عقد حزب “البعث العربي الاشتراكي” الحزب الحاكم في سوريا، السبت الفائت، الاجتماع الموسّع للجنة المركزية في قصر المؤتمرات بدمشق، والذي انتخب الرئيس السوري بشار الأسد، أميناً عاماً “بالإجماع”. وانتخب الاجتماع لجنة مركزية وقيادة مركزية للحزب. 

في هذه المناسبة تحدّث الأسد على مدى ما يقرب من الساعة والنصف عن رؤيته للوضع في سوريا، ودور الحزب وأدواته ومبادئه ومنهجه في تطبيق رؤية الأسد. وكان قد سبق هذا الاجتماع، اجتماع آخر لاختياره أمين عام للحزب، الذي أعلن فيه قرار فصل حزب “البعث” السوري عن السلطة السياسية الحاكمة. 

الواقع أن هذا القرار الذي جاء متأخّراً على نحو عقدٍ كامل لم يرحب به السوريون ولم يضعه أحد موضع الاعتبار، لدرجة أن بعض المراقبين يرون أن هذه الاجتماعات الأخيرة وهذا القرار، ما هي إلا ممارسة عملية لفلسفة الكذب والخداع السياسي. 

على المستوى النظري والعملي دائما ما يحدث نوع من الاقتران الشرطي بين السياسة والكذب السياسي، الذي يحتاج إلى قَدَرٍ من المرونة والذكاء، اللذان يساعدان الحاكم على عدم اتضاح أكاذيبه للعوام. وهذا بالتحديد ما يفتقده الأسد وخطاباته لدرجة أن المواطن العادي أصبح لا يبذل مجهوداً ذهني لكشف هذه الأكاذيب لأنها واضحة بذاتها، وأيضاً لأن هناك انفصالٌ واضح بين الواقع السوري الذي يعاني من الانهيار على كافة المستويات، وبين خطابات الأسد ذات الكلمات المعسولة الكاذبة. 

وليظهر لدينا سؤال بديهي: لماذا يلجأ الأسد للكذب؟ ولماذا اعتمد الأسد فلسفة التعتيم من خلال الاعتماد على مفاهيم مفقودة وفضفاضة مثل العدالة الاجتماعية، والاشتراكية، والأيديولوجيات، والتعافي المبكر.

استغلال ملف إعمار سوريا

الأصل في السياسة أنها بنت الواقع بكل ما هو عليه، وحينما يغيب هذا الواقع يحل الخيال. لأن الواقع في سوريا سوداوي فكان لابدّ من اختلاق أكاذيب بهدف الحصول على غايات أخرى. 

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث”

فمثلا عندما يقول الأسد في خطابه الأخير: “عندما نتحدث عن التوازن بين القواعد الاقتصادية والقواعد الاجتماعية فهذا يعني أن نسير بخط دقيق، لا يكون فيه الجانب الاقتصادي مجرداً على حساب المجتمع، لأننا في هذه الحالة سوف نتحول إلى حزب رأسمالي، ولا يمكن أن يسير بالعكس باتجاه الجانب الاجتماعي بشكل مجرد، لأننا عند ذلك سوف نكون دولة مفلسة، لذلك أتحدث عن كل هذه العناوين لكي نصل إلى نقطة التوازن بين الأيديولوجي وبين الاقتصادي”. 

هنا ليس خفيّاً على أحد أن سوريا منذ بداية الاحتجاجات عام 2011 تمرُّ بأزمة اقتصادية خانقة، فعندما يأتي رأس الهرم ويتحدث عن خط دقيق من التوازن بين الاقتصاد والجانب الاجتماعي أي تحقيق العدالة الاجتماعية التي قوامها المساواة والحرية، فكيف يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية في مجتمع 90 بالمئة منه يعيشون تحت خط الفقر وأكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وفقا تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر. 

حديث الأسد هنا غير موجّه للداخل ولا يمثّله وإنما هو للخارج وبالتحديد للدولة التي طرحت ملف إعمار سوريا مثل والإمارات والسعودية، فأراد الأسد إرسال رسالة مطمئنه لهذه الدول؛ لأن ملف إعمار سوريا يعاني مستقبل الأسد السياسي وبقاءه وفقا تصوره. 

كما أن الأسد ومنظومته الحالية ليس لديه ما يقدمه إلا الحديث الواهم عن الاقتصاد السوري، ألم يقول الأسد في عام 2014 :”لنبدأ جميعاً يداً بيد لإعادة إعمار سوريا لنكون جديرين بها”. ماذا فعل هو من أجل الإعمار غير الحلم بأموال الإعمار والحديث عنه !!!

بحسابات الأسد يفترض أنه هو من سيشرف على إعادة إعمار سوريا، ومسقِطاً من حساباته أن الإعمار الاقتصادي لن يكون دون الإصلاح السياسي. فقد قدر البنك “الدولي” تكلفة إعادة إعمار سوريا بنحو 200 مليار دولار أميركي. في حين قدّرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا” بنحو 140 ملياراً. ومصادر دولية أخرى تقدّر التضخم حالياً في حدود 90 بالمئة، والدّين الخارجي يتوقع أن يبلغ 100 بالمئة من الناتج المحلي. 

مرحلة إعمار سوريا تأتي وكأنها بالنسبة للأسد المنقذ الأخير له من الانهيار السياسي والاقتصادي. ولذلك، يربط الباحث في مركز “جسور” للدراسات، رشيد حوراني، في حديثه مع “الحل نت”، فكرة الكذب في خطابات الأسد بفكرة أعمق من البُعد الاقتصادي بجعلها مرتبطة أكثر بعوامل شخصية. 

ليست المرة الأولى وفق الحوراني، التي يلجأ فيها بشار الأسد إلى الكذب في خطابات ولقاءات الصحفية، ومرد ذلك يعود لأسباب متعددة أهمها عدم الثقة بالنفس، وبشار الأسد من خلال ما نشر عنه وحياته ضمن العائلة هو فرد كان مهمش لضعف في إمكانياته وقدراته، ومقتل أخيه الأكبر قاده بالصدفة إلى موقعه، أي الأمر يعود إلى طبيعة شخصيته ونمط التربية التي تلقاها. 

وبالتالي الكذب هو أسلوب لتأكيد الذات، كما أن الأسد يعتمد الكذب لعدم وجود ما هو حقيقي من منجزات على صعيد سياسته الداخلية أو الخارجية المتعلقة بإنهاء الحالة التي وصلت إليها البلاد، ولذلك يلجأ للكذب في ظل عدم امتلاكه الحقائق والمنجزات التي من المفترض أن تنعكس واقعا معاشا.

العجز عن طرح الحلول

الرجوع إلى الكذب كمصدر لسياسة الأسد لأنه ليس لديه رغبه هو والحكومة وحتى أعضاء حزب “البعث” في مناقشة المشكلات الحقيقية التي يعاني منها المجتمع السوري حتى في المناطق التي تقع حتى سيطرته، ولأنه لا يريد مناقشة الاستحقاقات السياسة والتي لن تكون دون قرار “2254”. 

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث”

ولذلك الأسد لا يناقش؛ لأنه يعلم أن هذا يتطلب منه تنازلاتٍ سياسية من حكومته أو من شخصه على الأقل، وبالإضافة أن هناك بسبب آخر لهذا الكذب السياسي هو فقدان الحلول، فدمشق لا تمتلك حلول حقيقية وإنما هي شعارات جوفاء، فهو مثلا حينما يتحدث عن العدالة الاجتماعية وكأن سوريا مستقرة خالية من المشكلات ولا تعاني أي انهيار فهي حسب الصورة التي يقدمها في خطاباته وأحاديثه دولة ليست به فقر وبها ما يكفي من الإنتاج ويعيش المواطنين في رفاهية اقتصادية!!!

والحقيقة أن سوريا تعيش أزمات لا توجد حلول لها في قاموس الأسد، مثل أزمة المحروقات – التي هي أساس العملية الاقتصادية- والنفط ، فهو يعلم أن هذه الموضوعات مرتبطة بالقوات الدولية الموجودة في سوريا التي لا يستطيع أن يوجه لها كلمة وليس خطاباً. فكان من الطبيعي أن يحلّ الكذب محلّ الحلول والنقاش.

إعادة تأهيل النظام

يحاول بشار الأسد في خطاباته تقديم ذاته ومنظومته على أنه المخلص الذي يفهم المنظورة الاقتصادية ومتطلباتها ويطرح البديل المناسب للجميع. قائلا :”هنا طرح كثيراً خلال العقدين الماضيين بعد المؤتمر القطري لعام 2005 حول اقتصاد السوق الاجتماعي، وحُمّل ما لا يحمله من معان وتفاسير وحتى من أخطاء أو من عثرات مرت بها سورية، حُمّلت لهذا التعريف، وتعامل معه البعض وكأنه عقيدة قائمة بحد ذاته”. 

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث”

وأضاف في خطابه، “لو كانت عقيدة لما أبقينا الاشتراكية، والاشتراكية هي نظرية وليست عقيدة، لكنا استبدلنا الاشتراكية ووضعنا مكانها اقتصاد السوق الاجتماعي، والحقيقة رؤيتنا لهذا الموضوع مبسطة”، هنا أيضاً خطاب موجه للخارج بما يعني أننا نسير على الدرب الصحيح في محاولة واضحة من الأسد لتلميع ذاته دولي، لأنه في هذه المرحلة التي يمر بها هو وحزبه من المهم الدعم الدولي سواء كان عربي أو غربي. 

الأسد تحدث الأسبوع الماضي، عن لقاءات خاص ببعض القوة الدولية ولم يوضح طبيعة هذه اللقاءات ولا مضمونها فربما هناك ما يتم الإعداد له الخفاء كإعادة تأهيل، فمن الطبيعي هنا أن يكذب الأسد في سبيل المحافظة على سلطته وإعادة اكتساب الشرعية المتآكلة مرة أخرى. 

ويقول في هذا الصدد حوراني، إن محاولة عقد اجتماع اللجنة المركزية لحزب “البعث”؛ الإيحاء بقدرة الحزب على تجديد نفسه بنفسه من خلال الكوادر المنتسبة في صفوفه، كما أن الهالة الدعائية التي أحيط بها ذلك الاجتماع تأتي في وقت تعمل فيه روسيا بالتنسيق مع دول الخليج العربي بشكل خاص على إعادة تأهيل الأسد ومنظومته الحالية. 

تطالب دول الخليج وخاصة السعودية، بإجراء إصلاحات جذرية وحقيقية في بنية مؤسسات الدولة الحاكمة الأمنية والعسكرية والحزبية، أضف إلى ذلك إن أي عملية إصلاح ورغم أنها شكلية لا يعلن عنها الأسد، ولا يحيطها باهتمام إعلامي إلا إذا كانت بضغط من الخارج. 

فالأسد يحرص على كسب شرعيته من الخارج على حساب سعيه لكسب شرعيته من الداخل عن طريق الخدمات التي من المفترض أن تقدمها مؤسسات نظامه للمواطنين. فخطابات الأسد بما جاء فيها مجرد كلام، وبموجبه يمكن وصف بشار الأسد بالسفسطائي الذي يتلاعب بالألفاظ ويغيب الحقائق. 

ودليل ذلك أنه سبق عقد اجتماع انتخابات القيادة المركزية للحزب، عقد مؤتمرين للحزب “القطري العاشر” في العام 2005، و”القطري الحادي عشر” في العام 2012، وفي كلا المؤتمرين طرحت تنفيذ الإصلاحات في البلاد وفي الحزب ذاته، وكانت البلاد حينها مستقرة وليس فيها تدخل أجنبي على أراضيها، وأن الشعب السوري خاصة في 2005 عوّل على بشار الأسد في تنفيذ الإصلاحات، ولكن ذلك لم يحدث.

طبيعة الطائفية 

الاعتماد على فلسفة الكذب في أحاديث الأسد ربما جاء من داخل طبيعة نظام الحكم نفسه وتركيبته القائمة على الكذب من قبل عام 2011، حيث نجد التشابه بين الخطابات ما قبل هذا التاريخ في عام 2000، و2005، و2010 مع خطابات مع بعد انطلاق الاحتجاجات بنسبة 70 في المئة، من ذات الوعود الكاذبة والطموحات الفارغة، والعداوات المصطنعة. 

اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث” – إنترنت

كما أن هناك نقطة في غاية الأهمية، وهي فكرة القبيلة المتطورة التي تظهر في عائلة الأسد، التي تساعده على أكاذيبه وتسوّق له كضمان على وجودهم في السلطة حتى لو على حساب الشعب السوري، وهو ما ظهر في اختيار أخيه ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة ضمن أعضاء اللجنة المركزية للحزب. 

وهنا يشير حوراني في هذا الإطار، إلى أن انتخابات اللجنة المركزية الأخيرة تأتي لتعزز أمرين، الأول علونة الحزب حيث أن الغالبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية هم من العلويين، وربما فعل بشار الأسد ذلك كرسالة لهم أنه هو ضمان لبقائهم بعد تعالي العديد من الأصوات المناهضة لسياسيات الدولة مؤخرا، وهمّش المسيحيين من مناصب اللجنة المركزية للحزب. 

أما الثاني فهو إعلانه اعتماد المركزية المشددة في حكم البلاد من خلال طرحه لنموذج الصين وسياستها المعتمدة. أما ذكره فئة الكادحين في خطابه الأخير وضرورة دعمهم فهي تعكس عدم نيّته في أن ينحو منحى الدول المتقدمة من خلال ما تقدمه لمواطنيها من برامج الرفاهية وتحسين مستوى العيش. 

بل، ويصر على إبقاء هذه الفئة التي باتت تشكل الطبقة العظمى من السوريين في مكانها لمنعها من التفكير في الانخراط بالحياة السياسية طالما لا تتمكن من كسب قوتها.

وأخيراً ، إن خطابات الأسد لا تحتوي على الكذب ومبرراته وفلسفة، وإنما أيضاً على التناقض، ففي الوقت الذي يحاول أن يقدّم الرئيس السوري نفسه وبوصفه صورة جديدة مختلفة عن الأمس بكل ما فيه من أخطاء – لم يتم الاعتراف بها طبعاً- تجده يقدّم نفسه في ذات الخطاب باعتباره جزءاً من “محور المقاومة”!!!!.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة