ثمّة رؤية استراتيجية من الصعب الخروج عن محدداتها، كون كافة المشاريع التي تقودها إيران بدءاً بالمراكز بالثقافية وانتقالاً إلى الإغاثية، وانتهاءً بإعداد المقاتلين هي ذات الممرات التي يمضي نحوها المشروع الإيراني برمّته، في كافة الساحات التي يعمل من خلالها فضلاً عن اتساقها التام مع الانخراط الميداني، التي تعمل من خلاله سواء في سوريا أو العراق أو اليمن أو لبنان.

جميعهم يعملون داخل فكرة واحدة وهدف ثابت؛ العمل تحت رؤية “الحرس الثوري” الإيراني وتحقيق استراتيجيته الشاملة في تلك النقاط الجغرافية، التي تحقق لها النفوذ والهيمنة، وتسمح لها بهامش المناورة التكتيكية وممارسة الضغط السياسي على طاولات التفاوض فضلاً عن دبلوماسية الأعمال الخشنة في الميادين والجبهات المفتوحة.

رحلة الغسيل الأدمغة والأموال

المراكز الثقافية تحشد من خلالها طهران أهدافها الأيديولوجية، ومسارات الاستقطاب، ومن ثم توظيفها وفق الأولويات التي يرونها مناسبة لإدارة تلك المساحة الجغرافية وما يتولد منها وعنها قدرات ينبغي البناء عليها. 

الجهاد الإسلامي الوكيل الإيراني الذي يستخدم الأراضي السورية إيران في سوريا
عناصر من الحركات الفلسطينية والميليشيات العميلة لإيران في دير الزور. (إنترنت)

هنا، يبدو حضور المراكز الثقافية في مناطق جغرافية سورية تكريساً لذلك، لا سيما ما حصل في مدينة دير الزور ومحيطها من خلال البرامج التي تقوم بالعمل عليها إيران عبر مراكزها الثقافية والتي كانت تقوم بالدعم الاقتصادي وكذلك الجانب الإغاثي والفكري والثقافي على خلفية هشاشة الوضع المعيشي وضعف الجانب الاقتصادي والمؤسساتي للحكومة السورية.

الانضمام لتلك المراكز يمنح الأعضاء بطاقات هوية ذات نفوذ مما يعني دوائر هوياتية ومذهبية في الجغرافيا السورية. ذلك بالإضافة إلى استثمار كبير للعناصر التي يمكنها أن تنضم لفئة المقاتلين عبر تنفيذ إحصاء لمن هم قادرون على حمل السلاح، ويتم استثمار ذلك بشكل فاعل في المواجهات الميدانية.

تعمل مراكز التجنيد التي تتحرك عبر غطاء الدورات المجانية، حيث تم تنظيم دورة لتعليم الخياطة والتطريز في الثالث من شهر شباط/ فبراير الماضي، ضمن المركز الثقافي الإيراني في حي القصور بمدينة دير الزور، ضمت نحو 30-40 امرأة وفتاة تتراوح أعمارهن بين 18 – 25 عام. 

كان الإعلان عن هذه الدورة عبر مجموعات للمركز الثقافي الإيراني في تطبيق “الواتس آب”، وعن طريق أشخاص متعاونين مع المركز الثقافي الإيراني، تكمن مهمتهم في الترويج للمركز، وإبراز النشاطات التي يقوم بها حيث يدعون بأنها نشاطات تهدف إلى مدّ يد العون للشباب والأطفال والنساء للتدريب على مِهن مختلفة وتوفير التعليم المجاني والدعم الغذائي والمالي.

الدورة التي تم الإعلان عنها في المركز الثقافي الإيراني في مدينة دير الزور كانت لتعليم الخياطة لمدة شهرين وبأيام عمل محددة. على أن يحصل كل من يتم الدورة على شهادة حضور الدورة ومكافأة مالية.

ووفقاً للمعلومات التي حصل عليها “المرصد السوري”، فإن الدورة تحت إشراف سيدة سورية تدعى إسراء الفيحان من مدينة دير الزور، وشخص آخر يدعى “باسل” وهو لبناني الجنسية ومفوض من “الحاج عباس” الإيراني، بالإشراف ومتابعة الدورة وتقديم المستلزمات من قماش وماكينات خياطة وغيرها.

في هذا السياق، يشير رامي عبد الرحمن، مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بقوله: “نعم. بكل تأكيد تسعى إيران من خلال هذه المراكز لإنشاء جيوب طائفية لتوسيع ومراكمة نفوذها في هذه المناطق. وهذا أحد أهم أسباب إقامة هذه المراكز وهو غسيل الأدمغة، ونشر أفكار التشيع أو بالأحرى فكر الولي الفقيه”. 

إذ تعمل تلك المراكز على تدريس بشكل واضح اللغة الفارسية، وترديد أناشيد وأهازيج “الحرس الثوري”، ويتحدث المدرسون فيها خلال الدورات عن إيران، وعن “آل البيت”، ويحاولون تثقيف الأطفال بهذه المعتقدات بهدف نشر “التشيع” وهندسة مساحات طائفية لتوسيع نفوذ إيران وتكريس وجودها بشكل دائم في المنطقة.

خلف الكواليس

في حديثه لـ”الحل نت”، لفت عبد الرحمن إلى أن إيران تسعى من خلال هذه المراكز لاستقطاب المزيد من المقاتلين لصفوفها، حتى “يكونوا ذخراً لها وهي لديها بمثابة جيش في هذه المراكز تضمن من خلاله استقرار وجودها الدائم في سوريا، ولتغيير ديموغرافية المنطقة”.

رجال شيعة عراقيون يضربون صدورهم بشكل طقوسي داخل مسجد السيدة زينب المقدس في 22 أبريل 2003 بالقرب من دمشق، سوريا. (تصوير صلاح ملكاوي/ غيتي)

وتركّز طهران على المنطقة من البوكمال شرقاً إلى مدينة دير الزور، وبحال تمكنت من تنفيذ هذا المشروع سيكون له عواقب وخيمة وسيكون خطير على أبناء الشعب السوري في تلك المناطق. 

إحصائيات “المرصد السوري”، تشير إلى أن عدد المراكز الثقافية الإيرانية في الجغرافيا السورية (دير الزور وريف حلب وبلدية الرقة وريف دمشق) حوالي 62 مقراً. كما أن عدد المقاتلين السوريين ضمن الميلشيات الإيرانية يبلغ حوالي 46 ألف مقاتل بالإضافة إلى 20 ألف مقاتل غير سوري.

يحدد رامي عبد الرحمن، أن أول عملية تغيير ديموغرافي قامت بها إيران بالتعاون مع الفصائل وتركيا، كانت البلدات الأربع مضايا و الزبداني مقابل كفرية والفوعة، والتي أفرغت بشكل كامل من سكانها الشيعة وتركتهم نحو مصيرهم المجهول باستثناء العاملين مع “الحرس الثوري” الإيراني. 

في الجنوب داخل محافظة درعا، أُخرج سكان مدينة بصرى الشام بطلب من إيران وجيء بالمواطنين الشيعة إلى منطقة السيدة زينب في إطار ترسيخ التغيير الديموغرافي.

ويلفت رامي عبدالرحمن في ختام تصريحاته لـ”الحل نت”، أن ما يساهم في نجاح عمل ونشاط هذه المراكز لصالح بنك الأهداف الإيرانية في تلك المناطق تحديداً هو عدم وجود الوعي الكافي لدى المدنيين من مخاطر إيران التي لا تختلف عن مخاطر إسرائيل فضلا عن هشاشة المؤسسات التابعة للنظام وتبعيتها الكاملة لإيران.

ممارسة التضليل

تبدو المراكز الثقافية الإيرانية حاضرة بقوة، في مناطق سورية متعددة خاصة في كلٍّ من مدينة دير الزور والبوكمال والميادين وحطلة، وجميعها تعمل تحت إشراف ورعاية من “الحرس الثوري” الإيراني وإدارة شخصيات قيادية. وسائل الإعلام تتحدث كون تلك المراكز يقودها شخصية إيرانية تدعى “الحاج عباس” إيراني الجنسية.

الميليشيات الإيرانية تستقدم عائلات إيرانية لتوطينها جنوب سوريا - إنترنت
الميليشيات الإيرانية تستقدم عائلات إيرانية لتوطينها جنوب سوريا – إنترنت

قالت مصادر إعلامية، إن القيادي في الميليشيات الموالية لإيران، الحاج أحمد، أصدر تعليمات للجهات التنفيذية في محافظة دير الزور بالقيام بعمليات إحصاء ومسح من ضمنها إحصائيات للشبّان اليافعين بشكل خاص. 

وبحسب المصادر ذاتها، فإن المسح سيشمل أيضاً أسماء العائلات التي تسكن خارج المدينة والأملاك الخاصة بها، ومن يشغل ويدير تلك الأملاك، بالإضافة لأسماء الشبان والرجال المتخلفين عن الخدمة الإلزامية في قوات النظام ويعيشون خارج مناطقه.

وبحسب مصادر “إذاعة دير الزور” المحلية، فإن الهدف من عملية الإحصاء التي ستنفذ خلال مدة قصيرة، هي محاولة الضغط على السكان المتبقين في مناطق سيطرة حكومة دمشق، حتى لا يقوموا بإرسال أبناءهم إلى مناطق خارجة عن سيطرة الجيش السوري.

والهدف من هذه الخطوة، هو تجنيدهم حيث سيتم لاحقاً تجهيز قوائم بأسماء الشّبان وإرسال دعوات لهم لحضور الدورات في المراكز الثقافية الإيرانية في المنطقة الشرقية، بغية تجنيدهم لاحقاً من خلال إعطائهم وعود بإعفائهم من الخدمة الإلزامية، وذلك مقابل التطوع مع الميليشيات الموالية لإيران.

فيما تذهب مصادر مطّلعة نحو تكليف شخص يدعو “الحاج ذيب” بتسيير أمور المركز وذلك بعد مغادرة “الحاج أبو رقية” لإيران والذي كان مكلفاً بإدارة المركز الثقافي الإيراني بدير الزور لحين عودته. 

تلك المراكز تقدم خدمات تعليمية مجانية لأهالي تلك المناطق. بيد أن واقع الأمر وحقيقته يشي بأن تلك المراكز تعمل بعيداً عن الخدمات التعليمية والثقافية، وتهدف بشكل مباشر نحو دمج تلك الفئات العمرية من سنّ الشباب نحو البنية الفكرية والإيديولوجية للنظام الإيراني، وضم مَن يصلح منهم للميليشيات العسكرية المتحالفة والعاملة في “ساحات المقاومة”.

الجوع.. أشد خطرا

يذهب السياسي السوري، فاتح جاموس، قائلاً، إن هناك نشاطات إيرانية عديدة جداً في عدد من المناطق السورية، وهي في المحتوى والشكل و الجغرافيا السكانية المذهبية المحتملة أكثر خطورة بتأثيرها بكثير من المراكز الثقافية، ويأتي على رأسها في تقديري ما يسمى الجمعيات الخيرية المختلفة ونشاطاتها، في ظل الظروف السورية المعيشية والاقتصادية. 

لافتات صغيرة لأبي مهدي المهندس، الذي كان أحد الشخصيات الرئيسية في الميليشيات العراقية التي قُتلت في غارة أميركية، إلى جانب الإيراني قاسم سليماني قائد فيلق القدس وأئمة الشيعة الآخرين والزعماء الدينيين الحاليين تتدلى من كربلاء. (تصوير كافيه كاظمي / غيتي)

بل ظروف الجوع الحقيقية لكتلة الغالبية الاجتماعية، إذ تبقى نشاطات المراكز الثقافية أقل خطورة بكثير فهي لا تقوم بأي نشاط مذهبي طائفي مباشر واهتمامها الرئيسي بالموضوعات السياسية والثقافية مع التركيز الدائم والانحياز والدفاع عن السياسات والنهج واستراتيجية العمل الإيراني. 

غير أن ذلك لا يمنع بالتبعية كون تلك المراكز تتحرك وفق خطة مدروسة وتراتبية منتظمة نحو أهداف محددة لا تبتعد عن النشاط الاستراتيجي الإيراني.

يضيف السياسي السوري في إطار تصريحاته لـ”الحل نت”، أنه لا شك كون ضعف لياقات السلطة السورية والدولة والمؤسسات والوهن الشديد الذي يصل حد غياب قدرة السلطة السورية على تحفيز طاقة شعبية بكل السبل تقريباً، هو عامل مركزي في خلق فراغ كبير في أكثر من ميدان ثقافي ووطني ومعيشي، قابل لـأن تستغله السلطة الإيرانية ومؤسساتها المختلفة نحو التحفيز وشد فعاليات وأفراد وخلق تكوينات وقوى وفعاليات، على رأسها العسكري والأمني وتوظيفه خدمة لأهدافها سواء في الداخل السوري، وما يتصل بذلك داخل الرؤية الإقليمية والدولية.

ومن البداهة بمكان، أن كل ذلك سواء يعكس إرادات السلطة السورية أو الإيرانية، إلا أنه حتماً وعملياً في صالح ما نسميه قوة النفوذ الإيراني الاستراتيجي المتنوع وتطور قوة ونفوذ السياسات الإيرانية وخططها وأولوياتها في المنطقة، بحسب المصدر ذاته.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة