مؤخرا أثارت خطوات سورية تساؤلات واسعة فيما يتعلق بتغيير شكل الحكم، ولا سيما أنه منذ عهد “الأسد الأب” لم يعهد أن تُنقل أي صلاحية خاصة بالرئيس إلى أي شخص أو جهة، إذ يشكّل القصر الجمهوري هالة ضخمة من الغموض ولا تخضع القرارات الصادرة منه والمرتبطة بشخص الرئيس لأي رقابة أو مساءلة أو انتقاد، خاصة أن لبشار الأسد -وأسوة بأبيه من قبله- صلاحيات دستورية وقانونية واسعة في مختلف قطاعات الدولة (المدنية والعسكرية)، تمكُّن عبرها من التحكُّم بالدولة كيف شاء، ووطَّدت في الوقت ذاته ديكتاتورية السلطة القائمة أساساً على الرّعب والخوف.

الرئيس السوري بشار الأسد، أصدر مرسومًا تشريعيًا رقم “38” يقضي بإحداث “الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية” لتحل محل وزارة “شؤون رئاسة الجمهورية” التي يقودها منصور عزام، وبحسب المرسوم، فإن هذه الأمانة التي تتبع “لرئيس الجمهورية” تهدف إلى المساعدة في أداء رئيس الجمهورية لمهامه واختصاصاته، وتتولى تسيير الأمور المالية والقانونية والإدارية في رئاسة الجمهورية والإشراف عليها، ويرأس الأمانة العامة المستحدثة أمينٌ عامٌّ يشرف على أعمالها.

ويرتكز نظام الحكم في سوريا الفردي في صنع القرار منذ العام 1970، على عدَّة قطاعات رئيسة هي: مدنية تعتمد على حزب “البعث” ومجردة من الصلاحيات، وعسكرية يتحكَّم بها الأسد وموالية له، وأمنية قوية تضبط كافة القطاعات الأخرى وتدير عملها، وتمدّ أذرعها من أجل التحكّم الكامل بحياة المواطنين، فيما يمكن استخلاص أن كل الدساتير السورية منذ الأسد الأب كانت قد جعلت جميع سلطات الدولة بين يدي رئيس الجمهورية.

مرسوم إحداث الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، مرسومٌ هام وحدثٌ غير مسبوق في تاريخ “سوريا الأسد”، تم بموجبه إلغاء كل مكاتب الرئاسة سيئة الصيت، وأطاحت بمستشاري الرئيس ووضعت في صلاحيات الأمين العام عقد النفقة وأوامر الصرف لرئاسة الجمهورية.

ليس ذلك فحسب بل هناك عدة قرارات تشير إلى تطوّر مهم يعقد في دمشق، فهل ربما نحن أمام تحوّل جذري لتغيير ونقل صلاحية السلطات في سوريا بإيعاز الأطراف ذات العلاقة بالشأن السوري تمهيداً للمرحلة الانتقالية بحيث يصبح هنالك سلطات أوسع لرئاسة الوزراء أم أن الأسد يعيد ترتيب بيته لقيادة المرحلة القادمة رافضا المبادرات العربية التي قُدّمت في عمّان الأردنية وجدّة السعودية.

ضغطٌ أم رغبةٌ بالتحول عن السلطوية؟

سابقا كان هناك منصب أمين عام رئاسة الجمهورية، وكان يشغل هذا المنصب اللواء زهير غزال، ولكن بعد وفاته لم يشغر هذا المنصب أحد، فيما كان اللواء محمد خير عثمان مديراً للشؤون المالية، واللواء سليمان الأسعد تم تعيينه مديراً للشؤون القانونية وكان ذلك في 2003. 

مجموعة من صورتين غير مؤرختين تظهر الرئيس السوري حافظ الأسد (يسار) وابنه بشار، (تصوير وكالة فرانس برس)

المعاين للمرسوم التشريعي يمكنه أن يستشفَّ منه تحوّلاً جذريّاً في السلطوية الممارسة واحتكار العائلة ومن يدور في فلكها عبر نقل صلاحياتٍ استأثر بها الأسد إلى الأمانة العامة، ما يعني تغيير شكل نظام الحكم ووضع عمل رئاسة الجمهورية بمكاتبها على طاولة الشفافية والرقابة ولو بالمعنى الظاهر إن تحقق. 

ما يطرح تساؤلًا عن مدى خضوع الأسد لضغوطات إقليمية من الحلفاء الإقليمين وسحب بساط صلاحياته المطلقة عبر هذا التنظيم تمهيداً لمرحلة انتقالية وتطبيق القرار 2254، لا سيما أن المرسوم كان متزامناً إلى حدّ ما مع توسيع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، حسين عرنوس، صاحب الارتباط الإيراني، وبعض التغييرات في الأجهزة الأمنية.

المرسوم له دلالات مهمة وخطيرة، بحسب الصحفي السوري، نضال معلوف، فمنذ تأسيس الدولة الحديثة في سوريا، مؤسسة الرئاسة هي ثقب أسود لا يعلم من فيه أو كيف تدار ولا يوجد لأحد سلطة التدخل والرقابة أو معرفة الهيكل وآلية اتخاذ القرار، كل شيء محصور بيد رجل واحد؛ بيده كل السلطات بدون أن يُسأل كيف يُتخذ القرار، وكيف يدير شؤون البلد بشكل عام. 

ولكن المرسوم أو مسمّى الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، يحوّل هذه الفجوة إلى مؤسسة مكشوفة، بدايةً من هيكل إداري إلى مديريات وتوصيف للعاملين فيها، ويلغي الغموض الموجود سابقا. 

دلالات إحداث الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية تأتي في سياق بروز مهام جديدة لرئيس مجلس الوزراء، حسين عرنوس، أدوارٌ يقوم بها لم تكن من المعتاد أن يقوم بها في السابق على صعيد مثلا السياسة الخارجية، وزيارات دولية.

الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ليس استبدالٌ للاسم، فالحقيقةُ الموضوع هو إعطاء أو ضبط أداء موقع رئاسة الجمهورية في سوريا، وتحديد مهامه وإعطائه مزيداً من الشفافية، فالأمين العام هو آمر الصرف وعاقد النفقة، وأيضا لم يعد هناك مسمى مستشار الرئيس، بل أصبح مستشار للرئاسة ويعمل ضمن هذه الآلية.

هذا يعني أن المظاهر التي اعتاد السوريون على رؤيتها والصلاحيات المطلقة والضبابية لبثينة شعبان ولونا الشبل؛ اللتان كانتا تعملان تحت مسمى مستشارة خاصة لبشار الأسد، انتهت. حيث لم يكن يُعرف سابقا نطاق عملهم ومن خلال هذه المناصب كانوا يقومون بأي عمل ويأخذوا نفوذا غير موجودة حتى لمنصب الوزير.

هذا الموضوع يتم ترتيبه للمستقبل وليس لبشار الأسد، فمثلا ما كانت تسمى مكاتب في رئاسة الجمهورية، والتي كانت تمتهن عمليات التشليح خلال السنوات الماضية، كالمكتب الاقتصادي والمكتب السّري بوجود الأسد حاليا هذه القرارات أو التشريعات ستبقى حبرا على ورق.

الأسد وتغيير في نظام الحكم السوري

لكن لماذا تصدر هذا التشريعات والأسد حكما لن يطبقها، هذا يدلّنا إلى أن الأسد وحكومة دمشق يخضعان لضغوطات وهو يصدر هذه القرارات حتى يلقى قبولا عند الأطراف والمبادرات التي عقدت مؤخرا في عمّان وجدة، والخضوع للضغوط هذا شيء جيد بنظر مراقبين، لأن الضغوط هي باتجاه إحداث التغيير السياسي في سوريا وتطبيق القرارات “2254”، وسيؤدي إلى إنهاء حقبة الفرد الواحد في سوريا.

رئيس الوزراء السوري حسين عرنوس (يمين) ورئيس وزراء بيلاروسيا الزائر رومان جولوفتشينكو (يسار) يتفقدان حرس الشرف خلال حفل استقبال رسمي للأخير في العاصمة دمشق. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

سحب صلاحيات من الرئيس ووضعها في يد رئيس مجلس الوزراء هو ما حدث مؤخرا بشكل ليس مباشر، وهذا الموقع مسيطر عليه من قِبل إيران، وروسيا في المقابل سيطرت على الجيش ووزارة الدفاع.

عرنوس بدا مؤخرا وكأنه أشبه برئيس دولة وذو صلاحية واسعة، وذلك من خلال إرهاصات عديدة أبرزها، زيارته في 10 كانون الأول/ديسمبر الجاري، على رأس وفد اقتصادي لإيران، إذ أتت في توقيت تشهد فيه المنطقة زيادة في التوتر، فضلا عن لقائه بعد عودة من إيران بيومين، أينال أرديزنبا وزير خارجية جمهورية أبخازيا، وهي مهام كانت محصورة في سوريا بالرئيس ووزير خارجيته فقط.

ليس ذلك فحسب، بل أيضا التعينات التي حدثت في الوزارة مؤخرا، هي تعيينات لا يمكن التغاضي عنها، فاستبعاد حسين مخلوف المقرب من إيران بمرسوم تشريعي، الأربعاء 13 من كانون الأول/ديسمبر، يقضي بتعديل وزاري شمل وزير الموارد المائية والإدارة المحلية والبيئة وتعيين لمياء يوسف شكور بديلا عنه.

شكور التي كانت تشغل منصب سفيرة سورية في فرنسا منذ عام 2008، هي ابنة رئيس أركان الجيش السوري، يوسف شكور، خلال حرب تشرين عام 1973، قبل أن تشغل منصب سفير سوريا لدى فرنسا، ومنصب نائب رئيس اللجنة السياسية في وزارة الخارجية.

الوزيرة شكور كان قد عُرف عنها علاقاتها الواسعة وارتباطاتها الدبلوماسية، وهو ما ذهب إليه البعض من توجّه دمشق إلى القبول بمبدأ إدارة المناطق عبر المجالس المحلية، لا سيما أن حكومة دمشق نفسها تعتبر أنه من الواجب تطبيق اللامركزية على أساس المرسوم التشريعي رقم 107 والذي تم تأجيل نفاذه بعد إصداره في آب/أغسطس 2011. 

إذ ينصّ على تفويض بعض المسؤوليات السياسية من المؤسسات المركزية بدمشق إلى خليط من المسؤولين المنتخبين والمعينين على مستوى الأقاليم والمحليات، إلا أن ما أضعف هذه التوجه هو رفض دمشق لمسودة دستور روسية في مايو/أيار 2016، كانت قد أُقرت فيه الحاجة إلى نظام لامركزي، من بنوده تأسيس مجلسٍ يتمتّع بسلطات تشريعية ليمثّل مصالح الإدارات المحلية، ففي هذه الحالة تتوسع صلاحيات المناطق، ويكون لرئيس الوزراء السوري عدّة نواب يمثلون الأقليات الدينية والإثنية.

هذا يدلل أن لا شيء يحدث عشوائي، إذ بحكم شغل لمياء المندوبة الدائمة لدمشق لدى منظمة “اليونسكو” في الأمم المتحدة، وسيرتها الدبلوماسية فهي تنافس أسماء الأسد في موضوع علاقاتها وثقة المنظمات الدولية فيها، وحاليا هي في وزارة أُنشئت عام 2010 الهدف النهائي منها هو الانتقال إلى اللامركزية الإدارية.

يقول الباحث في مركز “جسور للدراسات”، رشيد حوراني، لـ”الحل نت”، إن “العمل بنموذج نظام الإدارة المحلية كان مطروحاً منذ العام 2007 وتمّ إيفاد مجموعة من الأكاديميين والمهندسين إلى تركيا للاطلاع عليه ونقله إلى سوريا، لكن لم يحدث أي تغيير أو حتى التقدم بخطوات قليلة للسير في هذا النموذج”.

مضيفاً، إنه بناءً على شخصية الوزيرة شكور التي تمّ تعيينها يبدو أن الأسد يحاول خطب ودّ فرنسا بالتزامن مع تقاربه العربي، خاصة أن فرنسا والسعودية تتعاونان إلى حدّ ما فيما يتعلق بالملف اللبناني والحِراك بشأنه.

بالمقابل يعتقد حوراني، أن “التغيرات الأخيرة بما فيها المرسوم تقف وراءها روسيا بالتنسيق مع السعودية، إذ يحاول الأسد إيهام السعودية بالتغيرات لتستمر معه في إعادة تأهيله ولو عربياً كخطوة مرحلية أولى، ويستقدم بموجب هذه الإيهامات الدعم المالي منها، لكن يبدو أن السعودية تقف على أن هذه التغيرات لا تزال شكلية بدليل أن الأسد عيّن سفيراً له في الرياض، بينما الرياض غير راضية حتى الآن تعيين سفير لها بدمشق”.

وهنا نستذكر تصريحات وزير الدفاع التركي، الذي أوضح فيها بشكل مباشر وصريح بأنه لن تنسحب القوات التركية من سوريا قبل إقرار الدستور وإجراء الانتخابات، أي تغيير نظام الحكم سواء بوجود الأسد أو بغيره.

إنهاءٌ للأجهزة الأمنية

في تطور ملفت على أن روسيا مصممة في سعيها لإنفاذ الشروط العربية وضبط سلطتها في سوريا، بدأت شعبة المخابرات العسكرية بتنفيذ عدة إجراءات خلال الأسابيع الماضية، تتمثل بحل وإنهاء بعض الفروع التابعة لها ودمجها مع فروع أخرى أو ضمها للإدارة الرئيسية.

صورة الرئيس السوري بشار الأسد ملصقة على الزجاج الأمامي لشاحنة عسكرية. (غيتي)

‏وتعتبر الإجراءات الحالية، وفق ما نقله موقع “صوت العاصمة” المحلي، إحدى مراحل خطة روسية بدأت العمل عليها في العام 2019 لتغيير بنية الفروع الأمنية في سوريا وتنظيم عملها الاستخباراتي، سيما بعد أنّ أصبحت عقب اندلاع الاحتجاجات السورية مجرد تشكيلات منفصلة عن بعضها البعض، وموالية لتيارات وجهات داخلية أو خارجية.

البداية كانت من حل “الفرع 216″ الواقع في منطقة القزاز بدمشق والمجاور لـ”الفرع 235” المعروف باسم فرع “فلسطين”، ونقل عناصره ومكاتب الفرع إلى إدارة الشعبة، حيث أُفرغ مبنى الفرع بالكامل خلال الأسبوعين الماضيين، وسُحبت كافة النقاط والمفارز الأمنية التابعة للفرع من المنطقة.

‏ويُعتبر الفرع 216 (الدوريات) مسؤولاً عن مناطق يلدا وببيلا وبيت سحم، بالإضافة لمخيم اليرموك والحجر الأسود والتضامن، والمناطق المحيطة بالسيدة زينب، والتي انتقلت تبعيتها الأمنية خلال الأيام الماضية إلى فرع المنطقة الذي يحمل رقم “227” والمسؤول عن معظم دمشق وريفها وأجزاء من المنطقة الجنوبية لسوريا، والذي سيتم تحويله أيضاً من فرع مستقل إلى قسم داخل الإدارة.

‏واستكمالاً للمخطط الروسي سيجري حلُّ ثلاثة فروع تابعة لشعبة المخابرات العسكرية، هي الفرع “235” المعروف باسم “فرع فلسطين”، ‏ومن المقرر أن تتحول الفروع الثلاثة لأقسام ضمن شعبة المخابرات العسكرية في دمشق وأنّ يتم نقل كافة الضباط وصف الضباط والمعدات والأسلحة إلى مقر الشعبة الرئيسي.

‏فروعٌ أخرى سيجري حلّها ودمجها، منها الفرعين “291” المسؤول عن التحقيق مع المجندين والعناصر وصف الضباط، والفرع “293” المعروف باسم فرع شؤون الضباط والمسؤول عن التحقيق مع الضباط، والذي من المقرر أنّ يتم صهرهما مع فرع التحقيق الرئيسي في الشعبة وإلغاء أي تواجد لهما أو نشاط بصورة مستقلة.

‏إجراءات مماثلة سيتم تطبيقها خلال الفترة المقبلة على فرع الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، إذ سيجري حلّهُ وتحويله إلى قسم ضمن فرع أمن الدولة التابع لإدارة المخابرات العامة.

مجموعة الاستنتاجات من نقل صلاحيات لرئيس الوزراء، وتحجيم رئيس الجمهورية وغيابه عن المشهد بإنشاء الأمانة العامة للرئاسة وتغييرات داخل منظومة الأجهزة الأمنية، تؤكد أن سوريا ذاهبة نحو نظام لا مركزي برلماني تبعا للقانون 107 في الدستور السوري الذي ينصّ على التّحول إلى اللامركزية الإدارية حسب النموذج البلجيكي أو التركي.

توجّه تلقائي نحو اللامركزية الواقعية

بالتزامن مع المرسوم الصادر من دمشق كانت “الإدارة الذاتية” العاملة شمال شرق سوريا، قد انتهت من إعداد العقد الاجتماعي الجديد الخاص بها (ما يشبه الدستور الجديد)، والذي نصّ على التسمية الجديدة وهي “الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا”، وصارت تتكون من إقليم واحد وهو إقليم شمال وشرقي سوريا، إضافة لإطلاق اسم “جمهورية سوريا الديمقراطية” بدلاً من الجمهورية العربية السورية، واعتماد شكل الحكم في الدولة.

الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية.. هل سقط الأسد في فخّ تغيير شكل الحكم وخسارة بعض صلاحياته؟ (5)
اجتماع لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” في الطبقة بمحافظة الرقة 2018 – (الشرق الأوسط)

كما تم تعديل تسمية “المجلس العام” إلى “مجلس شعوب شمال وشرق سوريا”، وسيتم استحداث بعض المؤسسات وفقاً للعقد الاجتماعي الجديد كـ”مؤسسة الرقابة”، ومحكمة حماية العقد الاجتماعي، وهي بمثابة محكمة دستورية.
ويمكن ملاحظة التقدّم نحو “فدرلة المنطقة” من خلال تحويل شمال شرق سوريا لإقليم واحد، على الطرف المقابل في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، باتت تتمتع بوجود هيئات محلية يمكن اعتبارها نواة الإدارات المحلية المستقبلية فيما لو تمّ رسم مشهد “سوريا اللامركزية”.

وما يمكن ملاحظته أيضاً في الجنوب السوري، بعد الدعوة الكبيرة مؤخراً لإدارة محافظة السويداء عبر تشكيل “مجلس سياسي أعلى” في المحافظة التي تشهد غلياناً شعبياً ضد حكومة دمشق منذ أكثر من ثلاثة أشهر.

يشير الباحث في مركز “الحوار السوري”، الدكتور أحمد القربي، إلى أن أطراف الصراع المحلية تعيش حالة “إدارة لا مركزية” على حساب المركز دمشق بحكم الأمر الواقع، فخطوات الإدارة الذاتية أو المعارضة السورية في الشمال أو ما يشهده الجنوب السوري، كلها مؤشرات لاتجاه زيادة اللامركزية، وإنشاء مؤسسات وأجهزة تكرّس فكرة الحكم المحلي.

ويبدو أن قضية اللامركزية ليست قضية تخصّ السوريين، فتركيا موجودة شمال غرب سوريا، وأميركا موجودة شمال شرق، وبالجنوب هناك مصالح واضحة لبعض الدول العربية وإسرائيل، ما يعني أن القضية غير مرتبطة فقط بتفاعل داخلي.

حسب حديث القربي لـ”الحل نت”، فإن “وجود مثل هذه المؤسسات لا شكّ قد يمهّد لاحقًا لبروز فكرة اللامركزية بشكل أوضح، ولكن شرعنتها محاطة بتعقيدات كثيرة”. 

سوريا إلى أين؟

طبقا لما يستشفه القربي، فإن المرسوم لا يتعدَ عن كونه مرسومًا تنظيميًا إداريًا، فالتغيير شكليّ بحت لا أكثر بعيدٌ عن أي تغيير جوهري، كما أن مهام الأمانة العامة إدارية فقط، وكل ما في الأمر هو تغيير بسيط يتعلق بالتسميات، مستبعدًا في الوقت ذاته أن يكون إجراء الأسد نابعاً من ضغط إيراني أو روسي أو نتاجاً لصراع بينهما أو استجابةً للمبادرة العربية.

الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية.. هل سقط الأسد في فخّ تغيير شكل الحكم وخسارة بعض صلاحياته؟ (1)
جانب من الاحتجاجات الجمعة في مدينة السويداء (السويداء 24 – أ.ف.ب)

ويشترك القربي وحوراني بفكرة أن العقلية الأساسية التي تحكم سلوك سلطة دمشق عقلية سلطوية، فلا يعوّل على تغيير الأشخاص وتعيينها وتعديل النصوص القانونية؛ لأنها إجراءات شكليّة تسويقيّة سياسيّة بحتة. الهدف منها إظهار نيته لعملية تغيير في البلاد، فالأسد حقيقةً غير معنيّ بتحديث المنظومة القانونية واتخاذ إجراءات فعلية.

تماشياً مع حديث الباحثَين، يبدو أن للأسد فلسفة في تعيين الأشخاص وتفسير النصوص ما يعني أن جدّيته في تفعيل اللامركزية وتوزيع السلطات على المحك، استنادًا لسياسة الإغراق في التفاصيل التي اعتمدها منذ اندلاع الاحتجاجات عام 2011. 

ومما لا شكّ فيه أن” العودة إلى الدولة المركزية مستبعدٌ بامتياز، في ظلّ بقاء نظام الحكم الحالي المعتمد على الطائفية وهو ما ظهر في التعيينات الأخيرة للدبلوماسيين بوزارة الخارجية والمغتربين السورية، بنسبة 60 بالمئة من الطائفة العلوية مقابل واحد مسيحي وآخر درزي و3 من الطائفة السّنية، دون أي وجود للمكون الكردي أو غيره من الأعراق السورية الأخرى.

ومع ما يواجه أطروحات اللامركزية من تحديات عديدة، تتمثّل بخصوصية الضوابط الديموغرافية التي تتمتع بها المناطق السورية وتداخل نفوذ السيطرة بين الأطراف في المحافظة نفسها، والتنوع الإثني وطبيعة توزّع الموارد الاقتصادية وتكاملاتها البينية، تبقى السلطة في دمشق تلجأ لتكريس نفوذها في المنطقة بغرض تأمين بقائها كلاعب أساسي ضمن المعادلة السورية.

كما يظهر أن الأسد الذي يشكّل محور المعادلة السورية حتى لو تبنى النظم اللامركزية لا يعني ذلك أنها ستؤدي بالضرورة لسلوك ديمقراطي أو تمثيل سياسي أكثر تعددية، فلعلّ المكسيك خيرُ مثال على ذلك، فهي على ما تتمتع به من نظام لامركزي، إلا أنها عانت من نظام الحزب الواحد لنحو سبعين عاماً قبل تحوّلها إلى الديمقراطية مطلع الألفية الجديدة.

4 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات حول في العمق

جديداستمع تسجيلات سابقة