لا شيء اسمه قرارات دولية في قاموس ما يسمي نفسه “محور الممانعة” عموماً و”حزب الله” خصوصاً، إذ لا يعترف بالحدود بين الدول ويتصرّف كأنه في زمن يعود إلى ما قبل نشأة الدول والدساتير والقوانين والعدالة، لأن مشروع الثورة الدينية الإيرانية هدفه تصدير الثورة إلى كل العالم، علماً أن هذا المشروع يتمظهر من خلال تنظيماتٍ مرفوضة من شعوبها ومصنّفة عالمياً بالإرهابية ولا تُحسن سوى تعميم الفوضى ونشرها عبر الحروب والموت!

ولا شك في أن نشأة “حزب الله” شابتها عطب أساسي، لأنها لم تكن بخلفيات لبنانية، بل إيرانية منذ قيام الثورة وتحوّلها إلى دولة شيعية تحت راية “الولي الفقيه”. وهي تستخدم شيعتها من أجل خلق نواة عصبية حولها. ومن أجل التخفيف من أثر استخدامها لشيعتها استغلت قضية عربية الطابع بامتياز، أي القضية الفلسطينية، فزايدت بشعار تحرير فلسطين ليصبح أداة تستغلها لترفع تهمة الفارسية.

السلاح أولاً وأخيراً

أعطى سيطرة إسرائيل للبنان عام 1982، الفرصة لإيران لكي تلعب في المساحة الفارغة المستجدة، مستخدمة موقعها العقائدي والإسلامي والشيعي وأموالها لتقوية مرجعيتها الدينية الشيعية المنافسة لمرجعية النجف والتي كانت دائماً راجحة عليها. 

حسن نصر الله حزب الله لبنان إيران النظام الإيراني الحرس الثوري فيلق القدس إسماعيل قآاني إسرائيل لبنان
حسن نصر الله حزب الله لبنان إيران النظام الإيراني الحرس الثوري فيلق القدس إسماعيل قآاني إسرائيل لبنان

هكذا أنشأت “حزب الله” في لبنان، وأوكلت إليه مهمة مقاومة إسرائيل التي كانت الذريعة الأساسية لوجوده، فيما الهدف الأساسي السيطرة على لبنان ونشر عقيدتها “ولي الفقيه”، فعمل “الحزب” إلى استبعاد كل حركات المقاومة الوطنية اللبنانية إما قتلاً أو تهميشاً. 

بل وكرّس نفسه المقاومة الوحيدة، وأوّل احتكاك مع وثيقة رسمية لبنانية وإقليمية ودولية كان اتفاق “الطائف” الذي نصّ على نزع سلاح كل الميليشيات، إلا أن “حزب الله” حينها مدعوماً من التدخل العسكري السوري، رفض تسليم سلاحه. 

فيما قامت كل الميليشيات اللبنانية بتسليم سلاحها إلى الجيش اللبناني، وهذه الإشكالية الأساسية لا تزال مستمرة حتى اليوم، بل تمنع قيام الدولة في لبنان نتيجة عدم امتثال “حزب الله” للدستور اللبناني أو تجاوزه لتحقيق المشروع الإيراني التوسعي.

توالت الأيام وحصلت مواجهات عدة بين إسرائيل و”حزب الله” منذ عام 1990 حتى عام 2000، تاريخ انسحاب إسرائيل من لبنان تطبيقاً للقرار الدولي 425، لكن لبنان رأى أن انسحاب إسرائيل غير كامل وأن مزارع شبعا جزءٌ من الأراضي اللبنانية وعلى القوات الإسرائيلية الانسحاب منها كباقي الأراضي في الجنوب. 

أما إسرائيل فرفضت وبررت عدم انسحابها من المزارع بأنها سورية، علماً أن هذه الإشكالية يُمكن أن تُحلّ بـ 24 ساعة لو تتعاون حكومة دمشق مع الأمم المتحدة فيُرسل وثيقة رسمية إليها تثبت لبنانيتها. إلا أنه يمتنع عن ذلك بالاتفاق مع “حزب الله” ليحافظ على مشروعية سلاحه وإبقاء الصراع مع إسرائيل انسجاماً مع المصالح الإيرانية.

ومن المعروف أن الأمم المتحدة لا تعترف بالشهادات الشفهية كاكتفاء دمشق بالقول أنها لبنانية من دون تقديم وثيقة رسمية، لإجبار إسرائيل على الانسحاب منها! فالأمم المتحدة لم تأخذ بوجهة النظر اللبنانية وبالخريطة المقدّمة من قِبل الحكومة، وأعلنت أن إسرائيل قد انسحبت وطبّقت القرار 425 كاملًا، وإن مزارع شبعا ليست لبنانية بل سورية وتابعة لمسؤولية الـ “اندوف” (UNDOF) وليس لقوات الـ “يونيفيل” (UNIFIL).

محاربة القوات الدولية

بعد مرور بضعة أعوام على تطبيق إسرائيل القرار 425، صدر قرار دولي آخر خاص بلبنان عام 2004 وهو القرار 1559 ، وأهم ما جاء فيه: أولًا انسحاب القوات الأجنبية من لبنان أي الجيش السوري، وبسط الحكومة اللبنانية سيطرتها على كامل أراضيها، ثانياً تفكيك ونزع سلاح “المليشيات” اللبنانية وغير اللبنانية، ويعني به “حزب الله” الذي بات الميليشيا الوحيدة التي تقتني السلاح.

في الواقع نُفّذ البند الأول تحت ضغط دولي كبير، فانسحب الجيش السوري من لبنان عام 2005، إلا أن الدولة اللبنانية عجزت عن إقناع “حزب الله” بتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني، ولا تزال المشكلة قائمة حتى اليوم.

الباحث والكاتب السياسي، الدكتور ميشال الشمّاعي، أوضح لـ”الحل نت”، أن “حزب الله سعى إلى تجزئة القرارات الدولية بحسب مصلحته. وتنفيذها تنفيذاً جزئياً بشكل لا يتعارض مع وجوديّته، لأنّه بكلّ بساطة إذ تمّ تطبيق القرارات الدولية كلّها عندها ينتفي وجوده عسكريّاً، ويُصبح مُلزَماً بالتحوّل الكلّي إلى العمل السياسي”. 

وهذا بالطبع ما يتنافى مع علّة وجوده التي بدأت كذراع عسكري للثورة الإسلاميّة في إيران على الشاطئ الشرقي للمتوسّط، للأهداف الآتية:

1- إيديولوجيّة ترتبط بتأسيس الهلال الشيعي ذات المذهب الصفوي المؤمن بتحوّل عقيدة ولاية الفقيه من الفقه إلى السياسة.

2- ⁠اقتصاديّة لتجد إيران منفذًا اقتصاديًّا على المتوسّط، ولاسيّما إن لبنان دخل في نادي الدول النفطية.

3- ⁠ سياسيّة – دستورية تندرج في سياق تغليب المكون الحضاري الشيعي اللبناني على التركيبة الدستورية اللبنانية عبر تغيير الصيغة الكيانية اللبنانية التعددية التي ما عادت تتّسعه ديموغرافيّاً – كما هو يعتقد- ولا حتى تشبهه فكريّاً وثقافيّاً وحضاريّاً.

ويلفت الشمّاعي، إلى أنه عندما لم تستطع هذه المنظمة التفلّت أو الانقلاب الجزئي على القرارات الدولية، عملت على تهديد الشركاء المفترَضين لها في الوطن، بالترهيب والترغيب. بل إن من يقول ذلك هي المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هي التي أصدرت الحكم المبرَم، والذي بعده تمّ رفع المجرمين إلى مرتبة القداسة من قبل أمين عام هذه المنظمة. 

أمّا من حيث الترغيب فيكفي استرجاع الاتفاق الذي وقع في 6 شباط/فبراير 2006 بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” حيث تمّ نتيجته وهب الجمهورية اللبنانية بالكامل للمنظمة لقاء المكاسب الصورية لبعض مسيحيي التيار تحت ذريعة استرجاع حقوق المسيحيين، وتغطية فساد هذا الفريق في صفقاته من المازوت الأحمر إلى بواخر الطاقة والسدود الفارغة والاتّصالات المقطوعة…”.

معركة وجود

من جهته، يؤكد الكاتب علي حسين باكير، أن “حزب الله” يحاول منذ صدور القرار 1559 تفادياً لمواجهة مع المجتمع الدولي، ترهيب وترغيب القوى السياسية اللبنانية بالتصريح علنًا بأنّه ليس ميليشيا؛ وبالتالي فإن تمّ ذلك فهو يعني أنّ القرار لا ينطبق عليه لانّ القرار يتكلّم فقط عن ميليشيا مسلّحة. 

حسن نصر الله حزب الله لبنان إيران النظام الإيراني الحرس الثوري فيلق القدس إسماعيل قآاني إسرائيل لبنان
جندي إسرائيلي يرتدي رقعة على ظهر سترته الواقية تظهر زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله كهدف، يقف أمام مدفع هاوتزر ذاتي الدفع في الجليل الأعلى في شمال إسرائيل. (تصوير جلاء مرعي/وكالة الصحافة الفرنسية)

لذلك أصبح إبطال لقرار 1559 بالنسبة لـ”حزب الله” معركة وجود، وتحرّكاته تبدو أحيانًا مدروسة ومتوافقة مع المتغيّرات الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، وقد عرف دائمًا أنّ الأحزاب والجماعات الشيعيّة عمومًا هي أحزاب براغماتيّة تستطيع تكييف أقوالها المتعارضة مع أفعالها وأعمالها بما يخدم مصالحها في النهاية ويحافظ على وجودها. 

وبالتالي تمكّن “حزب الله” عن طريق التفاوض غير المباشر مع المجتمع الدولي بصرف نظره عن تطبيق القرار، وهنا بيت القصيد وذروة الفضائح!

واللافت أن مسلسل هروب “حزب الله” من تطبيق القرارات الدولية استمر مع القرار 1701 الذي تبنّاه مجلس الأمن الدولي في آب/أغسطس 2006، وأهم ما دُعى إليه هو إيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني تكون خالية من أيّ مسلّحين ومعدات حربية وأسلحة عدا تلك التابعة للقوات المسلحة اللبنانية وقوات “اليونيفيل”.

إضافة إلى التطبيق الكامل لبنود اتفاق “الطائف” و القرارين 1559 و1680 بما فيها تجريد كل الجماعات اللبنانية من سلاحها وعدم وجود قوات أجنبية إلا بموافقة الحكومة. ومنع بيع وتوفير الأسلحة والمعدات العسكرية إلى لبنان إلاّ تلك التي تسمح بها الحكومة.

لكن هذا القرار لم يطبّق منذ لحظة إبرامه، إذ فور انتهاء حرب تموز/يوليو في 14 آب 2006 استعاد “حزب الله” ترسانته العسكرية جنوبي الليطاني خلافًا للقرار الدولي، فيما كان المطلوب من المجتمع الدولي والحكومة والقوى السياسية أن تحرص على التطبيق الحرفي لهذا القرار. 

وهذا لا يعني أنّ القرار ليس جيّدًا، إنما على العكس، ولكن كان المطلوب تطبيق هذا القرار بمنع “حزب الله” من الدخول إلى جنوبي الليطاني والذي لو طبِّق لما كان الشعب اللبناني يتخوّف اليوم من حرب “تموز” جديدة.

طبول الحرب تُقرع

من الواضح أن هدف “حزب الله” عام 2006 كان وقف إطلاق النار ولو اقتضى الأمر الموافقة على صدور القرار 1701 تحت الفصل السابع، ومن ثم السعي إلى الانقلاب عليه على غرار انقلابه على القرار الحالي، حيث إن الفريق الممانع يتبِّع أسلوب حافة الهاوية. 

الوجه الآخر لـ"حزب الله": استخدام التنظيمات السنية لإنشاء حليف وهمي!
رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي خلال لقاء مع المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوشستين في بيروت في 11 يناير 2024 وسط استمرار التوترات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

بل وفي حال وقع فيها كما حصل مع الحزب في تموز/يوليو 2006 ومع “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي يلجأ إلى سياسة الحدّ من الخسائر بهدف تجاوز اللحظة ومواصلة مشروعه الممانع.

الطريق الوحيد لوقف الحرب الدائرة على الحدود ومنع توسّعها يكمن في تطبيق القرار 1701 الذي لم يطبّق منذ لحظة صدوره، وما لم يطبّق اليوم وفوراً فيعني أن الحرب جنوباً ستتواصل مع انعكاساتها السلبية على كل شيء في لبنان ومع مخاطر توسعها إلى حرب شاملة.

وهذا ما يؤكّده الوزير السابق ريشار قيومجيان لـ”الحل نت”، معتبراً أن عدم التزام “حزب الله” بتطبيق القرار 1701 يُعرّض لبنان إلى الخطر، أما التزامه بقواعد الاشتباك فلا يعني شيئًا، لأن إسرائيل تجاوزت قواعد الاشتباك، وهناك احتمال كبير لتطوّر الحرب وتوريط لبنان بحفلة عنف وموت جديدة. 

ويضيف الوزير قيومجيان: “المضحك المبكي أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يُطالب بتطبيق القرارات الدولية والالتزام بالقانون الدولي، إلا أن ما تفعله طهران وأذرعها العسكرية لا يشبه الالتزام بالقرارات الدولية، وفي مقدّمها القرار 1701، إذ حوّلت إيران الحدود الجنوبية اللبنانية إلى حدود إيرانية تخدم مصالحها بواسطة حزب الله”.

ويشير قيومجيان، إلى أن “حزب الله” لديه مشروع وهو يهرب من أي شيء يعيق مشروعه وخصوصاً القرار 1701 الذي يطالبه بالانسحاب من جنوب الليطاني، مع ذلك، يتمتع “الحزب” بالبرغماتية، فإذا ضغطت عليه إيران قد ينسحب ويكون قد جنّب لبنان حربًا تدميرية واسعة. 

لكن المشكلة ستبقى قائمة والسؤال: ما العمل بالسلاح المنتشر في شمال الليطاني؟ وهل لا يزال هناك مبرراً لسلاحه؟. وهنا يجيب قيومجيان: “قبل مطالبة حزب الله بتطبيق القرارات الدولية، عليه أن يُطبق اتفاق الطائف الذي يُلزمه بحل تنظيمه المسلّح وتسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية”.

أحد الأوجه الأساسية للأزمة اللبنانية عدم تطبيق الدستور والقرارات الدولية، وحان الوقت لإنهاء هذا الوجه حمايةً للبنان والشعب اللبناني بالانتقال من الميوعة إلى الجدية ومن عدم التنفيذ إلى التنفيذ بدءاً من القرار 1701 الآن، وصولًا إلى القرار 1559.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة