على غرار حادثة “قاعة الخلد” أو ما تُعرف باسم “مجزرة الرفاق” التي قام بها صدام حسين لتطهير حزب “البعث” عام 1979، بعد ستة أيام من وصوله إلى منصب الرئاسة في العراق، مما أدى إلى فشل الوحدة بينه وبين حزب “البعث” السوري بقيادة حافظ الأسد، يبدو أن الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، يكرر ذات السيناريو.

جملة من التطورات الجديدة داخل المنظومة السياسية والأمنية في دمشق تكشف عن رغبة بشار الأسد في حماية سلطته من حلفائه – الإيرانيين والروس. فحاليا القصر الجمهوري يتولى الترويج لمشروع إعادة الهيكلة الأمنية كهدفٍ لهذا التوجه.

سوريا: الأسد والجيش يضعان خريطة

مع الحديث عن اتصالات استخباراتية بين حكومة دمشق ومصر للتحضير لزيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي إلى دمشق خلال الشهرين القادمين، ظهرت تسريبات بأن هذه ‏الاتصالات تناقش ملفات متعددة بينها تسوية سورية تكون جزء من تسويات المنطقة؛ لكن حتى الآن لا يوجد مسار عمل معتمد بل مناقشات تشمل أيضا الجانب التركي.

صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: "إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد". (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)
صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: “إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد”. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

معضلة الأسد، كيف يفلت من قبضة إيران وروسيا، كانت الفرضية التي طُرحت بعد أن أعلن الرئيس السوري، الذي يحكم البلاد منذ عام 2000، والذي يواجه وينجو من حرب أهلية وتدخّلٍ وعزلٍ إقليمي ودولي، منذ عام 2011، عبر وكالة “سانا” الرسمية، لقاء لأول مرة بأجهزته الأمنية. 

هذه الفرضية التي بناها كوكبة من المحلّلينَ السياسيينَ، طرحت أن اجتماع الأسد جاء لمناقشة وتخطيط لاستراتيجية خروجه من الحضن الإيراني والروسي، الذي كان يدعم ويديم نظامه وسلطته، لكنه كان أيضاً يحدّ ويتحكم في سياساته وقراراته.

الرئاسة السورية، قالت أمس الخميس، إن بشار الأسد عقد اجتماعاً مع عدد من قادة الجيش لوضع خريطة طريق أمنية تحاكي التحدّيات والمخاطر الدولية والإقليمية والداخلية. وذكرت الرئاسة، في بيان أن الاجتماع، الذي حضره رئيس مكتب الأمن الوطني ومستشار الشؤون الأمنية في الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، علي مملوك الذي روّجت وسائل إعلامية روسية وإيرانية أنه يعاني من وعكة صحية بعد عزله من منصبه.

بحسب البيان، فإن الاجتماع تركّز حول “الأثر المرتقب لإعادة الهيكلة التي تجري في المجال الأمني وتطوير التنسيق بين الأجهزة، بما يعزز أداء القوات الأمنية في المرحلة المقبلة، وكذلك تطوير أدوات مكافحة الإرهاب”.

اللقاء عُقد في القصر الجمهوري بدمشق، بحسب مصادر لـ”الحل نت”، حضره الأسد وكبار المسؤولين الأمنيين والمخابراتيينَ الموثوقين لديه، مثل علي مملوك المستشار الأمني، وكفاح ملحم رئيس مكتب الأمن الوطني، وكمال حسن رئيس شعبة المخابرات العسكرية، و ديب زيتون رئيس مديرية المخابرات العامة. 

مرحلة التنازع بدأت!

أول مبدأ تم مناقشته هو التدخّلات والعزلة الإقليمية والدولية، التي تهدد وتتحدى النظام والسلطة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، حيث أخطر الأسد أن مشروع إعادة الهيكلة الأمنية، وهو جزءٌ ونتاجٌ لاستراتيجية الخروج، والذي من المتوقع أن يعزز الحدّ من وحل المشاكل والأزمات الأمنية والسياسية التي تواجه دمشق، كالفساد والانشقاق والاغتيالات، داخل وبين الأجهزة الأمنية، وشخصيات عسكرية وسياسية، من النظام والسلطة.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري بشار الأسد ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يزورون مقر القوات الروسية في العاصمة السورية دمشق. (تصوير أليكسي نيكولسكي/وكالة الصحافة الفرنسية)

استراتيجية الخروج من الحضن الإيراني والروسي، ومشروع إعادة الهيكلة الأمنية، تقوم وتبني على العناصر والخطوات، منها تنويع وتوازن العلاقات والشراكات مع الجهات والقوى الإقليمية والدولية، التي انخرطت في الصراع والأزمة السورية، والتي ظلت تتابع وتقترح مختلف الحلول والمبادرات لإنهاء وحلّ الأزمة، مثل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. 

ويسعى الأسد إلى استعادة وتحسين العلاقات والحوار مع هذه الجهات والقوى، وتخفيف وحلّ التوترات والصراعات معها، من خلال تقديم ووعدها ببعض التنازلات والإصلاحات، مثل الانتقال السياسي، والتعديل الدستوري، والانتخابات، مقابل بعض الحوافز والمزايا، مثل الاعتراف وشرعية وسيادة السلطة الحالية، ورفع وتخفيف وتعليق العقوبات والضغوط والعزلة على الأسد وحكومته.

أيضا، تقليل والحدّ من التبعية والاعتماد على إيران وروسيا، ومصالحهما وأجندتهما، في الصراع والأزمة السورية، وفي السياسات والمواقف السورية، في المنطقة والعالم، حيث سيسعى الأسد إلى النأي بنفسه عن إيران وروسيا ونفوذهما وتدخّلهما في الشؤون والقضايا السورية، كالعسكرية والدفاع، والاقتصاد والتنمية، والأمن والمخابرات، والدبلوماسية. فسياسة الأسد في سوريا حاليا، هي التأكيد واستعادة سلطته واستقلاله.

نظام برلماني لحلّ المسألة السورية

مع اتهام الأردن لدمشق بأنها غير قادرة على ضبط حدودها رغم التنسيق بين الطرفَين منذ أكثر من نصف عام، يبدو أن الأسد ذاهب نحو تهيئة النظام الداخلي للسلطة السياسية والعسكرية في سوريا لنزع ما سيتم خسارته لاحقا، لا سيما بعد أن انطلقت منذ أيام مبادرة روسية تركية، تحمل اتفاقاً متبادلاً لإقناع أطراف الصراع بمرحلة جديدة.

لماذا يجب على إيران التخلي عن بشار الأسد في عام 2024؟ (7)
ينتظر السوريون إطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية، في 3 أيار 2022 وسط مدينة دمشق، بعد صدور عفو عام من الرئيس السوري. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

هذه الخطوة، يناقشها المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، ووزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، تهدف لإقناع طرفي الصراع السوري بمشروع جعل البلاد محكومة بنظام برلماني. 

على اعتبار أن هذا الطرح بديلاً واقعياً ممكناً لتسوية الملف السوري أمام حالة الجمود الراهنة، تشترط المبادرة تسليم تركيا كلاً من طريقي (M5/M4) للجيش السوري، مقابل تغاضي روسيا عن استيلاء تركيا على باقي الشريط الحدودي من “قوات سوريا الديمقراطية”، كما لا تمانع روسيا من استيلاء تركيا على مدينة حلب في حال اتفقت مع الإيرانيين حول ذلك.

فكرة النظام البرلماني تأسست في بريطانيا، حين خسر الملك “جان سان تير” أمام الفرنسيين، لينهار الاقتصاد البريطاني، ويتم دخول النبلاء “اللوردات” للمساعدة، الأمر الذي ساعدهم لاحقاً في فترة أسرة “دي هانوفر” الألمانية لإيجاد منصب رئيس الوزراء، والذي يتم تفويضه من الملك بمزيد من الصلاحيات، ليتدرّج النظام البرلماني بعد القرن العشرين نحو أحادية المسؤولية من قِبل البرلمان على أعمال الحكومة، بينما يتمتع منصب الرئاسة بصلاحيات محدودة.

كما ويتميز النظام البرلماني بعلاقة ندّية بين البرلمان والحكومة، أي السلطتَين التشريعية والتنفيذية، فالحكومة تنبثق عن البرلمان ويملك البرلمان الصلاحية على محاسبة تلك الحكومة، والتي تمتلك استقلالية كاملة. 

بالمقابل في حال عدم قدرة البرلمان على الاستمرار بتلك العلاقة، فيمكن للحكومة إسقاط البرلمان والدعوة لانتخابات برلمانية جديدة، وبالتالي نحن أمام حالة تداخل سلطوي لا يمكن لطرف منه أي يتفرد بالسلطة، وهذا ما يقلق الأسد.

الأسد و”لحظة السوفيات” المصرية

جميع الإرهاصات السابقة، تثير تساؤلات حول أن الأسد قرّر التخلي عن المستشارين الإيرانين كما أبعد السادات “الخبراء السوفييت” قبل نصف القرن؟ وهل هذا يعني أن دمشق انتقلت من اللعب بين حبلي طهران وموسكو إلى وضع بيضها في السلة الروسية- العربية؟

بشار الأسد في القمة العربية التي عقدت بمدينة جدة بالسعودية – إنترنت

رئيس تحرير “المجلة” الصحفي السوري، إبراهيم حميدي، يشير إلى أن سوريا 2024 ليست أمام “لحظة السوفيات” المصرية عندما قرر الرئيس محمد أنور السادات طرد آلاف الخبراء وأحدث تحوّلا استراتيجيا انتقل فيه إلى الضفة الأميركية في 1972.

أراد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن يحصد ثمار اختراقاته من خلال زيارة رسمية نهاية العام الماضي، بهدف تأكيد التنازلات السيادية كتعويض عن الخسائر في الدماء والأموال والنفط، وتأجلت هذه الزيارة أكثر من مرة، نظراً لرفض الرئيس بشار الأسد الموافقة على مسودات اتفاقيات طلبها ضيفه، الذي كان يسعى لتحقيق تفاهم بعد سنوات من التوترات. 

ومع ذلك، جاءت الزيارة في أيار/مايو الماضي، وذلك بالتزامن مع هجمة من جهة التطبيع العربي، حيث شارك الأسد في القمة العربية في جدة السعودية في نفس الشهر.

بعد هجوم “حماس” في السابع من تشرين الثاني/أكتوبر الفائت، رفضت دمشق الانصياع للطلبات الإيرانية، كما لم ترحّب علناً بالهجمات، ومع قرب موعد زيارة السيسي بزيارة غير مسبوقة لدمشق، تكثّفت جهود سرّية لإنجاز صفقة: منع طهران من استخدام مطار دمشق في نقل شحنات أسلحة إيرانية وتفكيك مخازن عسكرية إيرانية في المطار، مقابل توقف إسرائيل عن قصف المطار وإحراج دمشق.

الباحث في مركز “القارات الثلاث” للدراسات، أحمد الحسن، يرى أن الأسد يمرّ حاليا بمرحلة التنازع مع حلفائه أكثر من خصومه، ويعمل على الخروج من الحضن الإيراني والروسي؛ لأنه بات يرى فيهم تهديداً على سلطته.

بالنسبة للأسد، فقد انتقل خصومه من مرحلة تهديد سلطته إلى مرحلة الواقعية السياسية، ويرى أن ما ينقصهم فيها فقط هو كيفية إقناع جمهورهم الرافض لهذا التوجه، أمّا حلفاء الأسد فقد انتقلوا من مستوى القلق على ذهاب السلطة وذهاب مصالحهم معها إلى مستوى القلق من عودة قوتها ورفضها تنفيذ الاتفاقيات التي وقّعتها وقت ضعفها؛ ولذلك عملوا على تفتيت سلطتها المركزية واحتراق أجهزتها والتحكم بها.

لذلك وفق الحسن، تسعى دمشق للّعب على حلفائها أكثر من خصومها، وتسعى إلى توريطهم في ملفات ذات حساسية إقليمية ودولية لتعزيز خطورتهم على العالم، ومن خلال ذلك تضمن تعاون بعض خصومها ضد حلفائها السابقين، فاللعبة الآن اختلفت قواعدها وأدواتها أيضا.

وهنا يؤكد حميدي، أن سوريا الحالية -المقسّمة والمدمّرة والضائعة والنازحة- ليست مصر التي ورثها السادات وخاض معها “حرب أكتوبر”؛ ‏لكن شيئا ما يحصل، وخصوصا اللاعب الإيراني في الملعب السوري، بعد الشرارات الخطرة التي رماها بعض خبراء طهران في لهيب الشرق الأوسط.

استراتيجية الخروج من الحضن الإيراني والروسي، ومشروع إعادة الهيكلة الأمنية، أحداثٌ مهمّة وغير مسبوقة، لها دلالات وتبعات على المنطقة والعالم. ليس من الواضح ما إذا كانت استراتيجية الخروج ومشروع إعادة الهيكلة الأمنية مؤشراً على تغيير جديد أم تحدٍّ جديد، وما إذا كانا سيجلبان السلام والاستقرار أم حرب جديدة وفوضى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات