من أرمينيا إلى مولدوفا إلى الساحة الأوكرانية الملتهبة، تعمل فرنسا على خصم نفوذ روسيا فيها، مع مساع وتصعيد خطابي خاص بالحرب الروسية على أوكرانيا، بلغ حد عدم استبعاد نشر قوات لأعضاء في “حلف الناتو”، ضمن سياسة فرنسية جديدة تهدف إلى تعقيد حسابات “الكرملين” في هذه الحرب. ما هي خلفيات تحول الحمامة الفرنسية إلى صقر، وما هي فرص وتداعيات هذا التحول؟ 

إلى جانب توقيع اتفاق أمني طويل الأجل بين فرنسا وأوكرانيا، زادت الأولى من دعمها للثانية، مع وعدها بإرسال المزيد من صواريخ “كروز” بعيدة المدى، وقرابة 3 مليارات يورو من المساعدات العسكرية لهذا العام. ما أدى لتدهور العلاقات الفرنسية-الروسية أكثر فأكثر، حسب وكالة “رويترز” للأنباء. وبعد تصريح أشار خلاله رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي، إلى أن باريس تستعد لإرسال 2000 جندي إلى أوكرانيا، قالت وزارة الدفاع الفرنسية إن “المناورة التي نظمها سيرجي ناريشكين، توضح مرة أخرى استخدام روسيا المنهجي للمعلومات المضللة”. ويضيف بيان الوزارة، “نحن نعتبر هذا النوع من الاستفزاز غير مسؤول”. 

غموض استراتيجي

ساحة نفوذ روسي أخرى، حاولت باريس اختراقها أيضا. إذ وقعت فرنسا وأرمينيا عقدا لشراء 3 رادارات Ground Master 200، وهي نفس الرادارات المسلّمة لأوكرانيا، وآخر لمعدات كالمناظير وأجهزة الاستشعار. مع توقيعهما خطاب نوايا لبدء عملية شراء أنظمة الدفاع الجوي “ميسترال”. ووفقا لوزير القوات المسلحة الفرنسية، سيباستيان ليكورنو: “حتى لو لم نكن جزءا من نفس التحالفات العسكرية والسياسية، فإننا نفترض هذه العلاقة الدفاعية”. وبحسب موقع “بوليتيكو“، أشار الوزير إلى أن الحكومة الفرنسية سترسل مسؤولا عسكريا للعمل كمستشار دفاعي للسلطة الأرمينية في قضايا مثل تدريب القوات المسلحة. وإلى جوار تدريب جنودها، ستساعد باريس يريفان في مراجعة دفاعاتها الجوية لتحديد النقاط العمياء.

خلال مؤتمر صحفي لاجتماع رؤساء الدول والحكومات لدعم أوكرانيا في باريس في 26 شباط/ فبراير الماضي، رفض الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، استبعاد احتمالية نشر قوات لأعضاء حلف شمال الأطلسي “الناتو” في أوكرانيا، مع تأكيده إجراء مباحثات بهذا الشأن. تكرر الموقف، خلال زيارة ماكرون لجمهورية التشيك في 5 آذار/ مارس الفائت. قال خلالها، إن الحرب الروسية الأوكرانية هي “حربنا”، داعيا حلفاء فرنسا لتحقيق “طفرة استراتيجية”. مضيفا، أن الوقت يقترب في أوروبا عندما لا يكون من الممكن التصرف بطريقة جبانة. وعليه، يحذّر ماكرون من الانهزامية. ويبرر موقفه بضرورة خلق حالة من “الغموض الاستراتيجي” يؤدي لتعقيد عملية صنع القرار الروسي، حال قررت موسكو تكثيف عملياتها العسكرية من جهة حدود بيلاروسيا، أو شن عمليات مماثلة ضد مولدوفا، حسب مركز “OSW” للدراسات الشرقية.

في إفادتها لموقع “الحل نت”، قالت إيرينا تسوكرمان، وهي خبير في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية ومحامية للأمن القومي، ومقرها نيويورك، إنه نتيجة للمكاسب اللوجستية الروسية، كمركز للنقل البري حيث تتعرض الشحنات الأوروبية في مضيق هرمز والبحر الأحمر لهجوم من هجمات “الحوثيين” وعمليات الاختطاف الإيرانية، تستفيد روسيا من المخاوف الأمنية هناك، وتستغلها لتهريب النفط بشكل فعال وإنشاء شركات تقوض صناعة الشحن الأوروبية والغربية، مع تحويل الأعمال الأوروبية إلى شركات الشحن الروسية، بعد توصلها إلى تفاهمات مع “الحوثي” وإيران، لحماية سفنها وجعلها محمية إلى حد كبير. 

كذلك، فإن الخسارة الاقتصادية لفرنسا مذهلة، بفقدها سهولة الوصول لليورانيوم بتكاليف منخفضة، وهو أمر ضروري لأهداف أمن الطاقة الفرنسي على المدى الطويل، والمواد الخام الأخرى، إلى جانب صفقات اقتصادية مهمة، نتيجة إزاحة روسيا لفرنسا فعليا من غرب إفريقيا. كما تعيد دول كالهند تركيز تجارتها نحو الأراضي الروسية، عبر السكك الحديدية، وهو خيار ليس خيارا للدول الأوروبية كفرنسا. وتتعرض شركة “توتال” الفرنسية لضغوط كبيرة نتيجة فقدان الوصول إلى الأراضي الاستراتيجية، هنا تضطر باريس للبحث عن فرص في أماكن أخرى، مثل كازاخستان، وهو أمر أكثر صعوبة. ونتيجة لذلك، تشعر فرنسا بالقلق إزاء تعطل مصالحها وسلاسل التوريد الخاصة بها، بحسب تسوكرمان.

3 سيناريوهات

3 احتمالات لنهاية الحرب الروسية على أوكرانيا، يعددها موقع MIS Reports: نصر روسيا وتقسيم أوكرانيا، تجميد الصراع، أو تدخل “الناتو”، نتيجة إدراك متزايد لدى بعض الدول الغربية أنه ما لم تهزم روسيا في أوكرانيا، فستتشجع وتشرع في النهاية بمهاجمة “الناتو” بطريقة أو بأخرى. وهو احتمال مستوحى من الرئيس ماكرون، الذي برز مؤخرا كصقر بشأن توريد الأسلحة إلى أوكرانيا. ما دعا وسائل الإعلام الفرنسية للتكهن بمستويات متفاوتة من الدعم، من بناء المصانع العسكرية في أوكرانيا والمشاركة في عمليات إزالة الألغام، إلى توفير الدفاع الجوي لأوديسا أو إرسال قوات لعمليات الدعم والتدريب. 

بحسب الموقع، قإن اللعبة ستكون مختلفة تماما، إذا تولت فرنسا قيادة تحالف الدول الملتزمة بتصعيد الصراع. فأجزاء كبيرة من أوكرانيا يمكن وضعها تحت حماية “الناتو” بحكم الأمر الواقع، وإن أمكن توسيع هذه المنطقة المحمية لتشمل شبه جزيرة القرم، وهو أمر غير مؤكد، سيعني ذلك خسارة روسيا للحرب.

وفقا لتسوكرمان، تسعى فرنسا إلى تحدي روسيا في مناطق نفوذها على أمل تعويض بعض الخسائر، مثل استغلال الخلاف الروسي مع أرمينيا والسعي إلى تأسيس وجود يمكن أن يساعد في تقويض العمليات الروسية، من خلال الاستيلاء على خطوط الإمداد عبر أرمينيا، وربما أيضا الاستفادة من صفقات النقل والطاقة الأرمينية مع إيران. كما يشعر ماكرون أنه من خلال الضغط من أجل موقف أقوى ضد روسيا على جميع الجبهات، مولدوفا وأوكرانيا وأرمينيا، فإنه سيرفع وعي بقية “الاتحاد الأوروبي” بالمعايير الواسعة للتهديد الشامل وسيكون قادرا على الاعتماد على مساعدة بروكسل في مواجهة هذا التهديد.

في 7 آذار/ مارس الفائت، وقعت فرنسا ومولدوفا اتفاقا دفاعيا ينص على إنشاء بعثة عسكرية فرنسية في كيشيناو. وهو اتفاق نظر إليه بيان وقعه ماكرون ورئيسة مولدوفا مايا ساندو، على أنه إشارة فرنسية لتحملها مسؤولية الحفاظ على استقلال مولدوفا، حسب “OSW”، إذ نص البيان على أن فرنسا “المؤسس المشارك لمنصة دعم مولدوفا، تساهم في تعزيز مرونة وقدرات جمهورية مولدوفا، في جميع المجالات”، مضيفا أن “فرنسا شرعت أيضا، خلال مؤتمر دعم أوكرانيا في تعبئة الشركاء الدوليين لدعم سيادة وأمن جمهورية مولدوفا”.

كذلك تناول الاتفاق، السياسة الدفاعية، والمشاركة في البعثات والعمليات الدولية، ومراقبة المجال الجوي وإدارته، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات العسكرية، والمسح العسكري، وإدارة الموارد البشرية، والتدريب اللغوي، والخدمات اللوجستية، والطب العسكري، والإدارة المالية والميزانية. ما يسهم بشكل كبير في تحديث الجيش الوطني، حسب وزارة الدفاع المالدوفية.   

كما شمل الاتفاق نقل التكنولوجيا العسكرية، حصلت بموجبه مولدوفا على رادار متوسط المدى للدفاع الجوي Ground Master (GM) 200 للتحكم بشكل أفضل في المجال الجوي المولدوفي، وبالنظر لشظايا الطائرات بدون طيار والصواريخ الروسية التي تحطمت في الأراضي المولدوفية بالقرب من حدودها مع أوكرانيا، ترددت شائعات عن شراء رادار ثان، وفقا لموقع Geopolitical Monitor.  وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تلقت مولدوفا الدفعة الأولى من المساعدة، وتحتوي على معدات فردية وإمدادات لوجستية وأسلحة مشاة خفيفة وذخيرة. وتشيد باريس بانتظام بموقف مولدوفا تجاه روسيا وأوكرانيا. وخلال الاجتماع الرئاسي المشترك، قال ماكرون: “تؤكد فرنسا مجددا دعمها الثابت لاستقلال جمهورية مولدوفا وسيادتها وسلامة أراضيها داخل حدودها المعترف بها دوليا”.

جندي أوكراني يتحكم في طائرة استطلاع بدون طيار من طراز (UAV) على خط أمامي، وسط الهجوم الروسي على أوكرانيا، في منطقة زابوريزهيا، أوكرانيا – (إنترنت)

في 14 آذار/ مارس 2024، وخلال مقابلة متلفزة، اعتبر ماكرون أنه يجب منع روسيا من الانتصار، وأن انتصارها سيغيّر من حياة الشعب الفرنسي. وأشار، في مقابلة مع جريدة “ليبراسيون” الفرنسية في 16 آذار/ مارس الماضي، إلى أن قوة فرنسا تتمثل في أنها قادرة على القيام بعمليات على الأراضي الأوكرانية من أجل مواجهة تقدُّم القوات الروسية.

لدى فرنسا أسباب تدعوها للقلق من أن روسيا قد تنجح في تجنيد وتسليح اليسار الراديكالي واليمين الراديكالي، ليس فقط نحو الاحتجاجات وحرب المعلومات وأعمال العصيان المدني، بل نحو اضطرابات اجتماعية وأعمال شغب أكثر خطورة سيكون من الصعب احتواؤها على نحو متزايد، حسب تسوكرمان. مشيرة إلى أن روسيا قد أثبتت براعتها في تدبير الاضطراب الاجتماعي والسياسي الناجح.

التداعيات والنتائج

 “انترريجونال” وهو مركز للتحليلات الاستراتيجية، يعدد تداعيات تصعيد الخطاب الفرنسي ضد موسكو، وما ينتج عنها من ردود فعل، وأولها، الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع روسيا. وتاليا، تزايد حدة الجدل الأوروبي حول الإنفاق العسكري، واحتمالية تزايد الانزعاج الغربي من توجهات باريس، إضافة لتفاقم حدة الانقسام الأوروبي، ومعارضة الشارع الفرنسي توجهات ماكرون. مشيرا إلى أنه رغم محاولات التطمين، فإن خطوة إرسال جنود فرنسيين إلى أوكرانيا، ستنشئ معطيات جديدة في الحرب، منها مخاطر نشوب مواجهة مباشرة بين موسكو وباريس. وهي مواجهة قد تجر الناتو للتورط في الدفاع عن فرنسا إذا تم استهدافها، لأن فرنسا عضو فيه، وتستطيع تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف.

التهديد الفرنسي بإرسال جنود إلى الساحة الأوكرانية لم يتحقق بعد، بسبب مقاومة “الناتو”، وجزئيا بسبب صعوبة التنفيذ، حتى من خلال المخاوف المحلية. وهو تهديد يعزوه بعض المحللين لجعل بوتين يتراجع عن التهديدات النووية فور هذا الاقتراح، حسب تسوكرمان. وبرأيها، يقدم ماكرون بهذا الاقتراح فرصة لتبني موقف فرنسا السياسي المتشكك منذ فترة طويلة في الولايات المتحدة والضغط من أجل أوروبا قوية مستقلة عنها، مع تقديم فرنسا كزعيمة. إضافة لما ينطوي عليه الاقتراح من فرصة سياسية لفرنسا في تنافسها التقليدي مع ألمانيا. حيث تتطلع باريس إلى تحدي قيادة برلين داخل الاتحاد الأوروبي، عبر تقديم نفسها بأنها أكثر صرامة في المسائل الأمنية، وتقديم روسيا كأكبر خطر على الاتحاد الأوروبي.

“لسنا في هذا الوضع اليوم”، قال ماكرون، لكن، “كل هذه الخيارات ممكنة”. مضيفا، “لتحقيق السلام في أوكرانيا، يجب ألا نكون ضعفاء”. فبرأيه، تعتبر إمكانية إرسال قوات أوروبية لدعم المجهود الحربي لأوكرانيا جزءا من إستراتيجية الغموض، وليست احتمالا وشيكا. وفي رده عليه، دون أن يسميه، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن نشر قوات غربية على الجبهة الأوكرانية لن يغير الوضع في ساحة المعركة، وأن ترسانته النووية جاهزة دائما للحرب.  وبحسب “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية” (رصانة)، لا تثير الإستراتيجية الفرنسية الجديدة حشدا. فقد أوضحت ألمانيا ودول أوروبا الوسطى أنها لن ترسل قوات إلى أوكرانيا. فيما وجدت فرنسا حليفا لها في السويد، عبر تأييد ستوكهولم لفكرة باريس في الاستعداد لمواجهة عسكرية مع روسيا.

حسابات عدة تقف وراء التصعيد الفرنسي ضد روسيا، يبدو أولها وأعلاها، مصلحة باريس الذاتية، بمعزل عن أي توجه مشترك موضوعي ومدروس يراعي الإمكانات والمحاذير، ويراعي المصالح الجمعية بعيدا عن المصالح الأنانية الضيقة، والتي يمكن تغيير اتجاهها، نتيجة تغير المصالح الذاتية.   

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة