أصدر الرئيس السوري، بشار الأسد، بتاريخ 27 من نيسان/أبريل الجاري، “أمراً إدارياً” ينهي بموجبه الاستدعاء والاحتفاظ لفئات من العسكريين اعتباراً من مطلع حزيران/يونيو المقبل. وجاء في نص القرار الذي نشرته وكالة الأنباء السوري الرسمية (سانا) إنه ينهى استدعاء الضباط الاحتياطيين، لكل من يتم سنة وأكثر خدمة احتياطية فعلية، حتى تاريخ 31 من أيار/مايو المقبل، ضمنًا. 

كما ينهى الاحتفاظ والاستدعاء لصف الضباط والأفراد الاحتياطيين، المحتفظ بهم والمدعوين الملتحقين، اعتباراً من 1 حزيران/يونيو 2024، لكل من يتم ستّ سنوات وأكثر، خدمة احتياطية فعلية حتى 31 من أيار/مايو، ضمنًا.

إن نصّ هذا القرار هو المرحلة المتممة لمراحل طويلة بدأتها روسيا في الجيش السوري منذ عام 2015، حيث عملت القوات الروسية منذ أن وطأت قدمها الأراضي السورية على إعادة تشكيل وهيكلة الجيش السوري بما يتناسب مع الأهداف العسكرية الروسية التي تسعى موسكو إلى تحقيقها كمقابل لدعمها لدمشق. 

القرار الذي نحن بصدد الحديث عن أبعاده ونتائجه وباعتباره مرحلة متممة لمراحل تكتيكية سابقة جرى منها ما كان في الظل وما كان في العلن. يجعلنا نطرح العديد من التساؤلات الهامة منها، إلى أي مدى يخضع الجيش السوري للإدارة الروسية؟ ولماذا تسعى روسيا ومنذ ما يقرب من العقد إلى إعادة هيكلة الجيش السوري؟ وهل تسعى روسيا أن يكون الجيش السوري تطوّعي؟

رجُل روسيا قائدا للقوات السورية

لقد اعتمدت روسيا في إعادة هيكلة الجيش السوري على سياسة التسلل البطيء لكي تحقق أهدافها في أقصر وقت وبأفضل النتائج الممكن مستخدمة كثيرا من الطرق والأساليب.

الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة للعاصمة موسكو - إنترنت
الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة للعاصمة موسكو – إنترنت

في النصف الأول من نيسان/أبريل الجاري أعلنت وسائل الإعلام عن تعيين سهيل الحسن الملقب بـ”النمر” قائداً للقوات الخاصة، وبات اللواء سهيل يشغل منصبه الجديد بعد أن كان قائداً لـ”الفرقة 25″ المدعومة من روسيا، والتي تسلّم قيادتها اللواء صالح عبد الله. 

“النمر” مدعوم من روسيا، وهذا الأمر لا يخفى على أحد، والتعيين الجديد يعكس زيادة في النفوذ الروسي في سوريا على حساب النفوذ الإيراني، خصوصاً أن هناك مؤشرات ظهرت أخيراً تنمّ عن فتور في العلاقة بين دمشق وطهران، وازدادت بعد الاستهدافات الإسرائيلية لمقار قادة “الحرس الثوري” الإيراني، في المدن السورية واتهامات من قبل منابر إعلامية إيرانية لدمشق بأنها مخترقة من قبل إسرائيل. 

ولفتت المصادر إلى أن من مؤشرات ازدياد النفوذ الروسي، نشر موسكو مزيداً من نقاط المراقبة في المناطق المحاذية لإسرائيل في الجولان، التي تنتشر فيها ميليشيات إيرانية وأخرى موالية لها، وازداد هذا الانتشار منذ اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

الخبير العسكري السوري، رشيد حوراني، يعتقد أن روسيا تقوم بخطوات تتناسب مع المرحلة التي تمرّ بها في سوريا بهدف إعادة هيكلة الجيش السوري بسبب وقوفها بشكل واقعي على حجم الخسائر المادية والبشرية التي مُني بها خلال السنوات الماضية بسبب معاركه مع قوات المعارضة. 

وتعتبر أبرز ملامح الهيكلة المرحلية الحالية، وفق حديث حوراني لـ”الحل نت”، التعيينات الجديدة للضباط على رأس وحدات عسكرية واعتمادها على قادة لوحدات هي التي عملت على تأسيسها كـ”الفرقة 25″ التي يقودها اللواء سهيل الحسن، وقامت بتعيينه على رأس القوات الخاصة التابعة للجيش.

هذا التعيين وفق توقّعات حوراني، يدل على رغبة روسيا بنقل تجربتها في “الفرقة 25” إلى القوات الخاصة التي تآكلت تقريبا منذ عام 2011، إضافة الى شمول التعيينات كافة صنوف الأسلحة البرية والبحرية والجوية.

روسيا عملت على تنفيذ تدريب مشترك مع القوات البحرية التابعة لدمشق، وهي بذلك تريد إرسال رسالة لكافة الأطراف المتدخّلة في سوريا مفادها الإمساك بزمام المؤسسة العسكرية من ناحية اتخاذ القرار بشنّ معركة ومن ناحية إعادة بناء الجيش وهيكلته التي تُعتبر أيضا في هذه المرحلة مطلباً لتأهيل المنظومة الحالية من البوابة العربية بمساعدة روسية.

ويضيف حوراني موضحاً، تُعد المؤسسة العسكرية لدمشق إحدى ميادين التنافس الروسي الإيراني الكامن في سوريا، ولا شك أنه ليس لإيران نفوذ في الجيش السوري كما حال روسيا؛ بسبب حاجة إيران لروسيا خارج سوريا، ولذلك عمل النظام الإيراني على تشكيل الميليشيات التابعة له. 

لكن بالمقابل تدرك روسيا أن يدها هي العليا عسكرياً في سوريا بسبب إمساكها بقرار المعركة، وأن الميليشيات لا قدرة لها بخوض معركة دون غطاء جوي من روسيا. لذا تلجأ روسيا لإعادة الهيكلة لعدة أسباب تتعلق بسلطات دمشق نفسها وحاجتها لقوات مدرّبة تتناسب من حيث تنفيذ المهام مع المرحلة المقبلة، ولأسباب تتعلق بها وخاصة حرب أوكرانيا وإمكانية تجنيد سوريين من وحدات الجيش السوري للقتال معها هناك، ولوضع حدٍّ لتمدد إيران في سوريا.

روسيا تدفع رواتب الجيش السوري

إن مسألة سيطرة روسيا على الجيش السوري وإعادة هيكلته لا تأتي من كونها تتولّى تدريب قوات الجيش أو من كونها تفرض رجالها في المناصب القيادية داخل الجيش السوري وحسب؛ وإنما ما يعزز هيمنة روسيا على الجيش السوري أيضاً هو أن روسيا منذ عام 2015 أي منذ لحظة دخولها الأراضي السورية كداعمة لدمشق تتولى دفع الرواتب للجيش السوري.

الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي ونظيره السوري بشار الأسد - إنترنت
الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي ونظيره السوري بشار الأسد – إنترنت

تقول الأمم المتحدة إن موارد حكومة الرئيس السوري بشار الأسد المالية، انخفضت بنسبة 94 بالمئة، وإن التقديرات الأولية للخسائر المالية ما بين 2011 حتى عام 2015، تفوق 226 مليار دولار. ورغم هذه الأوضاع الكارثية، تمكنت حكومة دمشق من تلبية بعض الاحتياجات الأساسية، مثل دفع الرواتب للجيش والموظفين، من خلال الدعم المالي الروسي. 

وفي هذا الصدد يؤكد الباحث السوري المتخصص في الشؤون العسكرية، أيمن القاسم، في حديثه لـ”الحل نت”، أن عدم دفع الرواتب كان من الممكن أن يقضي على الجيش السوري بالكامل، وخاصة أن هذا كان في بداية الحرب السورية، فدخول القوات الروسية وتقديم الدعم المادي للجيش جعلت مهمتها أسهل بكثير. 

صحيح أن الدعم الإيراني كان موجوداً وسبق القوات الروسية، إلا أن دخول القوات الروسية وتقديمها الدعم العسكري والمادي كان بمثابة القشة التي يتعلق بها الغريق، ومن هنا بدأت القوات الروسية تكتسب المكانة والنفوذ على حساب الميليشيات الإيرانية وهو ما سيسهم فيما بعد في خلق حالة من النفور بين القوات الروسية والميليشيات الإيرانية وخاصة ظهور ميل واضح من الأسد للقوات الروسية.

هنا يبدو الذكاء العسكري الروسي أكثر وضوحا من الميليشيات الإيرانية، فإيران عبّرت عن وجودها في سوريا من خلال تشكيلات عسكرية غير نظامية أي خارج إطار الجيش، أما القوات الروسية عملت على العمل من داخل الجيش السوري حتى تضمن السيطرة من خلال إعادة الهيكلة. 

وبخطوة أخرى أكثر قوة، هي التخلص من الميليشيات غير النظامية خارج المؤسسة العسكرية، عبر دمجها أو حلّها لصالح فرض مؤسسة عسكرية مركزية قوية (تكون السطوّة بداخلها للروس)، ومع مرور الوقت، وزيادة مستوى التغلغل الروسي في سوريا وصلت دوائر التأثير في نهاية الأمر لمنصبي وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، حيث أُحيل العماد فهد جاسم الفريج للتقاعد على خلفية قضايا تتعلق بالفساد نتيجة استغلاله وجود ثغرة في قانون خدمة العلم، والتي تمت معالجتها بطلب روسي. 

كل هذه الأمور توضح أن روسيا كانت تسعى إلى التغلغل في الجيش السوري ولكن بطريقة نظامية على عكس الميليشيات الإيرانية العشوائية التي لم يكن خطة نظامية. 

“الفيلق الخامس” الروسي

تتجلى محاولات روسيا للسيطرة والهيمنة على الجيش السوري بشكل فعلى وواقع أكثر من خلال إنشاء ما يُعرف باسم “الفيلق الخامس”، وهو مشروع روسي بامتياز، بموجب قرار من القيادة العامة للجيش السوري، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، تحت اسم “الفيلق الخامس”. والذي يتألف من حوالي 10 ألف جندي. 

مفاجأة استراتيجية وتحول غير متوقع روسيا تلجأ لإيران بالصواريخ الباليستية! (4)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الدفاع سيرجي شويغو بجولة في معرض للمعدات العسكرية بعد اجتماع موسع لمجلس إدارة وزارة الدفاع الروسية في مركز مراقبة الدفاع الوطني في موسكو في 19 ديسمبر 2023. ( تصوير ميخائيل كليمنتيف / وكالة الصحافة الفرنسية)

ويشير الخبراء إلى فاعلية “الفيلق الخامس” مقارنة مع وحدات أخرى من الحكومة السورية، بفضل المشاركة الفعالة للروس في عملية القيادة والتكوين والتدريب. 

كان هدف موسكو منه هو تمكين الجيش السوري من الاعتماد على نفسه مع الحفاظ على الوجود الروسي باعتباره السلطة العسكرية الشاملة. ومن خلال هذا النهج، سيكون الجيش السوري قادراً على الوقوف في وجه النفوذ الإيراني وكبح قوة الميليشيات. 

المحلل الروسي، أنطون لافروف، يرى أن الخبراء العسكريين الروس يضطلعون بمجموعة واسعة من المهام، من بينها التدريب الأساسي للمقاتلين وإنشاء هيكل قيادة القوات، والمساعدات على استخدام المعدات الموردة من روسيا. 

ووفقا لهذا الخبير، فإن “تشكيل الفيلق الخامس يمثّل محاولة جدّية تهدف إلى تكوين جيش جديد من الصفر، حيث بذل المختصون الروس الكثير من الجهد والوقت في سبيل تحقيق ذلك، وقد بات من الواضح أن القيادة الروسية ترى في الفيلق الخامس نموذجاً للتنظيم المستقبلي للقوات البرية السورية”.

موسكو منذ تدخلها في سوريا، تحاول استعادة القدرة القتالية للجيش السوري ويتجلى ذلك واضح في تكوين الفيلق الرابع والخامس. 

فالقيادة الروسية تحاول إطلاق “عملية إصلاح داخل الجيش السوري”، لتفرض القيادة الروسية سيطرتها الكاملة على هيئة الأركان العامة السورية. ومن ناحية أخرى يلاحظ الباحث المختص في السياسة العربية والدولية، أحمد القلعاوي، في تعليقه لـ”الحل نت”، أن عملية إعادة تشكيل الجيش السوري أصبحت واضحة للجميع، فقد قامت روسيا في نهاية عام 2023 بتعيين ضباط جُدد للقوات الروسية في أجهزة المخابرات العسكرية والأمنية. 

وطبقا لحديث القلعاوي، سوف يخضع هؤلاء الضباط لتدريب استخباراتي وأمني من قبل روسيا، بدءًا من الفروع (291، 293، 237) وهي فروع أمنية واستخباراتية تابعة مباشرة لمديرية المخابرات العامة. ولهذا أبلغ مسؤولون روس القيادة السورية بإعادة هيكلة الجيش السوري، وتسليم قيادة القضايا الأمنية إلى ضباط روس، هو ما يمكن اعتباره تهميش حقيقي للوجود الإيراني العسكري، وتبعية فعليه لجيش الدولة السورية لدولة أخرى.

كل هذه التفاصيل وغيرها تقدّم لنا تفسيراً واضحاً لقرار دمشق بإنهاء الاستدعاء والاحتفاظ للعسكريين. وروسيا تريد ضخ دماء جديدةٍ في الجيش السوري؛ لأن روسيا تريد أن يصبح الجيش السوري تطوّعي، لا يأتمر إلا لها؛ لتنفيذ أجندتها. 

وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال آخر هو أكثر خطورة، هل إذا اكتمال الجيش السوري-الروسي إعادة هيكلته كما تريد روسيا، ستبدأ موسكو حربا ضد القوات الإيرانية بتمويل روسي تجبرها على الخروج من الأراضي السورية؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة