تسعى القوى الدولية الفاعلة الاشتباك مع الأزمة السياسية اللبنانية، عبر مستوى تعطيل انتخابات رئيس الجمهورية منذ أن شُغر هذا المنصب قبل سنة ونصف، وكذا تهدئة التصعيد على الجبهة اللبنانية في اتساقٍ مع مفاوضات الهدنة على قطاع غزة.

تتجدد المحاولات الفرنسية بالدخول إلى الساحة اللبنانية والإقليمية، عبر إيجاد ترتيبات أمنية لتتوقف المعارك في الجنوب اللبناني، وبالتنسيق مع الجانب الأميركي عبر مقاربات تذهب نحو تحريك الحضور الميداني  لـ”حزب الله” مسافة 10 كم بحسب الرؤية الفرنسية و 7 كم بحسب الرؤية الأميركية.

ذهبت مصادر لبنانية مطّلعة لـ”الحل نت” أن “حزب الله”، لن يوافق على الترتيبات المقدّمة من باريس وواشنطن على خلفية الرؤية الاستراتيجية لإيران، وأفق تحركاتها خلال الفترة المقبِلة، سواء على مسار النفوذ والهيمنة في الشرق الأوسط، وأخرى يرتبط بمتانة وفعالية حضور “حزب الله” في الجنوب اللبناني وتطلعاته، للحصول على مقابل جديد نحو إتمام التهدئة مع الجانب الإسرائيلي، وهو الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة الأميركية.

عصا واشنطن

يشير الباحث اللبناني، حسن فحص، إلى أنه لا بد من الإشارة إلى أن موقف “حزب الله” اللبناني واضح من كل ما يدور من كلامٍ حول الهدنة أو وقف إطلاق النار على جبهة الجنوب في لبنان.

الرئيس اللبناني ميشال عون (يمين) يستقبل الوسيط الأمريكي آموس هوشستين (يسار) بعد توقيعه على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بوساطة الولايات المتحدة في 27 أكتوبر 2022، في قصر بعبدا في بيروت، لبنان. (تصوير الرئاسة اللبنانية)

ويردف فحص عبر تصريحاته لـ”الحل نت”، أن موقف الحزب محدد، أن أي هدنة في قطاع غزة سيقابلها هدنة على جبهة الجنوب اللبناني، وأي وقف لإطلاق النار دائم سيقابله وقفٌ لإطلاق نارٍ دائم على الجبهة اللبنانية.

لكن، هذا لا يعني أن “حزب الله” لم يضع شروطه لما بعد وقف إطلاق النار، أو أنه لا يملك شروطا للمرحلة التالية، وأي ضغط لتحقيق وقف إطلاق النار قبل التسوية الشاملة التي تبدأ من غزة، فإن الحزب غير معني بها، وهو ليس على استعداد لتقديم أي تنازلات أو تسويات ما لم يتحقق الشرط الأساسي في غزة.

يتابع الباحث في الشأن الإيراني حسن فحص، أن المبادرة الفرنسية أو أي مشاريع أميركية لفرض وقف إطلاق نار على الجبهة اللبنانية لن تصل إلى نتيجة، طالما أن هذه الشروط لم تتوفر بالنسبة لـ”حزب الله”.

أما مسألة انسحابه من بعض مناطق الجنوب اللبناني، فهو شرط ممتنع أصلاً، لكون الوجود العسكري لـ”حزب الله” في الجنوب هو من أبناء القرى الجنوبية، ولا إمكانية لترحيلهم. وما يتعلق بالمواقع العسكرية للحزب، فهي غير علنية، وإمكانية الاستعانة بالقوات الدولية للوصول إلى هذه المواقع، يعني إدخال هذه القوات في مواجهة مع الحزب من جهة، وأبناء هذه القرى من جهة ثانية. 

بالإضافة إلى أن “حزب الله” لن يقبل أي تعديل في مهمات القوات الدولية، وقد سبق أن أشار رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، إلى أن الدعوة لتطبيق القرار 1701 يجب أن يشمل طرفي الحدود، وأن زمن فرض الشروط على لبنان قد انتهى، ورئيس البرلمان لا يتكلم إلا بعد التنسيق مع قيادة “حزب الله” الذي فوّضه مسألة التفاوض، بحسب تعبير المصدر ذاته.

من ناحية أخرى، يضيف فحص أن “حزب الله” لا يربط موضوع الشأن الداخلي بأي تطورات على الجبهة العسكرية، لذلك من الصعب أن يلجأ إلى مقايضة وضعه العسكري وسلاحه وأماكن انتشاره بالحصول على مكاسب في السلطة اللبنانية. لأن ما يحقق في هذه السلطة هو تحصيل حاصل، سواء لجأ إلى تسوية أو لم يلجأ إليها. خاصة وأن تجاربه مع الطرف الأميركي غير مشجعة، وما حصل بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية وضرب واشنطن عرض الحائط بكل إمكانية للتفاهم مع الحزب ما تزال ماثلة أمامهم.

خارج المعادلة

فيما يتعلق بالطرح الأميركي حول ترسيم الحدود مع لبنان، فإن موقف “حزب الله” واضح، أن الانسحاب الإسرائيلي من المناطق المتنازع عليها لا يحتاج إلى اتفاقية جديدة، لأن هذه الحدود مرسّمة منذ اتفاقية الهدنة وما قبلها، وبالتالي على إسرائيل الانسحاب إلى الحدود المعترف بها دولياً.

رجل يقف لالتقاط صورة مع قطع من الورق المقوى لحسن نصر الله (يسار)، زعيم حزب الله الشيعي اللبناني، ووزير الخارجية السابق جبران باسيل، معلقين من قبل متظاهرين لبنانيين في وسط بيروت في 8 أغسطس 2020، خلال مظاهرة ضد قيادة سياسية يتهمونها بالمسؤولية عن الانفجار الوحشي الذي أودى بحياة أكثر من 150 شخصا وشوه العاصمة بيروت. (وكالة فرانس برس)

إلا أن الحزب من خلال هذا الطرح وإعادة الحديث عن “النقطة B1” بالقرب من ساحل الناقورة البحري، فهو يبعث برسالة إلى واشنطن وتل أبيب على حدٍّ سواء، بأن حصول لبنان على هذه النقطة سيعيد فتح ملف الترسيم البحري الذي حصل قبل نحو عامين. وبالتالي فإن من حق لبنان عندها المطالبة بحصته في حقل كاريش.

النقطة العالقة في هذا المسار، تبقى مزارع شبعا الموزّعة بين لبنان وسوريا وفلسطين، وعلى الجانب الإسرائيلي الانسحاب من المناطق اللبنانية والسورية، ثم يتفاوض لبنان مع سوريا حول حصة كل طرف بناء على الترسيم الدولي القديم للحدود اللبنانية المعترف به في الأمم المتحدة.

لا شك أن تلك المقاربات من القوى الدولية الفاعلة حول الوضع الميداني في جنوب لبنان تصطدم بالوضع الداخلي في لبنان ومدى انخراط “حزب الله” في المؤسسة الرسمية، فضلا عن كونه موضوعاً شائكاً. إذ إن  نفراً من المطّلعين على مسارات “حزب الله” يستبعدون حدوث تقدم إيجابي في هذا الملف، رغم وجود مؤشرات إيجابية خلال الأيام الأخيرة.

أضافت تلك المصادر، أن طلب الانسحاب لعشرة كيلومتر أو سبعة بحسب المشروع الأميركي أو الفرنسي،  يفقد “حزب الله” مبرر السلاح في مقابل تعزيز قدرات الجيش اللبناني وزيادة رقعة انتشاره، وهو ما يرتبط بوجود قائد الجيش ومباحثاته مع الجيش الإيطالي والفرنسي بذات الخصوص.

يقيناً، يدرك “حزب الله” أن أي تحرّك في هذا الملف ينبغي أن يبدو ظاهرياً مرتبط بمبدأ “وحدة الساحات” عموماً سيما الوضع الميداني والسياسي في قطاع غزة ومباحثات حركة “حماس” مع إسرائيل. وأكدت مصادر لبنانية مطّلعة لـ”الحل نت”، أن أزمة الوضع الحالي تستقر نحو الفجوة فيما بين سقف المطالب والتنازلات التي من الواجب أن يقدمها كلّاً من الجانب الإسرائيلي و”حزب الله”، حتى يستطيعا التحرك خطوة للأمام نحو التسوية.

من جانبه يذهب العميد الركن خالد حمادة، مدير “المنتدى الإقليمي” للاستشارات والدراسات للقول إن هناك تطابقا كبيرا بين المساعي الفرنسية الدبلوماسية وما يمكن تسميته المقاربة الأميركية لإرساء الاستقرار في جنوب لبنان. 

الفرق الوحيد بينهما هو أن المقاربة الفرنسية، تم صياغتها وفقا لعدد من المراحل  تبدأ بوقف إطلاق النار وانسحابٍ لعشرة كيلومترات وتنتهي بتطبيق القرار 1701. وهذا يعني أن “حزب الله” لن يكون موجودا جنوب نهر الليطاني، في حين تؤكد المقاربة الأميركية التي قدمها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، في زيارته الأخيرة لبيروت تذهب إلى هذه الصياغة بشكل مباشر، وتعتبر أن الصراع في الجنوب هو صراع حدود ليس أكثر. وهذا  يعني إسقاط أي علاقة لما يجري في لبنان مع غزة  وبالتالي اعتبار مفهوم “وحدة الساحات” الذي يختبئ خلفه “حزب الله” ليس موجوداً.

فرص الحرب تتسع

إذاً، نحن أمام مقاربة واحدة وإنما تختلفان بالشكل، فالمقاربة الفرنسية لا تنتهي عند حدود العشرة كيلومترات ولو كانت كذلك لقبِل بها “حزب الله”، أو بتعبير أكثر دقة  لكانت إيران قبلت بها. فالوجود المسلح لـ”حزب الله” في الجنوب اللبناني يرتبط بـ مسألتين هامتين بالنسبة لطهران تحديداً: المسألة الأولى، تحقيق تفوّق في الداخل اللبناني عن طريق هذه الميليشيا المسلحة. وبالتالي الاستثمار في استخدام لبنان الدولة لمشاريع إيرانية وتأكيد نفوذها في المنطقة.

رئيس الجمهورية اللبنانية كيف يمارس نصرالله الرئاسة بصلاحيات استثنائية؟ (1)
دورية تابعة لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) تمر بصور زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله (على اليمين) ورئيس البرلمان نبيه بري في قرية العديسة بجنوب لبنان على طول الحدود مع إسرائيل في 10 أكتوبر 2023. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

والمسألة الأخرى، هي الحفاظ على التواصل مع الولايات المتحدة، عبر ما يمكن تسميته استقرار إسرائيل. وهذا يعني أنه يجب النظر دوما لموقف “حزب الله” مما يعرّض من خلال زاوية الرؤية الإيرانية. فـ”حزب الله” لا يمتلك حرية القرار في تحديد موقفه من أية مقاربة دون الرجوع لطهران وتبيان قرارها الحاسم من ذلك.

لذلك، والحديث للعميد الركن خالد حمادة، لا مجال للقبول حتى الآن بتلك المقاربات وفقاً للمعطيات الحقيقية  وتسلسل الأحداث  المتزامن مع المفاوضات حول الوضع الميداني والسياسي في غزة وهذا ما يبرره عدم التجاوب الرسمي مع تلك المقاربات سواء الفرنسية أو الأميركية.

ويلفت مدير “المنتدى الإقليمي”، في تصريحاته لـ”الحل نت”، أن النقطة المحورية التي تطمح لها طهران وتضعها كأفق لرؤيتها الاستراتيجية هي حضورها بشكل مباشر في هذه المفاوضات ومحاولة التعويض عن تنصّلها من الحرب في غزة وخروجها من الحراك الدبلوماسي المتعلق بوقف إطلاق النار. وبالتالي ترى طهران أن قبول تلك المبادرات من الناحية المبدئية يبقى مرهوناً بوجودها المادي والمؤثر في لبنان وفي التحكم بقراره السياسية بمنتهى الوضوح.

في المحصلة، قد تدفع إيران بـ”حزب الله” للموافقة على تلك المقاربات إذا ضمنت  حضورها على طاولة المفاوضات. فالدولة العميقة الإيرانية لن تسمح بغيابها المادي  عن طاولة  المفاوضات اللبنانية كما يحصل الآن في غزة.

إلى ذلك يستنتج العميد الركن خالد حمادة، أن الوضع الميداني في الجنوب سيذهب نحو الاتساع أكثر في الأفق المنظور وسيمتد أكثر نحو البنى التحتية لـ”حزب الله” في العمق. والرئيس نبيه بري، يأخذ الإجابات من “حزب الله” دون الاستماع للكتل النيابية ويمررها للقوى الدولية الفاعلة على أساس أنها إجابات لبنانية وحقيقة، الأمر أنها فقط تعكس مواقف “حزب الله” مما يجعلنا نفهم لماذا اعترض برّي، على شرطين محددين: الأول الانسحاب حتى مسافة عشرة كيلومترات، والثاني مراقبة التنفيذ من قِبل فرنسا والولايات المتحدة وهذا ما يرفضه بطبيعة الحال “حزب الله”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة