ثأر مستقل، أم مدفوع بأيد غربية؟ أسئلة يطرحها الهجوم الأخير في كروكوس بضواحي موسكو، والمحاولات التي سبقته مؤخرا. وكانت إحدى ضواحي موسكو قد شهدت يوم الجمعة 22 آذار/ مارس الحالي واحدة من أسوأ الهجمات التي تشهدها روسيا منذ سنوات، أودت بحياة المئات بين قتلى وجرحى، خلالها أطلق مسلحون يرتدون ملابس مموهة النار من أسلحة آلية على أشخاص خلال حفل موسيقي في قاعة “كروكوس سيتي” بالقرب من موسكو.

الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أعلن يوم الاثنين 24 آذار/ مارس، يوم حداد على ضحايا الحادث. قائلا: إن الهجوم “عملا إرهابيا همجيا” وأن المهاجمين “لن يفرقونا”. مشيرا خلال خطابه المتلفز لاعتقال المسلحين الأربعة المسؤولين عن الهجوم، بعد محاولتهم الفرار لأوكرانيا، حيث حاولوا الاختباء والتوجه نحو أوكرانيا. حيث تشير المعلومات الأولية للتنسيق مع الجانب الأوكراني لعبور الحدود.

بدورها، نددت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بهذا “الاعتداء الإرهابي الدامي” و”الجريمة الفظيعة”، فيما أعلنت اللجنة المكلفة بالتحقيقات الجنائية الكبرى في البلاد، أنها “فتحت تحقيقا جنائيا في عمل إرهابي”. وقالت لجنة التحقيق الروسية، إن عدد القتلى في الهجوم على قاعة كروكوس للحفلات الموسيقية ارتفع إلى 133 شخصا. (آخر إحصاء للضحايا بلغ 150 شخصا).

تنظيم “داعش” أعلن مسؤوليته عن الهجوم، قائلا في بيان نشره على “تيليجرام”، إن مقاتليه “هاجموا تجمعا كبيرا في ضواحي العاصمة الروسية موسكو”. مشيرا إلى أن مقاتليه “انسحبوا إلى قواعدهم بسلام”. وكان جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، قد أعلن مطلع هذا الشهر قتله لمسلحين أعضاء في الفرع الأفغاني لتنظيم “داعش”، كانوا يخططون “لهجوم إرهابي”. وأن خلية للتنظيم في كالوغا، جنوب غربي موسكو، كانت تخطط لإطلاق النار على مصلين يهود في كنيس في العاصمة. وإلى جانب ذلك، أعلن الجهاز قتل 6 أشخاص يشتبه بانتمائهم لتنظيم “داعش” في إقليم إنغوشتيا الجنوبي ذي الغالبية المسلمة.

شاهد عيان يدعى فيتالي، تحدث لوسائل إعلام روسية قائلا: “سمعنا إطلاق نار، ولم نعلم ماذا حدث في البداية، ثم رأيت بعض الإرهابيين يطلقون النار على الناس. لقد ألقوا بعض القنابل الحارقة، وبدأ كل شيء يحترق، وتم اقتيادنا نحو الخارج”. وبحسب صحفي من وكالة أنباء “ريا نوفوستي”: اقتحم مسلحون قاعة الحفل قبل أن يفتحوا النار ويلقوا “قنبلة يدوية أو قنبلة حارقة، مما تسبب في نشوب حريق”.

“داعش-خراسان”

عشية حادثة كروكوس، أعادت السفارة الأميركية في روسيا حثّ المواطنين الأميركيين على تجنب المنطقة المجاورة للهجوم. وكانت السفارة قد حذّرت مواطنيها قبل أسبوعين من العملية بتجنب التجمعات الكبيرة، إذ بحسب التقارير الواردة إليها، فإن “متطرفين لديهم خطط وشيكة لاستهداف التجمعات الكبيرة في موسكو، ومنها الحفلات الموسيقية”.

تحذيرات “استفزازية”، قال بوتين في خطابه السابق أمام جهاز الأمن الفيدرالي. مضيفا: “كل هذه التصرفات تشبه الابتزاز الصريح ونية تخويف مجتمعنا وزعزعة استقراره. أنتم على علم بها جيدا، لذا لن أخوض في التفاصيل في هذه المرحلة”. وبحسب شبكة “CNN”، حذّرت الاستخبارات الأميركية نظيرتها الروسية في وقت سابق من تصميم تنظيم “داعش-خراسان” على مهاجمة روسيا. ووفقا لأحد مصادر الشبكة، فإن تلك المعلومات الاستخباراتية كانت “محددة إلى حد ما”، وارتفعت إلى مستوى واجب التحذير، لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا مرتبطا بشكل مباشر بالتحذير الذي أصدرته السفارة الأميركية.

مجموعة متنوعة من الثارات تواجهها روسيا، ومنها تنظيم “داعش”، حسب أحمد دهشان، وهو باحث في التاريخ والعلاقات الدولية، ومتخصص في الشؤون الروسية والأوراسية. حيث يرى التنظيم المتطرف في روسيا عدوة له، نتيجة مشاركتها بضربه في سوريا، مع دعمها للحكومة العراقية في مواجهته. وهو ثأر متأصل في رغبة التنظيم بالانتقام من روسيا لاعتقاده بأن الأخيرة عطلت تقدمه وأنهته في سوريا. وإلى جوار ذلك، يعتقد تنظيم “داعش خراسان” إمكانية تمكنه من السيطرة وحكم أفغانستان عبر حركة “طالبان”، التي نالت دعم موسكو لمواجهة التنظيم. ما جعل موسكو طرفا في هذه المعادلة. منوها لتنامي قوة التنظيم، وسهولة تجنيده لمقاتلين من العمال القادمين من آسيا الوسطى، وتحديدا من طاجيكستان وأوزبكستان، والمقدر عددهم قرابة 3 ملايين عامل، يتكلمون اللغة الروسية ويسهل دخولهم الى روسيا.

صورة نشرتها لجنة التحقيق الروسية في 23 آذار/ مارس 2024 تظهر رجال إنقاذ في مكان الهجوم – (أ ف ب)

إلى جوار ذلك، استطاعت كييف بحسب دهشان، استقطاب المقاتلين الذين تمت هزيمتهم وإخراجهم سابقا من الجمهوريات الفيدرالية شمال القوقاز، إنغوشيا وداغستان والشيشان، من قبل الرئيس الشيشاني رمضان قديروف. حيث يقاتل هؤلاء بجانب أوكرانيا على أمل هزيمة روسيا، للعودة بعدها إلى شمال القوقاز، وإعادة إقامة إمارة إشكيريا الإسلامية، بعد القضاء على قديروف. وهؤلاء بدورهم جنّدوا خلايا داخل روسيا، من القوقازيين والعمال القادمين من آسيا الوسطى. إضافة لأوكرانيين تم إدخالهم إلى روسيا من قبل كييف، مستغلة عدم اشتراط تأشيرة دخول بين الدولتين، مع وحدة اللغة والمظهر السلافي المساعد بعدم لفت الأنظار تجاه الأفعال غير العادية. مشيرا خلال حديثه مع “الحل نت”، لقيام هؤلاء بعدة عمليات أو محاولات لاغتيال شخصيات روسية، منها محاولة اغتيال المفكر الروسي ألكسندر دوغين، والتي أودت بحياة ابنته رغم إخطائها إياه. لذا، فإن تزايد الهجمات الصغيرة داخل روسيا أمر طبيعي، نتيجة الاستقطاب المرتبط في جانب منه بالحرب مع أوكرانيا.

رغم التصعيد الكبير الذي يمثله الهجوم الذي نفذه “داعش – ولاية خراسان” في روسيا، فإن خبراء قالوا إن التنظيم عارض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في السنوات القليلة الماضية. إذ قال كولين كلارك من مركز “صوفان”، وهو مجموعة بحثية مقرها واشنطن: “ركز تنظيم داعش-ولاية خراسان اهتمامه على روسيا على مدى العامين الماضيين وتضمنت دعايته مرارا انتقادا لبوتين”. ومن جانبه، قال مايكل كوغلمان من مركز “ويلسون” الأميركي: “يرى داعش-ولاية خراسان، أن روسيا متواطئة في أنشطة تضطهد المسلمين باستمرار”. مشيرا، إلى أن التنظيم يضم بين أعضائه عدد من المسلحين القادمين من آسيا الوسطى الذين لديهم مظالم خاصة حيال موسكو.

“ولاية القوقاز الإسلامية”

الجمهوريات القوقازية المرتبطة مع روسيا عبر اتحاد فيدرالي، هي مركز للأعمال التي يسعى “داعش” لتنفيذها، حيث ينشر دعايته المتطرفة بين الأوساط الأقل تعليما والأكثر هامشية من جاليات تلك الجمهوريات ذات الأغلبية السكانية المُسلمة. وبحسب الباحثة والكاتبة الروسية المختصة “بشؤون الإرهاب”، تاتيانا ساباتشيه، ” يستفيد التنظيم الإرهابي من ثلاثة عوامل متراكمة في تلك المنطقة، إذ ثمة وضع سياسي خاص لتلك الجمهوريات، تتعامل معها السلطات الإدارية والأمنية المركزية بحساسية بالغة”. كذلك، “فإن الظروف الاقتصادية بمثابة محرض ودافع تحفيزي، حيث يستخدم التنظيم الأموال الضخمة لإغراء الطبقات الفقيرة فيها”. وفوق ذلك، “يغذي التنظيم الصراع الديني بين المسلمين والمسيحيين في البلاد، ويعمل بشكل منتظم للاصطياد في تلك الثنائية”.

في حزيران/ يونيو 2015، أعلن تنظيم “داعش” عن إنشاء تنظيم “ولاية القوقاز الإسلامية” التابعة له، وتعيين “رستم أسيلداروف” قائدا لها، والذي بايع بدوره زعيم “داعش” آنذاك “أبو بكر البغدادي”. ونفذ تنظيم “ولاية القوقاز” عددا من الهجمات في العمق الروسي، منها الهجوم على قاعدة عسكرية روسية بجنوب داغستان في أيلول/ سبتمبر 2015، وفي 4 كانون الأول/ ديسمبر 2016 أعلنت موسكو قتل “أسيلداروف” في غارة جوية على منزله في “محج قلعة”، وبعد ذلك تقلصت قدرة تنظيم “ولاية القوقاز” على شن عمليات ضد روسيا. وتعد منطقة القوقاز من أهم بؤر وجود “داعش” في القارة الآسيوية. حيث ترتبط معظم التنظيمات بالمنطقة بتنظيم “داعش” وتبايعه حتى بعد إعلان هزيمته في 2019. فيما يتبنى الأخير خطاب الثأر تجاه روسيا.

إلى ذلك يقول الكاتب والأكاديمي المصري، هاني نسيرة، وهو مؤلف للعديد من الكتب المفنّدة لنهج ومسيرة الجماعات “الجهادية”، في حديث مع “الحل نت”، إنه بخصوص “العمليات الإرهابية” في روسيا، هي جزء من الثأر المتبادل ما بين “داعش” وروسيا، والعملية الأخيرة هي الثالثة خلال هذا الشهر، حيث نجحت المحاولة الثالثة، فيما فشلت المحاولتين السابقتين، في الثلاث والسابع من هذا الشهر. وبرأيه، فإن المناخ داخل روسيا منذ تدخل الأخيرة في سوريا، وقبله مع غزوها للشيشان وسواها من الجمهوريات الإسلامية هناك، ولّد بيئة خصبة للإرهاب. مشيرا إلى انضمام مجموعات شيشانية لأوكرانيا ضد روسيا، وإلى إعلان ولاية “داعش-خراسان” وولاية “القوقاز الإسلامية” عام 2015، ضمن أجزاء من عمليات ثأرية من جانب “داعش”. حيث تحمّل الأخيرة روسيا مسؤولية فشلها وإسقاط دولتها.

ثارات متعددة وأياد استخباراتية

نفوذ كبير يكتسبه تنظيم “داعش” في شمال القوقاز، لا سيما مع تلاشي هيبة إمارة القوقاز وسعي المتمردين المحليين إلى الحصول على علامات فارقة جديدة ودعم مالي، حسب الباحثين، أليكسي مالاشينكو، رئيس برنامج “الدين والمجتمع والأمن” في “مركز كارنيجي” في موسكو، وسيرجي ماركيدونوف ، من قسم الدراسات الإقليمية والسياسة الخارجية في “جامعة الدولة الروسية للعلوم الإنسانية”. ووفقا لمالاشينكو، يتخذ نظام قديروف الآن وجهة نظر براغماتية لتأثير “الدولة الإسلامية” على الوضع في الشيشان، ويلزم نفسه ب “طرد” المجندين المحتملين أو العائدين من الشرق الأوسط، بدلا من تدميرهم. فيما ينوه ماركيدونوف، إلى أن “الدولة الإسلامية” قد تضعف كلا من شمال وجنوب القوقاز.

تطوران يثيران قلق موسكو، أولهما، إعلان “حركة استقلال إنغوشيا” لنهج سياسة استقلال قائمة على الإسلام المعتدل، مع تنظيم ذراعها العسكري الخاص لتحقيق هذه الغاية. وثانيهما، دعم أوكرانيا المتزايد لأنشطتها. حيث صوّت البرلمان الأوكراني على الاعتراف بحق الأمة الإنغوشية في تشكيل دولة مستقلة، مع اعتراف سابق بالشيشان-إشكيريا كأرض محتلة مؤقتا. إضافة إلى ذلك، احتفلت الجماعات الإنغوشية والأوكرانية وغيرها من الجماعات القومية بما تعتبره بطولة أولئك الذين قتلوا على أيدي القوات الروسية في كارابولاك بداية شهر آذار/ مارس الحالي.

هناك عداءات وثارات قديمة مع روسيا، وفق دهشان، من قبل بعض التيارات السلافية الروسية القومية المتطرفة، والتي يقاتل بعضها إلى جوار أوكرانيا، وقد نفّذ بعضها عمليات داخل روسيا في المناطق الحدودية. حيث ترى هذه التيارات أن نموذج الدولة القومية هو النموذج الأفضل لروسيا. لذا، يجب القضاء على نموذج الدولة متعددة القوميات الذي يعتمده بوتين. وتاليا، يجب تمكين أوكرانيا من الثبات في هذه المعركة. مشيرا لدور استخباراتي لم يعد خافيا على أحد، على حد وصفه، يقوم على استخدام هذه التنظيمات لتحقيق أهداف سياسية للدول التي لا تستطيع القيام بهذه الأعمال بنفسها، نظرا لكلفتها السياسية. حيث تقوم هذه التيارات القومية المتطرفة، والتي ترى ضرورة إسقاط بوتين من السلطة، بعمليات في داخل روسيا، مستغلة حالة الحرب، لإظهار بوتين في صورة العاجز عن حماية بلاده في الداخل، والانتصار بالحرب في الخارج.

ختاما، وبعيدا عن الغوص في تأييد أو رفض السلوك الروسي على الساحة الدولية، يحمل الهجوم المنفذ في كروكوس مؤشرات خطيرة، سواء إن تم تنفيذه باستقلالية من قبل تنظيم “داعش” من عدمه، ما يُشير لعودة تنامي قوة التنظيم بعد أفولها، وهو ما يحتاج إلى تكاتف دولي لمحاربته، وهو عصي حاليا. والأخطر، استخدام “داعش” أو سواه من التنظيمات المتطرفة لتنفيذ أجندة دولية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات