بعد نحو عقدين من الزمن زار الرئيس السوري بشار الأسد، الصين في ظل أجواء غامضة وملتبسة لا تشي بكثير من الحقائق في ظل ندرة المعلومات الرسمية، بما يجعل التحليلات والرهانات في أفق محدودة. غير أن واقع الحال يشير إلى أن الأسد في توجهه لبكين بعد زيارات إلى موسكو وطهران الحليفين التقليديين لا يبدو مباغتا، لا سيما في ظل التحولات الجيوستراتيجية الأخيرة التي تجري في قمة العالم وجعلت الصين تحاول تجريب أدوار سياسية ودبلوماسية في المنطقة، كما هو الحال مع وساطتها بين السعودية وإيران.

لدى الصين مواقف مؤيدة لحكومة دمشق فامتنعت أكثر من مرة عن التصويت لقرارات تدينها في النزاع الذي أودى بحياة أكثر من نصف مليون مدني فضلا عن أضعاف هذا العدد في شتات بين عواصم عربية وأجنبية. ووسط قلة المعلومات الرسمية، فإن الوفد السياسي والاقتصادي المرافق للأسد وزوجته يكشف ربما عن طبيعة الأهداف من وراء الزيارة، فمن ناحية تحقق أغراض دعائية لدمشق التي تتحرى شرعنة وفك العزلة الدولية عنها، بجانب البحث عن مخرجات للأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد من جرّاء الحرب، الأمر الذي يتزامن ورغبة بكين في التوسع مع دول المنطقة لدعم خطة “الحزام والطريق” التي يُفترض تدشين بُنى تحتية تضع الصين على خطوط تواصل مع الأسواق التقليدية في آسيا وأوروبا وإفريقيا. تصاعد الاحتكاكات بين بكين وواشنطن على نحو محتدم يكشف كذلك عن طبيعة الزيارات المتكررة لرؤساء دول يواجهون عزلة دولية للصين كما حدث مع الرئيسيين الفنزويلي والإيراني والروسي لاحقا.

رغم وجود شكوك بشأن دعم الصين لسوريا اقتصاديا وفتح مجال لقروض أو خطط تنموية، ومن ثم، الوقوف عند حيز الدعم السياسي حيث إنه منذ انضمام دمشق للمبادرة الصينية، مطلع العام الماضي، لم نشهد تبادل اقتصادي جاد يحقق طفرة على أي مستوى، إلا أن الزيارة تفي بأغراضها السياسية المؤقتة لدى الأسد كما أن الصين تضع رهانات مستقبلية على احتمالات أن تكون سوريا أحد مفاتيح المواجهة مع الولايات المتحدة في الإقليم، في إطار التنافس الدولي المحتدم وإعادة ترتيب قمة العالم الذي يجري تحت وطأة الحرب الروسية الأوكرانية.

إذاً في حقل التحالفات والتجاذبات الإقليمية الدولية الأخيرة، قد تشكل زيارة بشار الأسد للصين، خطوة أخرى لإنهاء العزلة الدبلوماسية المستمرة منذ عقد من الزمن، لكنها في الوقت نفسه قد تكون فرصة لبكين لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط وتحدي الوجود الأميركي، وسط لعب بكين مؤخرا دورا متناميا في المنطقة.

وصول الأسد إلى الصين على متن طائرة تابعة لشركة “إير تشاينا”، وسط استقبال حار وتغطية إعلامية مكثفة، يُثير تساؤلات حول دلالات الزيارة وسط أجواء تبدو غامضة إلى حد كبير. وقد قالت وسائل الإعلام الرسمية الصينية، إن الزعيم السوري نادرا ما كان يشاهد منذ بداية النزاع السوري، ما يزيد الأمور غموضا.

يرى العديد من المراقبين أن الأسد يسعى في زيارته للصين إلى الحصول على دعم لإعادة إعمار سوريا. من هنا تنبثق فرضية حول احتمالات تقديم بكين فعليا بعض الدعم في ملف إعادة الإعمار في سوريا، حتى لو كان هذا الدعم شكليا عبر عقود ومشاريع اقتصادية هشة، بهدف إغراق سوريا بالديون ومن ثم الاستحواذ عليها، كما فعلت في دول أخرى مثل سريلانكا، وتاليا استخدام دمشق كورقة ابتزاز إقليمية ودولية، خاصة بعد التقارب العربي الأخير مع الأسد.

الصين تتحدى الغرب

الأسد، وصل صباح يوم أمس الخميس، إلى مطار مدينة هانغتشو الصينية، وذلك رفقة زوجته أسماء وعددا من الوزراء والمستشارين، وذلك بهدف حضور مراسم افتتاح الألعاب الأولمبية الآسيوية التي ستُعقد في المدينة في وقت قريب.

كان في استقبال الأسد وزير الاقتصاد الصيني ومسؤولون محليون. واعتبرت الصين أن الزيارة تشكّل فرصة لدفع العلاقات بين دمشق وبكين إلى مستوى جديد. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ “نرى بأن زيارة الرئيس بشار الأسد ستعمّق الثقة السياسية المتبادلة والتعاون في مجالات مختلفة بين البلدين، بما يدفع العلاقات الثنائية إلى مستوى جديد”.

بينما ذكرت صحيفة “الوطن” المحلية، أن الأسد سيحضر حفل افتتاح الألعاب الآسيوية في هانغجو في 23 من الشهر الحالي. في حين أفادت وسائل إعلام صينية رسمية، الخميس، بأن الرئيس، شي جين بينغ، سيستضيف الأسد، ومسؤولين آخرين في حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية في مدينة هانغتشو.

الأكاديمي والكاتب السياسي والأستاذ بجامعة “جورج واشنطن” بأميركا، رضوان زيادة، يرى في حديث لموقع “الحل نت”، أن زيارة الأسد للصين يمكن قراءتها بشكل أكبر، وهو من منظور التحالف الصيني الروسي على المستوى الدولي والإقليمي وبالتالي ربما رغبت بكين بإرسال رسالة إلى واشنطن ودول أخرى، وهي أنها تقف إلى جانب روسيا في أوكرانيا ومع روسيا في سوريا، ولهذا السبب تأتي هذه الزيارة. لكن لا توجد علاقات ثنائية قوية بين الصين وسوريا، كما توجد علاقة بين حكومة دمشق وموسكو.

بينما يرى الكاتب والباحث الأكاديمي في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن علاقة الأسد بالصين جيدة، فالأخيرة حليف سياسي مهم له، وإن كانت حدود هذا التحالف لم تتجاوز حدود السياسة، فلم يظهر دعم عسكري أو اقتصادي صيني للأسد خلال سنوات الحرب، وبخصوص الزيارة الحالية فهي تفتح العلاقات بين الجانبين على عدة احتمالات.

بشكل عام وعلى الرغم من أهمية البُعد الاقتصادي للزيارة، لكن الشق السياسي يبدو أهم، فالصين تسعى للتقارب مع الأسد، علّها تستعمل هذا التقارب كأداة ضغط على الغرب، بالتزامن مع أزمة تايوان مع الصين، وفق تعبير السيد عمر في حديثه لموقع “الحل نت”.

في هذا السياق، يقول ألفريد وو، الأستاذ المشارك في كلية “لي كوان يو” للسياسة العامة في سنغافورة “في ولايته الثالثة، يسعى شي جين بينغ، إلى تحدي الولايات المتحدة علنا، وبالتالي لا أعتقد أن استعداده لمخالفة الأعراف الدولية واستضافة زعيم مثل الأسد شيء مفاجئ”.

ألفريد وو، يرى أن ذلك سيؤدي إلى زيادة تهميش العالم للصين، لكنه لا يهتم بهذا الأمر. يبدو أن الصين لديها دوافع أخرى لتكون أكثر حضورا في أزمة إقليمية كبرى مثل سوريا، ووسط الصراع بين الصين والمحور الغربي، فإنه إذا ما تصاعدت شدته في الفترات المقبلة، فغير مستبعد أن تكون سوريا ساحة مواجهة أو ورقة ضغط بينهما.

بكين تحاول جاهدة تعزيز حراكها الدبلوماسي، وقد استضافت خلال الأشهر الماضية قادة دول ومسؤولين يواجهون عزلة دولية بينهم البيلاروسي، ألكسندر لوكاشنكو، وممثلون عن حركة “طالبان” في أفغانستان.

الصين ثالث دولة غير عربية يزورها الأسد خلال سنوات النزاع المستمر في بلاده منذ العام 2011، بعد روسيا وإيران، أبرز حلفاء دمشق، واللتين تقدمان له دعما اقتصاديا وعسكريا غيّر ميزان الحرب لصالحه.

كما استقبلت الصين الرئيس الفنزويلي الذي تواجه بلاده الغنية بالنفط أزمة اقتصادية خانقة. وأعلن “الكرملين” يوم الأربعاء الماضي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيزور الصين أيضا في تشرين الأول/أكتوبر المقبل، في وقت تواجه موسكو غضبا غربيا جراء غزوها لأوكرانيا.

وعود صينية “كاذبة”!

أيمن عبد النور، المحلل السياسي السوري المقيم في واشنطن، يقول في حديث لـ”الحل نت” إنه لا توجد دعوة رسمية من الرئيس الصيني لبشار الأسد لعقد لقاء ثنائي لبحث الأمور الثنائية، كما روّجت لها وسائل الإعلام السورية المحلية. بل هي دعوة لحضور دورة الألعاب الآسيوية في مدينة هانغتشو، مع وفد من حكومة دمشق.

حيث وجّه الرئيس الصيني خلال الفترة الماضية دعوات للرؤساء في آسيا لحضور دورة الألعاب الآسيوية، ومن ضمن تلك القائمة تمت دعوة بشار الأسد، وتضمنت الدعوات جميعا لقاءا ثنائيا مع الرئيس الصيني والذي سيُقيم مأدبة ترحيب وأنشطة ثنائية للقادة الأجانب.

أحد موانئ سوريا- “إنترنت”

منذ أيام وتُحاول وسائل الإعلام السورية المحلية إظهار زيارة الأسد للصين كحدث استثنائي، وأنها بداية إنهاء عزلة دمشق دبلوماسيا دوليا، وتقديم صورة للسوريين بأن هناك فرصة وشيكة لجذب استثمارات سيؤدي إلى تحسين الوضع الاقتصادي السوري المتهالك على كافة المستويات.

لكن تحقيق هذا الأمر يبدو صعب المنال، وإن حصل وعود واتفاقيات بين دمشق وبكين، غير أن مصداقيتها وتنفيذها الفعلي موضع شك، خاصة وأن بكين مشهورة بوعودها الكاذبة للضغط على الدول الغربية، ووسط الأزمات الاقتصادية العديدة التي تمر بها بكين، خاصة في قطاع العقارات وتباطؤ النمو الاقتصادي، ثمة تساؤل ملحّ يطرحه الأكاديمي السياسي رضوان زيادة حول ما إذا تستطيع الصين أن تمدّ الأسد بهذه المساعدات والأموال التي يمكن إنقاذ نظامه.

كما ويرى زيادة أن خيار مساعدة الصين للأسد مطروح على الطاولة، لكنه من زاوية اقتصادية لا يعتقد أن الصين تستطيع المخاطرة بوضع بلد غير مستقر وفيه جيوش أجنبية، فسريلانكا حالة مختلفة.

بينما يستبعد السيد عمر رغبة الصين بالاستحواذ على سوريا اقتصاديا، وذلك لعدة أسباب، الأول أن الصين لا ترغب بالتنافس مع شركائها إيران وروسيا، فهي تدرك أن كل من موسكو وطهران تعتقدان أن موارد الدولة السورية من حق الدول التي دعمت حكومة دمشق عسكريا، إضافة لكون الصين لم تبدِ حتى الآن اهتماما حقيقيا بالاقتصاد السوري، ففي عام 2017 وعدت باستثمار ملياري دولار في مناطق سيطرة دمشق ولم تفعل، فهي ترغب بالتريث لحين اتضاح مستقبل القضية السورية.

ثلاث من كبرى شركات الطاقة المملوكة للحكومة الصينية، وهي “سينوبيك وسينوكيم ومؤسسة البترول الوطنية الصينية”، كانت قد استثمرت إجمالي ثلاثة مليارات دولار في سوريا خلال عامي 2008 و2009 بدعوة من بكين للاستحواذ على أصول نفط وغاز في العالم.

لكن شركة “سينوكيم” أوقفت عملياتها في سوريا في عام 2011، وفقا لشريكتها “جالف ساندز بتروليوم”، فضلا عن توقف “مؤسسة البترول الوطنية الصينية” عن الإنتاج في عام 2014 تقريبا بعدما فرض “الاتحاد الأوروبي” عقوبات ونشرت الولايات المتحدة قوات في سوريا لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.

بالتالي يشكك المحللون في أن الشركات النفطية الصينية تفكر في العودة إلى سوريا لاعتبارات أمنية وتدهور الوضع المالي في البلاد، وفق تقارير صحفية.

أهمية الجغرافيا السورية

وفق بعض المعطيات، تسعى بكين منذ بداية العام الماضي إلى تكثيف حضورها الاقتصادي في سوريا، إذ وقّعت في كانون الثاني/يناير 2022 مذكرة تفاهم مع دمشق، تم بموجبها إدراج سوريا ضمن خطة “الحزام والطريق” الصينية.

بكين تلعب دورا متناميا في الشرق الأوسط مؤخرا، وتحاول الترويج لخطتها “الحزام والطريق”، وهي مشروع ضخم من الاستثمارات والقروض يقضي بإقامة بنى تحتية تربط الصين بأسواقها التقليدية في آسيا وأوروبا وإفريقيا.

بالنسبة لبكين، تتمتع سوريا بأهمية استراتيجية، لأنها تقع بين العراق، الذي يمدّ الصين بنحو عشرة بالمئة من استهلاكها النفطي، وتركيا، التي تمثل نهاية ممرات اقتصادية ممتدة عبر آسيا إلى أوروبا، والأردن، الذي غالبا ما يتوسط في النزاعات في المنطقة.

بالعودة إلى المحلل في الاقتصاد السياسي، السيد عمر، فإن الأسد يسعى لتمويل صيني لإعادة الإعمار، من خلال استغلاله موقع سوريا الهام بالنسبة للصين، لا سيما ميناء اللاذقية الذي تهتم به الصين بشكل كبير، كما أن سوريا محطة رئيسية من محطات مشروع “الحزام والطريق”، وهذا ما يدفع بكين لتنفيذ استثمارات في البنية التحتية السورية.

أحد موانئ سوريا- “إنترنت”

لكن من جهة أخرى تدرك كل من دمشق وبكين أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتم في ظل عدم توافق دولي، وفي ظل العقوبات الغربية، فإعادة الإعمار هنا تعد ورقة سياسية وليست اقتصادية. ولفهم نوايا بكين من دعوة الأسد لزيارتها، لا بد من تحليل السياسة العامة الصينية، التي كانت تعتمد سابقا على التغلغل الاقتصادي، وحاليا تنشط في مجال المفاوضات السياسية، مثل وساطتها بين إيران والسعودية، واقتراحها مؤخرا الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فبكين تسعى لتحقيق تغلغل سياسي في منطقة الشرق الأوسط، لذلك من غير المستبعد أن تكون الدعوة مدخل لدعم “التطبيع” بين أنقرة ودمشق، وفق ما يحلله السيد عمر.

لأجل ذلك كله، فإن دمج دمشق في مبادرة “الحزام والطريق”، يبدو جليا أنها محاولة صينية للاستفادة من احتياجات إعادة الإعمار الملحّة بسوريا، وذلك لتأسيس موطئ قدم لها في الشرق الأوسط.

بالتالي فإنه من غير المستبعد أن تقوم الصين بتقديم دعمٍ اقتصادي هامشي وشكلي في الوقت الحالي لدمشق التي هي في أمسّ الحاجة له، وهو ما سيترتب عليها ديون كبيرة لاحقا، وبالتالي قد يتم سداد هذا الدين بأصول من الدولة السورية.

وهكذا ستقوم الصين بالاستحواذ على أهم المراكز الحيوية كالموانئ مثل ميناء اللاذقية الرئيسي التي تعتبر من أكبر الموانئ البحرية وميناء البيضا قرب رأس شمرا باللاذقية، بهدف تنفيذ أجندة مشروع “طريق الحرير” الصيني، كما حدث في سريلانكا عندما لم يسددوا الديون، استولت بكين على الموانئ وأهم المنافذ الاستراتيجية هناك بقيمة مليارات الدولارات في ميناء هامبانتوتا جنوب سريلانكا، الذي يتوسط أكثر طرق الملاحة النشطة والمزدحمة بين الشرق والغرب.

بوابة الاقتصاد هي ذاتها التي تسعى من خلالها بكين للهيمنة على اقتصاد العديد من الدول ولا سيما النامية، وقد تكون مواجهتها مع الولايات المتحدة ضمن هذا المجال دافعا لبكين من أجل توسيع أطماعها وتمددها في منطقة الشرق الأوسط.

النتيجة الطبيعية المفترضة هي أن الضغط على سوريا التي ستثقل كاهلها أعباء اقتصادية، سينتج عنه نفوذ سياسي للصين فيها، والسيطرة على قراراتها، وفتح الباب على مصراعيه أمام تغوّل صيني. والحقيقة أن هذا السيناريو مقلق يهدد سوريا ومصير الحل السياسي الذي ينتظره السوريون، أي أن الصين إضافة إلى سيطرتها الاقتصادية المتوقعة على مكامن مهمة من الاقتصاد السوري، فإن حضورها السياسي المفترض سيعقد مهمة تحقيق الحل السياسي في ظل مناوئتها للولايات المتحدة الحاضرة ضمن الملف السوري والتي تُعتبر لاعبا رئيسيا فيه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات