في ظل التغييرات الجيوسياسية بالمنطقة إثر عدد من الانعطافات الحادة، تتباين مواقف اللاعبين الإقليميين والدوليين في صراعاتها المحتدمة منذ عام 2011. وفي الخريطة السورية المتخمة بالاحتلالات وصراع النفوذ بين روسيا وإيران وتركيا، ووكلائهم المحليين، تبدو انتقالات موسكو التي راكمت نفوذاً استراتيجياً على ساحل المتوسط، قد ارتبطت مؤخراً بمتغيرين، أولهما، الحرب الروسية على أوكرانيا، وثانيهما، الحرب في غزة، وكل منهما ما زال يضع سيناريوهات بقاء موسكو وطبيعة دورها أمام عدة احتمالات.

المتغيران الأخيران، أربكا الحسابات السياسية والأمنية الاستراتيجية لموسكو، وهي حسابات الربح والخسارة المتوقعة من انخراطها المحموم في الإقليم، والذي شهد رغبة في التوسع والتمدد كما في سوريا وليبيا. وهذه الحسابات البراغماتية ربما تتقلص في ظل تداعيات ما يجري في غزة بين “حماس” وإسرائيل، وكذا الضغوط التي تبعثها الحرب في كييف. 

فيما سبق كان تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”، أكد على انسحابات عسكرية للقوات الروسية بأعداد كبيرة من دون ترجيح تام ونهائي لرقم محدد، وإن كان حدده مسؤولون، لم تكشف الصحيفة عن هوياتهم، بأنه يتراوح بين 1200 و1600 عسكري. وتتجاوز الانسحابات الروسية من سوريا العسكريين إلى المعدات والأسلحة، وتحديداً أنظمة الدفاع الجوي. 

ولدى موسكو قواعد عسكرية وأمنية في سوريا تجعل من وجودها يتجاوز فكرة توفير الحماية للرئيس السوري بشار الأسد، بل يرتبط على نحو أو آخر بمصالحها الجيو ستراتيجية والجيو طاقوية في المنطقة، والمتمثلة في وجود دائم على ساحل المتوسط (والنفط في شرق المتوسط) كما هو الحال من خلال موطئ قدمها المتوغل في مرفأ طرطوس والممتد لنحو نصف قرن وفق عقد الاستئجار بين موسكو ودمشق. ويتماس الموقف الروسي من وجودها في المنطقة مع العقيدة البحرية الروسية، والتي تشير بحسب مرسوم دشنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل عامين، إلى بحث موسكو عن زيادة قواعدها ونقاط تمركزها خارج روسيا، موضحاً إلى مخاطر ما اعتبره “نهج الولايات المتحدة نحو الهيمنة في المحيطات العالمية بمثابة تحد رئيسي للأمن القومي لروسيا الاتحادية”.

الوجود الروسي في البحر المتوسط

وفق الوثيقة التي وقعها بوتين، فإن “مضائق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط ​​مهمة لضمان الأمن القومي لروسيا”. وتشمل العقيدة “وجود نقاط ضمان لوجستية- فنية في البحر الأحمر”، فضلاً عن “تطوير مرافق الإنتاج لبناء سفن حاملة للطائرات حديثة للقوات البحرية”. وجاء في الوثيقة أنه بجانب “المركز اللوجستي الأساسي التابع للبحرية في مدينة طرطوس في سوريا، سيتم تدشين مراكز مماثلة في عدد من البلدان في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وذلك لضمان الوجود البحري للاتحاد الروسي على أساس دائم في البحر الأبيض المتوسط انطلاقاً من الاتفاقية مع الجمهورية العربية السورية، وإنشاء وتطوير مراكز دعم لوجستية أخرى للأسطول على أراضي دول أخرى في المنطقة”.

فيما تشير الوثيقة إلى ضرورة “تطوير العلاقات مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ذات البحار المجاورة والمساحات البحرية، بما في ذلك البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر”. ويضاف إلى ذلك “خطط لإنشاء قواعد بحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي”، وتتضمن الوثيقة أولويات السياسة البحرية والمتمثلة في “الحفاظ على الوجود البحري للاتحاد الروسي في منطقة الخليج العربي والحفاظ عليه على أساس إقامة مراكز دعم لوجستية في البحر الأحمر والمحيط الهندي”.

بوتين يستقبل الأسد في “الكرملين” – أرشيفية (إنترنت)

يبدو الموقع الجيوسياسي لسوريا مغرياً لأي دولة لديها طموح للتوسع الخارجي، وإيجاد عتبة للصعود بغية أداء دور إقليمي ودولي، الأمر الذي كانت تعنى به أجندة الاتحاد السوفيتي السياسية في فترة حافظ الأسد، وتعدد أو تعمقت العلاقات بينهما في مجالات مختلفة، عسكرية واقتصادية وسياسية، وفق المحلل والكاتب السياسي السوري درويش خليفة.

ويقول خليفة لـ “الحل نت”، إن العلاقات البراغماتية بين موسكو ودمشق، ترتب عليها توفير الأولى المخزون العسكري للأخيرة وذلك في مقابل حصولها على موطئ قدم بقاعدة عسكرية في طرطوس، لتحقيق مصالحها بالقرب من المياه الدافئة.

“ومن ثم، وجود الأسد بالنسبة لروسيا لا يتجاوز فكرة ضمان مصالحها. وبالتالي، فإن بدائل هذه الحماية هي المحدد الرئيسي الذي تتشكل بناء عليه شروط بقاء الأسد أو بالأحرى استمرار الدعم الروسي من عدمه، وفي حال نجح الكرملين في عقد صفقة ما لضمان تلك المصالح فإن الأسد سيكون والعدم، ونهايته محتومة”. 

دعم الأسد

القواعد العسكرية الروسية في سوريا، وبالأخص القاعدتين على ساحل المتوسط، ستساهم في تدشين أسطول بحري بمقدوره العمل في المياه الخلفية لبحر أزوف، فضلاً عن احتمالية بناء دور عسكري أكثر تطوراً يمكنه الانطلاق على طول شرق المتوسط. ويقول المحلل والكاتب السياسي السوري، إن عودة روسيا لدمشق، هو استئناف لدورها الذي انقطع لتأدية دورها السابق في المنطقة، بعد الفجوة التي تسببت فيها هزيمة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وهذا الدور التوسعي سيواجه تحديات جمة نتيجة الصراع في كييف، وتداعيات الحرب في غزة، والتنافس مع طهران.

هنا، أشار “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية” في تقرير سابق، إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية قد جاءت بعدة آثار على التواجد الروسي في سوريا ودعمها للأسد، ليس عسكرياً في صورة سحب معدات وقادة ومقاتلين، ولكن سياسياً أيضاً. فبالرغم من أن روسيا كانت تتوقع نجاح القمة العربية التي انعقدت في الجزائر العاصمة، حيث كانت تأمل بتحقيق إنجاز شخصي للرئيس بوتين من خلال عودة سوريا إلى المسرح الإقليمي، إلا أن توقعاتها هذه يبدو أنها لم تكلل بالنجاح، فالقرائن القليلة على توافق الدول الأعضاء على دعوة بشار الأسد لحضور القمة، التي كانت تلوح في بداية عام 2022، قد اختفت بعد المشاورات التي أجراها أحمد أبو الغيط، الأمين العام لـ “جامعة الدول العربية” مع أعضائها. 

كما سعت الجزائر آنذاك في الكواليس بتشجيع من روسيا لإعادة دمشق إلى الجامعة العربية، التي علقت عضويتها فيها نهاية عام 2011 في بداية الحراك ضد نظام بشار الأسد، لكنها تخلت عن هذا المسعى رسمياً بناء على طلب دمشق نفسها، وأصبح من الواضح أن دعوة سوريا إلى قمة الجزائر في ذاك الوقت تنطوي على مخاطرة كبيرة، فأدركت الجزائر عواقب هذا الوجود على نجاح قمتها وبالتعاون مع دمشق تخلت عن مبادرتها. وبينما يسعى الأسد للخروج من العزلة الدبلوماسية يواجه بوتين حليفه الأساسي حالياً عزلته الخاصة، مما يعيق محاولات سوريا لإخراج نفسها من مأزق سياسي امتد طويلاً.

مرحلة جديدة أمام الوجود الروسي في سوريا

بعد التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، تتعدد سيناريوهات الوجود الروسي في سوريا، حيث تتعرض دمشق لتحولات جديدة بعد الأحداث الأخيرة في المنطقة، فمع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الجيو ستراتيجية، يبدو أن الوجود الروسي في سوريا يواجه مرحلة جديدة من التحديات والتغيرات المحتملة. تأتي هذه التحولات في ظل الأحداث الجارية في غزة والتوترات المتزايدة بين إسرائيل وسوريا، حيث تواجه روسيا ضغوطاً جديدة على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية. ومع استمرار التطورات، يبدو أن الوجود الروسي في سوريا قد يواجه تحديات جديدة، وقد تتغير ديناميات النفوذ في المنطقة بشكل جذري. ومع ذلك، فإن التحالفات الإقليمية والدولية والمصالح الاستراتيجية ستظل تلعب دوراً حاسماً في تحديد مسار الوجود الروسي في سوريا ومستقبله.

بالنسبة لغزة وترتيبات إسرائيل، من المتوقع أن تبحث روسيا عن فرصة لتعزيز دورها كوسيط في التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل، خاصةً بعد التوترات الأخيرة في المنطقة، وفق الكاتب السياسي السوري، المقيم في باريس، شيار خليل، وقد تسعى موسكو لتسهيل تفاهمات بين الطرفين بهدف تحقيق الاستقرار والتهدئة بين الطرفين والبحث عن حلول أخرى، وخاصة رأينا أن هناك تسريبات جديدة تتحدث عن نقل مقرات “حماس” وقياداتهم من قطر إلى تركيا وبوساطة روسية.

أما عن إمكانية تحقيق تفاهمات لعزل طهران، فإن ذلك يعتمد على تفاعل الأطراف المعنية، ومدى استعدادها للتفاوض والتوصل إلى حلول سلمية. من الممكن أن تلعب روسيا دوراً في هذه العملية كوسيطة بين الأطراف المختلفة، لكن النتائج ستعتمد على الظروف الدولية والإقليمية ومدى التوافق بين الأطراف المعنية، بالتزامن مع ردود الفعل الإيرانية عن الضربات الاسرائيلية الأخيرة لطهران ومدى محاولات إيران بالتدخل في أمن إسرائيل من خلال ميليشياتها في الشرق الأوسط.

بالنسبة للدعم الروسي لدمشق والأسد، من المتوقع أن تستمر روسيا في دعمها، خاصة في ظل التحولات الجديدة في المنطقة والتحديات التي تواجهها سوريا. ومع ذلك، فإن روسيا قد تكون مستعدة للتفاوض والتوسط من أجل الدفش لتحقيق حل سلمي للأزمة السورية بحسب رؤيتها وبالتفاهم مع تركيا والمعارضة السورية المتمثلة بالائتلاف، وذلك كله بالطبع بناءً على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة