و”حزب الله” اللبناني.

الحل السياسي الأقرب للصين

هذا الكشف قد لا يؤدي إلى تغير جذري في موقف الصين تجاه سوريا، فالصين لم تكشف عن سر امتناعها عن الاستثمار في سوريا بشكل صريح أو رسمي، بل بشكل غير مباشر، من خلال تصريحات وزير الخارجية الصيني وانغ يي، الذي أكد على دعم الصين لسوريا، واعتبارها سوريا شريكا استراتيجيا فقط في مبادرة “الحزام والطريق”.

بالتالي، يمكن الاستنتاج أن الصين لن تغيّر موقفها تجاه سوريا بشكل كبير أو مفاجئ، بل ستواصل تبني موقف سياسي، حيث استخدمت حق النقض ثماني مرات لمنع قرارات الأمم المتحدة ضد حكومة دمشق، وكان آخرها في تموز/يوليو 2020، ضد تمديد الأمم المتحدة للمساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا، حيث يعتمد الملايين على المساعدات الدولية.

طبقا لتحليلات المحلل السياسي والدبلوماسي الصيني السابق، فإن قرارات الصين بشأن عدم الاستثمار في سوريا لن تتعارض مع مصالحها الاقتصادية في المنطقة، حيث تسعى بكين بالمقام الأول إلى جر دمشق نحو مبادرة لحل الأزمة السورية، وسيناريو الحل السياسي، هو السيناريو الأكثر تفضيلا من قِبل الصين، حتى لو كان على حساب حكومة توافق وطنية، رغم رغبتها في أن يكون النظام القائم حاليا هو المستمر، لكنها تفضل استقرار الدول التي تريد الاستثمار فيها.

الصين ليست حليفا مطلقا لحكومة دمشق الحالية، ولا تتشارك معها في رؤية استراتيجية موحدة، فبكين ترى في سوريا شريكا تجاريا واستثماريا، وتسعى إلى تعزيز علاقاتها مع جميع الأطراف المعنية بالأزمة، حتى مع المعارضة السورية إذا استلمت الحكم السياسي في البلاد. 

بناء على تلك المعطيات، فإن التصريحات السابقة لدمشق لا تعكس الواقع الاقتصادي بين البلدين، فالصين لم تستثمر في سوريا بشكل كبير أو ملحوظ، رغم أنها تمتلك القدرة والموارد لذلك، والسبب في ذلك هو أن الصين ترى أن الاستثمار في سوريا يحمل مخاطر عالية وعوائد منخفضة، نظرا للعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، والحرب الدائرة في البلاد، والفساد والانقسامات في الإدارة السياسية الحالية.

في هذا السياق، يمكننا أن نفهم أن الاتفاقيات التي وقّعها الرئيس السوري بشار الأسد في زيارته للصين، والتي تتعلق بالتعاون في مجالات الصحة والثقافة والتنمية، هي اتفاقيات هشّة وغير ملزمة، ولا تمثّل التزاما حقيقيا من الصين بالاستثمار في سوريا، بل هي وسيلة للصين لإظهار دعمها السياسي لسوريا، وللضغط على الغرب لتخفيف العقوبات عن سوريا، وللحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

بالتالي، فإن الصين لا تنوي الاستثمار في سوريا في الوقت الحالي، وأنها تنتظر تحسّن الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد، وتغيير الإدارة السياسية الحالية، قبل أن تقرر الدخول في مشاريع استثمارية كبيرة ومربحة، وهذا يعني أن سوريا تحتاج إلى إجراء إصلاحات جذرية وشاملة في نظامها السياسي والاقتصادي والأمني، وإلى إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للأزمة السورية، وإلى إعادة بناء علاقاتها مع الدول العربية والإقليمية والدولية، لتتمكن من جذب الاستثمارات الصينية وغيرها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات