بينما تتطابق التقارير الصحفية مع مصادر ميدانية وسياسية نحو تقليل حجم الانسحاب والحضور العسكري الإيراني في سوريا، خاصة فيما بعد استهداف القنصلية الإيرانية في حي المزة بالعاصمة دمشق، تتباين الرؤى والتحليلات التي تشتبك مع تلك الوضعية سيما مع أهمية البُعد الجيوسياسي لسوريا في إطار الرؤية الاستراتيجية الخاصة بطهران مرة على مستوى الشرق الأوسط وأخرى تمتد نحو الوضع الدولي ومسارات التنافس والصراع في دوائر الجغرافيا الساخنة.

تحتشد الأنباء منذ مطلع العام الجاري حيز ذات المضمون الذي يقر بتبدل هيئة وحجم القوات الميدانية في الجغرافيا السورية لصالح كتائب “حزب الله” وحركة “النجباء” العراقية بدلا من القوات الإيرانية.

في سياق متصل أفاد مصدر مقرّب من “حزب الله” لوكالة “فرانس برس”، أن إيران قلّصت وجودها العسكري في سوريا، بعد الضربات الإسرائيلية التي استهدفت عدداً من قادتها العسكريين. وقال مصدر “الحزب” للوكالة إن القوات الإيرانية “أخلت منطقة الجنوب السوري، و انسحبت من مواقعها في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة”، خلال الأسابيع الماضية. 

وما بقي للإيرانيين في دمشق “مكتب تمثيلي فقط يتم عبره التواصل بين الدولة السورية والحلفاء”. وأشار إلى أن الاجتماعات “كانت تعقد داخل القنصلية الإيرانية، ظناً أنهم بمأمن من الضربات الإسرائيلية”. ولكن، ما حقيقة تقليص “الحرس الثوري” قواته في سوريا؟

اختفاء مؤقت

مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، رامي عبد الرحمن، بدوره، أوضح أن القوات الإيرانية قامت بإخلاء مقراتها في عدة مناطق، في العاصمة دمشق وكذا بالمناطق الجنوبية، فضلاً عن المناطق المتاخمة للجولان، تفادياً لحدوث استهداف يطاولها، كما أنه في ظل إعادة التموضع والانتشار الجديدين، تم استبدال القوات الإيرانية بآخرين عراقيين ولبنانيين.

أشخاص يحضرون مراسم تشييع رضي موسوي، أحد قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، الذي قُتل خلال الهجمات الإسرائيلية على دمشق في 27 ديسمبر/كانون الأول 2023. (تصوير كرار عيسى/غيتي)

يقول عبدالرحمن، في حديث لـ”الحل نت”، إن الأماكن التي تم إخلاؤها من “الحرس الثوري” الإيراني وكان فيها قادة وعناصر عسكرية بطبيعة الحال تتباين جغرافيتها، كما سبقت الإشارة لذلك، وترتبط بعدة أماكن من المحتمل أن تكون ضمن أجندة وبنك استهداف إسرائيل، كما في المناطق المتاخمة للجولان وفي جبل الشيخ ومحافظتي القنيطرة ودرعا. 

بالتالي، تم إخلاء تقريبا كافة المقرات المتواجد فيها عناصر وضباط من “الحرس الثوري”. بل إن بعضهم غادر سوريا والبعض الآخر انتقل إلى مناطق أخرى غير معلنة وأكثر سرية في سوريا خاصة بعدما أصبحت مقراتهم وأماكن تواجدهم مكشوفة.

أما في ما يخصّ “قوات النجباء” العراقية، يقول مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، إن القيادات الميلشياوية العراقية لهم تواجد سوري منذ التأسيس بالفعل داخل الأراضي السورية وقد شاركوا في عدة معارك، ويمكن اعتبارهم أو توصيفهم ضمن قوات النّخبة التي يتم الاعتماد عليها بشكل استراتيجي من قبل إيران في ريف دمشق، ومحيط السيدة زينب شرق سوريا.

يخلص عبدالرحمن تصريحاته لـ”الحل نت”، بقوله إن “لإيران داخل الأراضي السورية أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل من الحرس الثوري الإيراني. أما العناصر غير السورية والعناصر السورية مع إيران بالإضافة لضباط وعناصر الحرس الثوري يصل عددهم لنحو خمسة وستين ألف مقاتل على الأقل منتشرين على كامل التراب السوري ويحصلون على مكافآتهم المالية من الحرس”.

الاعتماد على الميليشيات العربية

إلى ذلك، تحدث مصدر أمني عراقي مطّلع لـ”الحل نت”، قائلاً إنه رغم عدم توفر معلومات وافية حول مدى تغير وضعية حضور تلك الكتائب في الوقت الراهن ووصولهم للمواقع المحددة، لكن هذا التحرك في تقدير المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته مرتبط بانسحاب قوات “الحرس الثوري” من سوريا و ملء هذا الفراغ من طرف “حزب الله” العراقي وحركة “النجباء”.

طهران، إيران – 17 ديسمبر/كانون الأول: رئيس الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي يتحدث في موكب جنازة يحمل رفات 110 جنود إيرانيين. (تصوير فاطمة بهرامي/غيتي)

يلفت المسؤول الأمني إلى أن سبب انسحاب قوات “الحرس الثوري”؛ هو الخشية من ضرب مواقعهم في سوريا من طرف إسرائيل. وبالتالي جرها إلى حرب شاملة مع إسرائيل، الأمر الذي لا تريده إيران. ويتابع قائلاُ: إن “ثمة سيناريوهات عديدة تحيط بواقعة استهداف القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، والأمر يرتبط بخروقات أمنية ويتصل برغبة روسية لخروج إيران من دمشق”.

في تقدير عسكريين لبنانيين وعراقيين، والحديث للمصدر ذاته، فإن التواجد العسكري لـ”حزب الله” اللبناني في الميدان السوري مؤكد وقديم، إنما إعادة تموضع تواجد حركة “النجباء” العراقية ما زالت تدور الكثير من الشكوك حوله، ولكن ليس من المستغرب أن تعمد إيران إلى الانسحاب أو تخفيف تواجد المستشارين التابعين لها في الساحة السورية خوفا من الاستهداف الإسرائيلي الدائم لهم، وإحلال القوى الحليفة من لبنانية وعراقية محلهم. 

وبالنسبة لذلك، فإنه “أمر طبيعي ومفهوم، خاصة في تلك الأوقات الحرجة وبعد توتر الوضع الميداني بين إسرائيل وطهران على خلفية القصف المتبادل. بيد أن ذلك كله لا يمنع من التريث قليلا ومتابعة الوضع على الأرض لفهم دوافع كافة الأنباء وفهمها على النحو المطلوب استراتيجيا خاصة أن ذلك في أحد زواياه قد لا يبدو شيئاً استثنائياً، وأن هذه التحركات تجري بصورة مستمرة تحت إشراف الحرس الثوري الذي يعتبر تواجده ثانوي من حيث العدد مقارنة بالميليشيات الشيعية العراقية وغيرها”.

على أية حال ينبغي التيقن أن إيران لن تتنازل عن حضورها في الجغرافيا السورية بسهولة. وذلك في إطار منظومة طهران الإقليمية، إضافة إلى أن أشكال الفاعلية الإيرانية في الإقليم تحرص على عدم الزج بالقوة الإيرانية وإنما توظف أذرعها المحلية العراقية واللبنانية واليمنية والسورية بالعمل على ترجمة الأجندة الإيرانية في المنطقة وهو أسلوب اعتمده النظام الإيراني تجنباً لاحتمالات إدانته بالتدخل في شؤون الدول الأخرى.

وبناء على المعلومات الواردة، فقد غادرت دفعة من المستشارين الإيرانيين خلال شهر آذار/مارس الماضي مناطق عدة في سوريا من بينها بانياس. فيما أبقت إيران على قواتها في محافظة حلب (شمال) وفي محافظة دير الزور (شرق) التي تعد من أبرز مناطق نفوذها في سوريا.

تلك التطورات مرتبطة بمسألة إعلان إيران سحب مستشاريها من سوريا وتحديداً من المنطقة الجنوبية ومنها محافظة القنيطرة و درعا وريف دمشق إضافة إلى العاصمة السورية دمشق.

الباحث في الشأن الإيراني، مصطفى النعيمي

ويتابع النعيمي في سياق تصريحاته التي خص بها “الحل نت”، أن من يملأ هذا الفراغ هو حتما سيكون من أدوات المحور وتحديداً نتحدث عن ميليشيا “حزب الله” اللبنانية وكذلك أيضا رديف تلك الميلشيا الرئيسي لتلك كتائب “هيئة الحشد الشعبي” إضافة إلى ما يطلق عليها اسم غرفة عمليات فصائل “المقاومة الإسلامية في العراق”. إذاً، هذه المكونات هي من سيملأ الفراغ في المرحلة الأولى وبناء عليه سيتم رسم الاستراتيجيات القادمة.

بنك الأهداف يتوسع

بالعودة إلى قضية انسحاب إيران من سوريا وتحديداً من الجنوب، يرى النعمي، بأنه عبارة عن عمل تكتيكي لمواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية التي تعنى بمسألة مواجهة التحديات والمخاطر التي تنطلق منها تموضع تلك الغرف العملياتية المتقدمة، لا سيما التي تستخدم أمنياً واستخبارياً وعسكرياً، والتي تستخدم أيضاً في مسار صياغة سياسات المواجهة في المرحلة القادمة. 

صورة تظهر مشهدًا لملحق قنصلي جديد للسفارة الإيرانية في دمشق يوم افتتاحها في 8 أبريل/نيسان 2024. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

وبناء عليه، فإن المنطقة معرضة لمزيد من الضربات وخاصة تلك الضربات التي تبنى على استراتيجية أن الانسحابات هي لم تكن انسحابات بالأصل، وإنما كانت إعادة تموضع وانتشار. وكل ذلك كان تحت أنظار “السرب 122” الاستخباري الإسرائيلي.

وبناء عليه، فالأهداف ستكون مشتركة في الغالبية العظمى من تلك الضربات التي ستنفذ سيكون المتضرر الأكبر منها حكومة دمشق وخاصة بعد استخدام قواعدها العسكرية ونقاطها العسكرية، أيضاً كمصدات عسكرية والتماهي معها وعدم رفع أعلام إيرانية أو محورها، هذا لا يعني بأن الجيش الإسرائيلي لن يتعامل معها كأهداف بناء على حجم التهديدات والمخاطر التي تنطلق منها.

وبسؤال الباحث في الشأن الإيراني، مصطفى النعيمي، عن تقديره حول الأنباء المرتبطة بتحركات من كتائب “حزب الله” وحركة “النجباء” بالعراق للاستعداد للتواجد ميدانيا بسوريا خلال الفترة القادمة، قال: “نعم ثمة تحركات لميليشيا حزب الله وتحديدا فرقة الرضوان والتي تعتبر هي أحد أهم مكونات ميليشيا حزب الله وهي من قوات النخبة اللبنانية المتواجدة في المنطقة الجنوبية لا سيما في محافظه القنيطرة والتي تعتبر أهم النقاط العسكرية التي تموضعت فيها إيران والتي توجه من خلالها رسائل سياسية عبر الأدوات العسكرية”.

كما أن الهدف الرئيس من ذلك يستقر نحو الضغط على الجانب الإسرائيلي من أجل تحقيق أعلى المكتسبات في الملفات التفاوضية العالقة، لا سيما في البرنامج الصاروخي والنووي والمسيرات مع الولايات المتحدة الأميركية والمنظومة الغربية بشكل عام. الأمر الذي يدفع نحو الاعتقاد بأن المرحلة القادمة ستكون بمروحة استهدافات أكبر وستشمل نقاط جديدة.

ربما في السابق كانت الساحتين السورية واللبنانية، هي أحد أبرز مناطق العمليات التي تتحرك فيها إسرائيل، لكن اليوم، ستكون هنالك استهدافات في الداخل العراقي بناء على رسم الاستراتيجية السابقة والتي استهدفت من خلالها محافظه بابل وتحديدا قاعدة “كالسو” والتي تحوي مركزا لهيئة أركان ميليشيا “الحشد الشعبي” في العراق.

ويخلص الباحث مصطفى النعيمي تصريحاته مرجحاً أن يكون هنالك ضربات موازية كما حصل في السابق وبوتيرة أعلى والتي ستستهدف في الأغلب قادة تلك الميليشيات بمكوناتها المختلفة في العراق، بغية تقليص فائض القوة الإيرانية وتقليم أظافر كتائبها وميليشياتها واحدة تلو الأخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة