رغم مرور كل تلك العقود على تظاهرات النساء الإيرانيات في العام 1979 اعتراضا على القرار الذي أصدره الخميني بإلزامية الحجاب، وصولاً لوقائع مماثلة ومروراً بكافة الاحتجاجات الشعبية التي تنطلق على مستوى الأقاليم والمحافظات الإيرانية، بيد أنهم جميعاً لم يواجهوا سوى آلية العنف والقمع المنهجية وكأن آلة الزمن قد توقفت عند نفس اللحظة وذات الضحايا.

نحو ذلك خلُصت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة خلال مطلع شهر آذار/ مارس الماضي، إلى أن حملة القمع العنيفة التي شنّتها طهران على الاحتجاجات السلمية والتمييز ضد النساء والفتيات أدت إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان يرقى كثيرٌ منها إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. 

بصمة مباشرة

جاء تقرير البعثة، على خلفية ما شهدته إيران من احتجاجات واسعة النطاق بعد وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني، على يد عناصر وأفراد “شرطة الأخلاق”.

المشجعون الإيرانيون يحملون أحرفًا تشكل اسم مهسا أميني احتجاجًا على الحكومة في مباراة كرة القدم – غيتي

من جانبها رفضت إيران التقرير، ودفعت عدة وسائل إعلام محلية بعدد من المواد التي تذهب نحو كون التقرير تعمّد “خلق إحصائيات مزورة بدلاً من تقصّي الحقائق”، بحسب ما أوردته صحيفة “جام جم” التابعة لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية.

أظهرت قاعدة البيانات التي نشرها موقع “Iran open data”، أن النظام قمع ما لا يقل عن 16 احتجاجاً كبيراً في إيران خلال الـ 45 عاما الماضية وقتل ما لا يقل عن 2400 مواطن في هذه التحركات.

في سياق موازٍ وذات صلة، أعلنت شرطة العاصمة البريطانية لندن في تقرير لها عن الهجوم على مذيع قناة “إيران إنترناشونال”، بوريا زراعتي، وأن ثلاثة من المشتبه بهم في الهجوم توجّهوا مباشرةً إلى مطار “هيثرو” بعد ساعات قليلة من الحادث وغادروا المملكة المتحدة.

ووفقا لهذا التقرير الذي نُشر على الموقع الإلكتروني لشرطة العاصمة، يوم الثلاثاء الماضي، فقد فرّ ثلاثة من المشتبه بهم في الهجوم بسيارة من نوع “مازدا 3” زرقاء اللون من المكان بعد الهجوم على زراعتي في حي “ويمبلدون” بـ لندن وتركوا سيارتهم التي عُثر عليها في منطقة “نيو مالدن”. 

فيما أشارت شرطة لندن في التقرير الذي نشرته إلى أنها تواصل التحقيق للحصول على مزيد من المعلومات. وقال رئيس قيادة مكافحة الإرهاب بشرطة العاصمة، دومينيك ميرفي، “نعمل الآن مع شركاء دوليين للحصول على مزيد من التفاصيل”.

وأكد المسؤول في الشرطة أن “التحقيق في هذا المجال لا يزال في مراحله الأولية، وأن الدافع وراء الهجوم لا يزال مجهولا”. وتابع: “يتم التحقيق في كل الاحتمالات الممكنة، وستتحقق الشرطة من جميع السيناريوهات”.

هذه الإشارات ودلالاتها تكشف عن بصمات إيرانية مباشرة، تتصل بدورٍ تؤديه طهران من خلال مؤسساتها الرسمية، لا سيما الدبلوماسية والتي توفر حماية لعناصرها أو بالأحرى أذرعها الأمنية الخارجية التي تقوم بقمع المعارضين فضلاً عن اختطافهم القسري. 

متابعة لوسائل الإعلام المعارضة

لا تُعد حالة الصحفي في لندن استثنائية بل إن الوقائع عديدة، كما حدث مع الصحفية الأميركية من أصول إيرانية، مسيح علي نجاد، ومحاولات الاعتداء عليها وتهديدها وخطفها، ثم ما جرى بحق الصحفي الإيراني المعارض، روح الله ذم، والذي اختطف وعاد قسراً من مطار بغداد إلى طهران وخضع لمحاكمة صورية ومثوله أمام الإعلام للإدلاء باعترافات تحت وطأة التعذيب والإكراهات المختلفة، وانتهى الحال بإعدامه.

النساء في إيران الإيرانيات سجن نرجس محمدي النظام الإيراني المرأة الإيرانية
متظاهر يحمل صورة ماهسا أميني خلال مظاهرة لدعم أميني، وهي امرأة إيرانية شابة توفيت بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق في طهران في طهران. (تصوير أوزان كوسي / وكالة الصحافة الفرنسية)

بل لم تستثن إيران حتى من كانوا إلى وقت قريب ضمن صفوفها، مثلما جرى مع علي رضا أكبري والذي اختطف ثم اتهم بالتجسس لصالح بريطانيا وأعدم في النهاية قبل نحو عام.

في هذا السياق، يشير الباحث في الشأن الإيراني، وجدان عبد الرحمن، إلى أن قناة “إيران إنترناشونال” استطاعت أن تحقق مكانتها سريعاً بين القنوات الناطقة بالفارسية في الداخل الإيراني، بحيث تجاوز متابعيها قنوات تعمل في الداخل الإيراني مثل القناة “بي بي سي” الفارسية، وقناة “صوت أميركا” بالفارسي وغيرها من المنصات.

يتابع عبدالرحمن حديثه لـ”الحل نت”، بقوله إن منصة “إيران إنترناشونال” التي لم يمر على انطلاقتها سوى بضع سنوات، أخذت مكانة كبيرة بين المواطنين في إيران عبر تغطيتها الأخبار، مما جعل طهران منزعجة بشكل كبير منها وغيرها من القنوات، خاصة أن التواصل بينها وبين المواطن أضحى بشكل مباشر من خلال تسجيل وإرسال الأحداث التي تمر في الداخل.

إن أهم ما جعل قناة “إيران انترناشونال” في مرمى الجمهورية الإيرانية تغطيتها لأحداث أيلول/سبتمبر حيث قامت بتغطية الاحتجاجات بشكل كبير واستطاعت أن تغلق الفجوة الإعلامية. 

وكذا قطع الإنترنت الذي قامت به السلطات في إيران الأمر الذي جعل الاحتجاجات تستمر لفترة طويلة في إيران نحو ما يقرب من خمسة شهور أو أكثر قليلاً، ولذلك أصبحت في مرمى الجمهورية الإسلامية وتفاقم العداء.

قمع منهجي ضد كل الأصوات 

إذاً، وبحسب وجدان، نستطيع وصف السياسة القمعية الإيرانية تجاه المعارضين السياسيين والإعلاميين بكونها سياسة قديمة ترتبط ببداية الثورة الإسلامية في طهران. إذ قامت بتصفية الكثير منهم المعارضين في فرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا وبلجيكا وبريطانيا وعواصم أخرى منها آسيوية، وأيضا في أميركا اللاتينية، إذ حدثت تلك العمليات مرات في الخارج ومنهم من استدرجتهم إلى الداخل الإيراني.

النساء في إيران الإيرانيات سجن نرجس محمدي النظام الإيراني المرأة الإيرانية
تعد ساحة الإمام في أصفهان واحدة من وجهات السفر الأكثر شعبية في إيران، وهي واحدة من أكبر الوجهات في العالم. (غيتي)

ويتماهى ذلك بالكلية مع ما تم تطبيقه خلال نهاية شهر آذار/مارس مع الإعلامي بوريا زراعتي، الذي يعمل لصالح قناة “إيران إنترناشونال” بالعاصمة البريطانية، رغم أن التحقيقات ما زالت جارية بشأن الكشف عن ملابسات الحادث بغض النظر عن اليد الفاعلة.

إلى ذلك، يختتم الباحث في الشأن الإيراني، وجدان عبدالرحمن، تصريحاته لـ”الحل نت”، بتأكيده أن القمع الذي تتبناه السلطات الإيرانية عبر مؤسساتها في الداخل والخارج هو قمع منهجي ضد كل الأصوات المعارضة.

نفت طهران أي علاقة لها بواقعة طعن مذيع قناة “إيران إنترناشونال” المعارضة بسكين فيما فتحت شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية تحقيقا لكشف ملابسات واقعة الطعن. وكتب القائم بأعمال السفارة الإيرانية في لندن مهدي حسيني متين في منصة “إكس” (تويتر سابقا)، أنه “من الغريب والمثير للتساؤل اتهام إيران علناً بعد 3 ساعات من الحادثة وقبل صدور أي تقرير رسمي للشرطة ومن دون أي دليل”.

من جانبها ذكرت قناة “إيران إنترناشونال” الإخبارية التي تتخذ من لندن مقراً لها أن الصحفي، بوريا زراعتي، الذي يعمل لديها في “حالة مستقرة بعد تعرضه لهجوم بسكين”. وخصّصت شرطة العاصمة ضباطاً من مكافحة الإرهاب نظراً “لعمل الضحية صحافياً في منظمة إعلامية ناطقة باللغة الفارسية مقرّها في المملكة المتحدة” وفقاً لصحيفة “الغارديان”.

من جانبه يشير الباحث في الشأن الإيراني، عمار تاسائي، إلى أن موضوع الطعن بالسكين لبوريا زراعتي الصحفي الإيراني ويقدم برنامج اسمه “الكلمة الاخيرة”، وتم طعنه بالسكين من قبل أشخاص مجهولين، ما تزال ملتبسة وغير واضحة، حيث إن الشرطة البريطانية صرحت بأنها ما تزال تحقق في الحادث. 

بالطبع أصابع الاتهام وجّهت للنظام الإيراني كون أن النظام الإيراني تورّط غير مرة في تهديد بعض الصحفيين بقناة إيران إنترناشونال وصنّفها كمنظمة إرهابية واتّهمها بتحريض المعارضين والمتظاهرين في الداخل الإيراني.

الباحث في الشأن الإيراني، عمار تاسائي

وعلى خلفية ذلك، تم اعتقال شخص من قِبل الشرطة البريطانية قيل إنه كان يجمع المعلومات حول مبنى تلفزيون “إيران انترناشيونال” في لندن. كما سبق وأن استقرت وحدات من الشرطة البريطانية حول مقر القناة. وكل ذلك يحمل رسالة موجّهة من النظام الإيراني إلى كافة الأصوات المعارضة التي تعارض أو تنتقد النظام الإيراني أنه يستطيع الوصول إليهم أينما كانوا وأينما وجدوا.

أدوات “الحرس الثوري”

نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، تصريحاتٍ لافتة من دومينيك ميرفي رئيس وحدة قيادة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن، بأن الضباط “منفتحون بشأن أي احتمال عن دوافع الهجوم”، وأضاف ميرفي أن ذلك “يقترن بحقيقة وجود عدد من التهديدات الموجهة ضد هذه المجموعة من الصحافيينَ”. 

المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، يحضر عرضا عسكريا برفقة قادة “الحرس الثوري” – (فرانس برس)

وقال إنه تم إرسال دوريات إضافية إلى منطقة الهجوم في جنوب لندن، و”مواقع أخرى حول لندن” بوصفه إجراء احترازياً.

من جهتها وصفت ميشيل ستانستريت، الأمين العام لنقابة الصحافيين في بريطانيا الحادث بأنه “هجوم جبان” و”صادم للغاية”.

إلى ذلك يقول أحد قادة المعارضة الموجودينَ في أوروبا، إنه منذ بداية الثورة ولغاية الآن، تشهد إيران مواجهة صِدامية مع القوى المعارضة، سواء كانت معارضة إيرانية، أو تنتمي لباقي الشعوب الإيرانية من كردٍ وأحوازٍ وتركمان وغيرهم، حيث إن هذه الشعوب والبلدان واقعة قسراً تحت سياسات التفريس وتعميم الطائفية الإثني عشرية الشيعية، ويتم تعميم كافة أشكال القمع والعزل والنبذ وسياسات الإفقار والتهميش.

يتابع القيادي المعارض الذي فضل عدم الكشف عن هويته، في سياق حديثه لـ”الحل نت”، بقوله إنه من أجل الحصول على صورة واضحة عن تنوع القوى العسكرية في الانتفاضات الشعبية، يجب أن نعرف أن التعامل مع الاحتجاجات في الجمهورية الإسلامية له طبقتان: استخباراتية وميدانية. 

الطبقة الأولى تدار من قبل وزارة الاستخبارات ومنظمة استخبارات “الحرس الثوري” الإيراني واستخبارات الشرطة، لكن هذا لا يعني أن هذه المنظمات الثلاثة غير نشطة في الطبقة الثانية أيضًا، وخاصة منظمة استخبارات “الحرس الثوري” الإيراني، المسؤولة أيضًا عن التنسيق بين قوات “الباسيج” وبما تسمى قوات شعبية ذاتية مدافعة عن النظام. 

وهذه الأخيرة المسؤولة عما يجري من اعتقال ومكافحة ومداهمة للاحتجاجات عندما تحتاج لها إيران؛ موضحاً أن “القوى التي جاءت إلى الميدان تحت ادعاء الحكومة أنها عفوية عادة ما يطلق عليها اسم الملابس الخاصة في الثقافة السياسية الإيرانية”.

ويردف: “إن القوات الميدانية هي التي تشكّل الأدوات المهمة في التنكيل بالمعارضين و المناوئين للنظام الإيراني وهي مباشرة تحت إشراف الحرس الثوري، بل هي قوات شبه عسكرية مدرّبة في الخارج. فهذه القوات تعمل تحت الإشراف المباشر لفيلق القدس وقد شهدنا بعد الاحتجاجات ضد حكومة بشار الأسد تجمعت باسم القوى الشعبية وتوجّهت إلى سوريا على شكل كتائب مختلفة لقمع المتظاهرين السوريين وهكذا الحال في العراق و اليمن”.

كما أن لهذه القوات والعناصر الأمنية المدرّبة على الاغتيالات، مهمات خارج الحدود تخصّ أشخاص مهمين ومؤثرين، ويشكّلون خطراً على النظام الإيراني من وجهة نظر الملالي، أو بشكل عام على الأمن القومي حسب تعريفاتهم. 

كذلك، قد تستخدم أدوات وعناصر كثيرة، وفق المصدر ذاته، من أجل الوصول إلى أهدافها كالذي حصل مع “المناضل أحمد مولى” و”حبيب أسيود” وغيرهم من باقي الشعوب غير الفارسية وحتى بعض الأفراد المنتمين للأحزاب الفارسية لاغتيالهم أو استدراجهم واختطافهم إلى إيران.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة