مع الأوضاع الإقليمية الراهنة، ورغم ثبوت الخطوط الميدانية التي تحدد التقاطعات ومناطق النفوذ في سوريا، فإن خطوة الرئيس السوري بشار الأسد لتدشين ما يُعرف بـ”الأمن العام السوري” في إطار يبدو ظاهريا إعادة هيكلية للجهاز والقطاع الأمني، رسالة أكثر من كونها تشي بأي أمر آخر. 

فالنظام القائم منذ خمسة عقود يعتمد على الأذرع الأمنية والعسكرية والميلشياوية في فرض نفسه والسيطرة، ويجد نفسه مع الانفتاح على محيطه الإقليمي العربي وتلقيه دعوة ثانية لحضور اجتماعات القمة العربية راغباً في بعث رسالة مفادها أنه يُحكم سيطرته على القطاع الأمني ويفرض هيمنته ومن ثم يقوم بإصلاحات.

غير أن الواقع وارتهاناته في الداخل السوري وعلى المستوى الإقليمي ربما يبدو أكثر تعقيدا من توهّمات الأسد، لا سيما أن التحديات تتخطى طموحاته في ظل الاحتلالات التي استدعاها لدمشق لتمكينه من السلطة، وحماية سلطاته التي باتت هشّة وصورية. 

بين طموحات الأسد والواقع

مثلما تتوزع أو بالأحرى يتقاسم النفوذ في سوريا كلّاً من إيران وروسيا من الناحيتين السياسية والأمنية العسكرية، فإن ذلك ينعكس بصورة مباشرة على الكيانات الأمنية التي تتعاطى مع طهران وموسكو وتحظى بوضع رعائي وامتيازات تجعلها لا تنظر لـ”الأسد” سوى في إطار “سيدي الرئيس” من دون أثر للسيادة أو الرئاسة على الواقع.

استقبال الرئيس السوري بشار الأسد للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي - إنترنت
استقبال الرئيس السوري بشار الأسد للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي – إنترنت

فالمخابرات الجوية والعسكرية أو المخابرات العامة المرتبطة بمكتب الأمن الوطني وصلاته بالحزب البعثي، وكذا الأمن السياسي في تبعيته لوزارة الداخلية، مرورا بالفرقة الرابعة وغيرها من التشكيلات الأمنية العسكريتارية، لم تعد هي على حالها قبل اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011.

على الأرجح أن خطوة الأسد التي تستهدف تأكيده أنه ينفرد بقبضته ونفوذه على القوى الأمنية، تسبق محاولة تمريره فكرة الإصلاح المستحيلة.

إذ إن اقترابه من عمل كهذا يجعل القوى الأمنية بامتيازاتها وتحالفاتها وارتباطاتها المختلفة أمام تهديد وجودي بما قد يسبب تصدّعاً أمنياً يهدد الاستقرار المؤقت والمحدود الذي يحظى به النظام والحكومة بدمشق، لا سيما أن المنافسة بين الأفرع الأمنية قائمة في الخفاء والعلن سواء قبل آذار/ مارس عام 2011 أو بعدها وقد تفاقمت لحدود قصوى. 

وهذه المنافسة تبرز من خلال المواقع التي تتعين فيها الأجهزة الأمنية كالمخابرات الجوية، ولها دور متسيّد في بعض المناطق بحلب بينما تنتشر قوات “الفرقة 25” أو ما تُعرف بقوات “النمر” وهي رغم تبعيتها الاسمية للجيش السوري لكن شراكتها أوسع مع روسيا لدرجة وجود الأخيرة في الحرب بأوكرانيا وفق “نيويورك تايمز” في تقرير سابق. 

ولا يختلف الأمر كثيراً مع الفرق والعناصر والقوى الأمنية الأخرى والتي تتنقل في تبعيتها بين القوى المهيمنة عمليا، كما هو الحال مع الفرقة الرابعة وقد ارتبطت باسم ماهر الأسد وصلاتها المباشرة بـ”حزب الله” وإيران؛ حيث تتموقع في المناطق المتاخمة للحدود مع لبنان ولها نشاط في عمليات التهريب المختلفة من السلاح إلى “الكبتاغون”.

إعادة عقارب الساعة إلى الوراء

ومثلما تحظى الفرقة الرابعة برعاية طهران والقوى الولائية، فإن روسيا تبتلع “الفيلق الخامس” رغم تبعيته الشكلية لوزارة الدفاع لكنه ينتشر مع القوات الروسية وبخاصة في مواقع عدة بدير الزور، فضلا عن دوره في حماية قاعدة “حميميم” الروسية، ويحصل على موارده المالية من موسكو كونه ضمن أذرعها التي تحمي مصالحها في سوريا وعلى ساحل المتوسط.

رئيس مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك (إلى اليمين) يجتمع مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني في طهران، في 27 شباط/فبراير 2022. (تصوير إحسان نادريبور/وكالة الصحافة الفرنسية)

وقد سبق لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أن كشف عن صراع خفي في محافظة درعا “بين الفيلق الخامس الذي أنشأته روسيا من جانب، والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري من جانب آخر”، وسبب ذلك الصراع “المحاولات المستمرة من كل جانب لفرض نفوذه الكامل على درعا، فبعد أن ثبتت قوات الفيلق الخامس نفوذها وباتت القوى الأكبر على الأرض هناك، عادت الفرقة الرابعة إلى الساحة مؤخراً”.

ووفقاً لمصادر “المرصد”، فإن الفرقة الرابعة تسعى لاستقطاب الرجال والشبان وخاصة المقاتلين السابقين لدى الفصائل مقابل رواتب شهرية وإغراءات أخرى، واستطاعت استقطاب دفعة مؤخراً تضم العشرات وجرى زجّهم على الحواجز بعد إخضاعهم لدورات عسكرية بريف درعا الغربي. 

في المقابل لا تزال كفّة الروس راجحة عبر “الفيلق الخامس” الذي يضم مقاتلين سابقين لدى الفصائل ممن رفضوا التهجير وأجروا “تسوية ومصالحة”.

وبالتالي، يبقى موقف الأسد من هيكلية نظامه الأمني كمن يدور حول نفسه أو يصعد نحو الفراغ، بعبارة واحدة موقف من دون أفق. إذ نقلت مصادر لصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، إن ذلك التخطيط يأتي ضمن “عملية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في سوريا، التي بدأتها الرئاسة السورية مطلع العام الجاري”. 

ولفتت الصحيفة، إلى أن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتنسيق عملها واحد من التحديات التي تفرض نفسها على دمشق بعد التطورات التي شهدها العام الأخير، مع بدء عودة علاقاتها مع المحيط العربي، واستحقاقات معالجة ملفات مكافحة الإرهاب، وتهريب المخدرات، وأمن الحدود مع دول الجوار، لا سيما الأردن والعراق.

وبحسب الصحيفة: “كان موقع صوت العاصمة المحلي، قد نقل عن مصادر وصفها بـالموالية، أن دمشق بصدد حلِّ شعبة الأمن السياسي وإدارة الأمن الجنائي والشرطة خلال الأيام المقبلة، ودمجها في جهاز جديد يتبع لوزارة الداخلية تحت مسمى (الأمن العام السوري)”. 

وقال الموقع، إن تلك الأنباء جاءت بعد يوم واحد من “صدور قرار مماثل نصّ على حل شعبة الاستخبارات العسكرية وإدارة المخابرات الجوية ودمجهما في جهاز جديد حمل اسم (مخابرات الجيش والقوات المسلحة)”.

يشار إلى أن الرئيس بشار الأسد ترأس اجتماعاً لقادة الأجهزة الأمنية في الجيش والقوات المسلحة، مطلع العام الجاري، بعد تغييرات أمنية مفاجئة طالت مراكز أمنية حساسة في سوريا، حيث تم تعيين اللواء علي مملوك مستشاراً لرئيس الجمهورية للشؤون الأمنية، وتعيين اللواء كفاح الملحم، خلفاً له في رئاسة مكتب الأمن الوطني، فيما نُقل اللواء كمال حسن من رئاسة فرع “فلسطين”، ليصبح رئيساً لشعبة المخابرات العسكرية خلفاً للواء كفاح الملحم. 

فيما توصّل الاجتماع الذي عقده الأسد مع قادة الأجهزة الأمنية إلى وضع “خريطة طريق أمنية وفق رؤى استراتيجية تحاكي التحديات والمخاطر الدولية والإقليمية والداخلية”، حسب ما جاء في بيان للرئاسة بعد الاجتماع. 

نوايا وطموحات الأسد

ناقش الاجتماع الأخير، الأثر المرتقب لإعادة الهيكلة الجارية في المجال الأمني، وتطوير التنسيق بين الأجهزة، بما يعزز أداء القوات الأمنية في المرحلة المقبلة، وكذلك “تطوير أدوات مكافحة الإرهاب بعد النتائج المهمة التي تحققت خلال السنوات الماضية”.

إيران أم السرطان من قتل ماهر الأسد؟ (5)
بشار الأسد (وسط)، وشقيقه الأصغر ماهر (يسار) شوهدوا في جنازة والدهم حافظ الأسد في 13 يونيو 2000. (رويترز)

كما شدد الأسد، وفقاً للبيان على “الدور الاستباقي والوقائي للأجهزة الأمنية في محاربة التنظيمات الإرهابية والتعقب الدائم للخلايا التي تحاول الإضرار بأمن الوطن وسلامته”.

وألمحت الصحيفة إلى ما تزامن مع تلك الخطوات من صدور قرارات تتعلق بتبسيط الإجراءات الأمنية، لا سيما منح الموافقات الأمنية؛ منها تعميم بالإبقاء على الموافقة الأمنية الخاصة بالبيوع العقارية والوكالات العامة الداخلية، مع تسريع فترة البت بها، لتصبح يومين بدل أن تكون مدة غير معلومة. 

أيضا إلزام الجهة المختصة بمنح الموافقة تقديم أسباب عدم الموافقة بهدف إفساح المجال أمام صاحب الطلب مراجعة الجهات المعنية ومعالجة وضعه أصولاً. كما أن الموافقة الأمنية باتت شخصية لا عائلية.

المعارض السوري، فاتح جاموس، يشير إلى غموض ما تم تداوله في الصحف المختلفة بشأن هيكلية الجهاز الأمني، موضحاً لـ”الحل نت”، أن “السلطة السورية تريد من ذلك بصورة أساسية خلق إيهامات غير واقعية وغير حقيقية مفادها أنها جادة في إجراء تغييرات في بنيتها وتوجّهها لملاقاة عمليات التطبيع التي تتم مع الدول العربية، وكذا الحوارات المحتملة مع تركيا”.

ويقول جاموس، إن قمة الهرم السلطوي في كل مرة تؤدي لـ مآلات ونتائج مشابهة، حيث فرض سلطة الأمر الواقع من خلال “مراكز القوى”. ويردف: “وكل هذا فعليا نوع من إعادة صياغة السلطة وإعادة إنتاج ذاتها على أسس مشابهة للسابق تحديدا النمط الديكتاتوري وتركيز الوجه القمعي فيه”.

ويفترض المصدر ذاته ضرورة أن يكون هناك “حوار مجتمعي ومشاركة للقوى المختلفة في حوار يجعل للسلطة التي فَقَدَ المواطنون في ظل حكمها القسري أيّ أمان سياسي أو مجتمعي أو اقتصادي وغيره، الأمر الذي يجعل أي دعوات ينظر لها على نحو سلبي”. 

حجم المشاعر السلبية العميقة بحسب جاموس، في أوساط الكتلة الشعبية تجاه الأجهزة الأمنية بشكل خاص جهاز الامن الجنائي وأمن القوى الجوية وبعد ذلك ربما جهاز الأمن السياسي وجهاز مكافحة الشغب. أي كل الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية. وبالطبع يزيد الفساد بعد القمع من كراهية الناس لهذه الأجهزة على الخصوص.

السيادة والرئاسة في سوريا

حقيقة في سوريا لم يكن هناك أفرع أمنية لحماية الوطن ومواطنيه، وفق الكاتب السياسي السوري، دوريش خليفة، بل كان يوجد أذرع ذات نفوذ يعمل كل منها لصالح جهة معينة وتتنافس فيما بينها على إذلال الناس، مثل المخابرات الجوية والأمن العسكري اللذان ينبثقان عن الجيش والقوات المسلحة، والأمن السياسي المنبثق عن وزارة الداخلية، وأمن الدولة وغيرها لابتزاز السوريين إذا فكر السوريون لمجرد التفكير بانتقاد إدارة البلاد والفساد المستشري في الدولة ومؤسساتها.

صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: "إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد". (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)
صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: “إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد”. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

اليوم الأسد يقوم بضبط وهيكلة أجهزته الأمنية، واستبعاد كل من الضباط الصقور الذين وقفوا معه في حربه على الشعب السوري، بحسب خليفة في حديثه لـ”الحل نت”، موضحا أن ذلك “بهدف إظهار تغيير في بنية السلطة وأن هناك قيادة مرنة لديها القدرة على التناغم مع المتغيرات الإقليمية والدولية”. 

هذا يعود إلى ترتيبات الحل السياسي والتماشي مع القرارات الدولية، ظنّاً من بشار الأسد، أنه بهذه الطريقة يمكن رفع بعضٍ من العقوبات التي فرضتها الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأميركية.

ويردف درويش: “الأسد يعلم أن العقوبات شخصية وتستهدف الأفراد. لذا استبعادهم يمكن أن يؤدي لتعاون أشمل معه وإعادة تعويمه وفق الخطة الموضوعة من قبل لجنة الاتصال العربية، ما تسمى بالـ خطوة مقابل خطوة”. 

أخيرا، يجزم الكاتب السياسي السوري، أن الأسد وحكومته الحالية غير قابلة للإصلاح والتغيير، فهو وفقا للتقارير والأعراف الدولية التي صدرت منذ عام 2012 والتي أكدها بيان الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي في آذار/مارس الجاري، مجبولاً على القتل والعنف وإرهاب كلّ من يزعزع استقراره.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات